كان من أول الوعود التي أطلقها وزير الخارجية الإسرائيلي الجديد يائير لبيد، الذي هو أيضاً رئيس الحكومة البديل، هو الوعد بتحسين العلاقات بين إسرائيل والحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة في ظل الحكومة الجديدة. وجاء هذا الوعد خلال اللقاء الذي عقده لبيد يوم 27 حزيران الفائت مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في العاصمة الإيطالية روما. وقال لبيد في تصريحات لوسائل الإعلام: "في الأعوام الأخيرة ارتُكبت أخطاء كثيرة وتضررت مكانة إسرائيل بين الحزبين في الولايات المتحدة، ونحن سوف نصلح هذا سوية. لا توجد علاقة لإسرائيل أهم من علاقتها بالولايات المتحدة، ولا توجد صديقة مخلصة للولايات المتحدة أكثر من إسرائيل. إن وزير الخارجية الأميركي وأنا نمثل حكومتين جديدتين، لكن هناك تقاليد طويلة المدى من الصداقة الوثيقة والتعاون، وفي الأيام الأخيرة تحدثت مع مجموعة من القادة الديمقراطيين والجمهوريين وذكرت لهم أن إسرائيل تشترك معهم في القيم الأميركية الأساسية: الحرية والديمقراطية والسعي المستمر لتحقيق السلام."n واضح أن وزير الخارجية يحمّل رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق بنيامين نتنياهو مسؤولية تراجع العلاقة مع الحزب الديمقراطي الأميركي لأسباب كثيرة، قد يكون أهمها قلب ظهر المجن للموقف الإسرائيلي التقليدي الذي حافظ على المسافة نفسها من الحزبين، من خلال تأجيج موقف معادٍ للحزب الديمقراطي ولا سيما إبان ولاية الرئيس السابق باراك أوباما، تطوّر فيما بعد إلى موقف منحاز إلى الحزب الجمهوري خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب.
وما زلنا نذكر كيف أن الناطقين بلسان نتنياهو وحكمه فتحوا النار على فترة حكم أوباما فور انتهائها ثم عند مقارنتها بفترة حكم ترامب.
وبرأي هؤلاء تميزت وجهة نظر أوباما، كما برز في كتاباتهم، بالمبادئ العشرة التالية:
1. انتهاء عصر التفرد والاستثنائية الأخلاقية، العسكرية والردعية، الأميركي.
2. الإحجام عن إطلاق عملية سياسية أو عسكرية أميركية من جانب واحد وتفضيل الانخراط في أطر دولية.
3. اعتبار الأمم المتحدة جسماً رائداً في بلورة وتصميم الساحة الدولية.
4. الاعتراف بأوروبا المتصالحة والمبتعدة عن المواجهات وعن استخدام الخيار العسكري كنموذج يُحتذى.
5. تبني منظور مؤسسة وزارة الخارجية المنفصل، عادة، عن الواقع المركّب في الشرق الأوسط وعن المزاج الوطني السائد في الشارع والكونغرس الأميركيين والأقرب إلى المزاج الكوني السائد في وزارة الخارجية البريطانية.
6. التفاوض، الصلح والاحتواء وليس الصدام والإخضاع، كوسائل أساسية رائدة في العلاقات مع أنظمة خارجة عن القانون (كما في حالة الاتفاق النووي مع إيران).
7. اعتبار الإسلام والمنظمات الإسلامية حلفاء محتملين وليس خصوماً وأعداء قتلة.
8. حظر استخدام تعبير "إرهاب إسلامي".
9. النظر إلى القضية الفلسطينية بوصفها جذر الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وبؤرة الهزات في الشرق الأوسط، وبؤبؤ العين العربية.
10. الفرضية القائلة بأن التسوية أو الحل وليس إدارة الصراعات هو المسار الواقعي والمفضّل لتقليص الهزات في الشرق الأوسط.
غير أنه خلافاً لوجهة نظر أوباما هذه، يهتدي ترامب بجملة مختلفة تماماً من المبادئ هي، كما ورد في كتابات أنصار نتنياهو، التالية:
1. التطلع إلى "إعادة الولايات المتحدة إلى سابق عظمتها ومجدها" عن طريق تحسين وضع الاقتصاد، الدفع نحو الاستقلال النفطي وزيادة ميزانية الأمن.
2. استقلال السياسة الخارجية، الأمنية والتجارية الأميركية، وعدم الارتباط بقرارات وإجراءات متعددة القوميات.
3. الاعتراف بعدائية الأمم المتحدة تجاه الولايات المتحدة وبالتأثير المحدود لهذه المنظمة على الحلبة الدولية.
4. التحفظ العميق والغاضب على الأداء السياسي، الأمني والتجاري الأوروبي (ومن جانب حلف "ناتو" أيضاً)، في مقابل توثيق التعاون مع الدول الحليفة للولايات المتحدة، وفي مقدمها إسرائيل.
5. انزياح حاد عن وجهة نظر مؤسسة وزارة الخارجية وتبني المزاج الوطني السائد لدى غالبية الجمهور الأميركي، وخاصة لدى سكان المدن الصغيرة.
6. الصدام والردع وعدم القبول في مقابل أنظمة خارجة عن القانون، كما يتجسد هذا في الانسحاب والتنصل من الاتفاق النووي مع إيران وفرض عقوبات غير مسبوقة في حدتها على نظام الملالي.
7. الوعي بمكانة الولايات المتحدة وصورتها بوصفها "الشيطان الأكبر" في نظر الملالي في إيران وجهات إسلاموية أخرى.
8. الاعتراف بأن الإرهاب الإسلامي يشكل خطراً جلياً وفورياً على الولايات المتحدة وحلفائها.
9. القول إن القضية الفلسطينية لا تشكل أساس الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وليست عاملاً مركزياً في تصميم الشرق الأوسط ولا هي بؤبؤ العين العربية.
10. الهدف القابل للتحقيق في الواقع الشرق أوسطي الراهن ليس حل الصراعات وإنما إدارتها، من خلال الإقرار بطابع الشرق الأوسط المتقلب، غير المتسامح والعنيف، وهو المنطقة الحيوية جداً للدفع قدماً بمصالح الولايات المتحدة.
ومع ذلك فإن الاستنتاج الذي خلص إليه لبيد فيما يتعلق بمسؤولية نتنياهو عن دهورة العلاقات بين إسرائيل والحزب الديمقراطي، لا يكفي لوحده من أجل تأطير ماهية العلاقة الحالية بين الجانبين، والتي تشهد تحولات شفّت عنها عدة صيحات سبق أن توقفنا عندها أكثر من مرة. وهذا ما أشارت إليه الكثير من التحليلات الإسرائيلية، ومن آخرها تلك التي قدمت قراءة للموقف الأميركي إزاء الهبة الفلسطينية الشعبية الأخيرة وخصوصاً حيال الحرب على غزة. وهو موقف خضع بكيفية ما إلى عدة عوامل، من ضمنها ضغوط تمارسها بعض الأوساط الراديكالية في الحزب الديمقراطي على الإدارة الأميركية الحالية لتغيير مقاربتها حيال القضية الفلسطينية إلى ناحية التخفيف من غلواء الانحياز إلى إسرائيل وسياستها.
ولا شك في أن هذه التحولات ستنطوي على تأثير في العلاقات الثنائية لم تظهر مؤشراته الكاملة بعد في هذه الأيام. وقد تكون لهذا التأثير انعكاسات أيضاً على الرغبات في إسرائيل بموجب ما عبر عنها وزير خارجيتها الذي آثر أن يرجع سبب ما لحق في العلاقات مع الديمقراطيين إلى ما أقدم عليه نتنياهو متجاهلاً عوامل أخرى تحدث في العمق وتحت السطح، وربما تكون هي الأكثر أهمية في استقراء الواقع الأميركي، وفي تقديم صورة عامة تغاير تلك التي تسببت بترسيخ معتقدات لا تعكس بالضرورة واقع الحال.