(1) تتراكم على نحو متواتر، يوماً بعد يوم، مزيد من الوقائع التي تثبت بما لا يدع أي مجال للتأويل أن الذاكرة الإسرائيلية، وأساساً فيما يتعلق بموقف الحركة الصهيونية وممارساتها إزاء الفلسطينيين، تمّ تشييدها كي تكون ذاكرة للتناسي أو لتكرار ما جرى توصيفه ذات مرة بأنه الكذب الإسرائيلي المتفق عليه.
ومن هذه الوقائع الجديدة، وهي ليست الأخيرة بالتأكيد، تلك المرتبطة بالماضي الأسود لمنظمة الهاغناه، أكبر ميليشيا مسلحة صهيونية قبل نكبة العام 1948، والتي حلّت مؤخراً ذكرى مرور 100 عام على تأسيسها في أواسط حزيران 1920. وكانت الهاغناه بمثابة الذراع العسكرية لما يُعرف بـ"حركة العمل" الصهيونية التي تعتبر "الجناح اليساري" للصهيونية.
وبالتزامن مع هذه الذكرى نشر محرر الشؤون التاريخية في صحيفة وموقع "هآرتس"، عوفر أديرت، مقالة استعادت جوانب من ذلك الماضي الأسود جرى إخضاعها لفريضة التناسي، تتمثل خلاصتها في أن هناك كتابة انتقائية لتاريخ هذه المنظمة، نظراً لهيمنة "حركة العمل" في الأعوام الأولى لإقامة الدولة، حيث جرى شطب الملفات القاتمة والإبقاء على واجهة مؤلفة من بطولات ومآثر ومزاعم "طهارة السلاح".
ولا بُدّ من أن نضيف إلى أن تلك الهيمنة التي تمارس الشطب والانتقاء ما كان من الممكن أن تنجح في تشييد تلك الذاكرة من دون أن يتلازم ذلك مع التعاون من جانب الكُتّاب والباحثين حيال فريضة الصمت في السيرورة الرامية في المحصلة إلى بناء "الوعي الذاتي للمجتمع" على أساس الكذب والاختلاق.
ويشير أديرت، من ضمن أمور أخرى، إلى أن الباحث بيلغ ليفي، عضو المشروع الوثائقي "تاريخ إسرائيل"، يدعو حالياً إلى تحديث كتب التاريخ بغية التحدّث أيضاً، من دون تردد، عن الفصول الأقل لطفاً (الإجرامية) في تاريخ المنظمة. فليفي، الذي أجرى مقابلات مع مئات من أبناء جيل 1948، من اليمين واليسار على حد سواء، سمع منهم عن الاغتيالات والانتقامات والهجمات الإرهابية وقد نُسبت جميعها إلى أعضاء الهاغناه، ولكنها أحداث ومعطيات تم إقصاؤها واستبعادها من كتب التاريخ الرئيسة ومن متاحف الدولة والمناسبات الرسمية وامتحانات إنهاء الدراسة الثانوية.
*****
(2) توفي الليلة قبل الماضية الأستاذ الجامعي والمؤرخ المتخصص في شؤون الحركات القومية والفاشية البروفسور زئيف شطرنهيل (85 عاماً)، الذي اشتهر بالعديد من المساهمات الملفتة في تشخيص الواقع الإسرائيلي من خلال مواقف اتخذها، وعبر استنتاجات فكرية خلصت إليها أبحاثه وكتبه، ولا سيما كتابه "بناء أمة أو تصحيح مجتمع؟: القومية والاشتراكية في حركة العمل الإسرائيلية 1904- 1940" الذي صدر بالعبرية في العام 1995، وصدر بالعربية عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار في العام 2001 مترجماً عن الإنكليزية بعنوان "الأساطير المؤسسة لإسرائيل: القومية، الاشتراكية، وقيام الدولة اليهودية".
وكان شطرنهيل خلال العقد الأخير من أوائل الأشخاص الذين تناولوا أداء اليمين في ظل ولايات حكومات بنيامين نتنياهو المتعاقبة منذ العام 2009، ولا سيما في سياق مقالة مطولة تحت العنوان "اليمين سيقضي على الديمقراطية" نشرها العام 2011، وأكد فيها أن هذا اليمين يعمل بذراعين: الذراع العنيفة (الصلبة)، وهي الذراع الاستيطانية، التي تحظى بحكم ذاتي إقليمي (جغرافي)، وهي مزودة بالسلاح وتفرض سطوتها على الجيش والشرطة، والذراع المحترمة (الناعمة) التي تقوم بالعمل في الكنيست. وفي قراءته فإن العنف الفظ المعربد في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967 في كل يوم، والذي ينزلق أيضاً إلى الشارع الإسرائيلي داخل تخوم الخط الأخضر، هو أقل خطراً من نواح كثيرة من العمل البرلماني الهادئ والدؤوب الذي يفرغ تدريجياً الديمقراطية الإسرائيلية من مضمونها.
وبرأيه فإن تحويل من يتم توصيفهم بأنهم "غير يهود" إلى مواطنين ذوي مكانة أدنى هو الهدف الذي يتوق إليه أغلب اليمين الإسرائيلي. وشدّد في حينه على أنه إذا منحت الدولة أفضلية قيمية لليهود، وهي أفضلية ستتدحرج بالضرورة إلى أفضلية سياسية، إن لم تكن اجتماعية واقتصادية، فإنها تكفّ عن أن تكون دولة ديمقراطية.
كما نوّه في سياق آخر بأن اليمين الإسرائيلي، العلماني والديني على حد سواء، يتحدّى المفهوم الجوهري للديمقراطية الليبرالية، ويشمئز من مبادئها ويحتقر قواعد اللعبة فيها. وجوهر الثورة الدستورية لهذا اليمين هو ضمان التفوّق المطلق للهوية الإثنية والدينية للقبيلة، ولذا فإن الدولة لا تعتبر وسيلة لضمان مصلحة كل مواطنيها، وإنما هي إطار يسمح بممارسة تفوق اليهود على غير اليهود. وأكد أنه لا يجوز الخطأ في نيات اليمين، ذلك بأن خطورة التشريعات المعادية للديمقراطية في الآونة الأخيرة تنبع من واقع أنها مدرجة في نطاق مفهوم كلي، وتخدم هدفاً واضحاً، وهي ليست سوى مرحلة أولى في المعركة الكبرى لتغيير طابع المجتمع والدولة في إسرائيل.
كما أن شطرنهيل هو من القائلين بأن ديمقراطية إسرائيل لا تعدو كونها أكثر من ديمقراطية رسمية وليست جوهرية، ولا تشمل حقوق الإنسان. وهذه الحقوق جديدة تماماً، أدخلت إلى النظام السياسي الإسرائيلي بواسطة المحكمة العليا، عبر ما درج على تسميته بـ"الصرامة القضائية". أمّا "وثيقة الاستقلال" فقد اعتبرت بمثابة وثيقة إعلانية ليس لها أي مغزى قانوني أو سياسي أو حتى أخلاقي. والأنكى من ذلك أن حقوق الإنسان تُعتبر في نظر مسؤولين كثيرين عائقاً أمام الدولة وأمام قدرة أدائها، كما لو أن هذه الحقوق تقوّض حقوق الدولة. كذلك فإن حقوق الإنسان ليست جزءاً من مفهوم إسرائيل الديمقراطي، وكانت ثمة ضرورة لإدخالها من الباب الخلفي، ولذلك فهي هشّة للغاية، وبالتالي فهي ليست مضمونة إلى حد كبير. علاوة على هذا فإن معارضي المحكمة العليا رأوا في ذلك هيمنة من جانب القضاة، الذين سرقوا حقوقاً تخضع جوهرياً للسلطة التشريعية، وإذا كانت هذه الأخيرة لا تعبأ بحقوق الإنسان فمن هم القضاة حتى يحلوا محل تلك السلطة؟ ولذا فهو يعتقد أن هذه واحدة من نقاط الضعف الأكثر أساسية في "الديمقراطية الإسرائيلية".
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, الخط الأخضر, جيل 1948, هآرتس, وثيقة الاستقلال, الكنيست, بنيامين نتنياهو