المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • كلمة في البداية
  • 1200
  • أنطوان شلحت

أعاد مشروع قانون توسيع صلاحيات "لجان القبول" في البلدات اليهودية والذي تم تضمين الدفع قدماً به في الاتفاقيات الائتلافية للحكومة الإسرائيلية الحالية، موضوع تهويد منطقة الجليل بغية الحفاظ على إسرائيل دولة يهودية إلى صدارة الاهتمام. وسبق أن أشرنا، مرات عديدة، إلى أن إسرائيل تعتبر الديموغرافيا مجال اهتمام ذا أهمية من الدرجة الأولى بالنسبة لـ "أمنها القومي".

وللتذكير بهذه المسألة نسجّل أنه استناداً إلى دراسة جديدة نُشرت في مجلة صادرة عن وزارة شؤون الاستخبارات الإسرائيلية في تموز 2020، وهي بقلم شموئيل إيفن، مسؤول كبير سابق في جهاز الاستخبارات وحالياً باحث زميل في "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، فإن إسرائيل تعرّف نفسها بحسب "قانون أساس القومية"، الذي سُنّ في تموز 2018، بأنها دولة قومية للشعب اليهودي، وهو تعريف يلزمها بأن تحافظ على ميزان ديموغرافي تكون فيه أغلبية يهودية مطلقة. ومن هنا تنبع أهمية الحفاظ على ميزان إيجابي لهجرة اليهود من الدياسبورا إلى إسرائيل، فضلاً عن حقيقة أن الميزان الديموغرافي بين اليهود والفلسطينيين يبقى ذا تأثير كبير في مسألة الحدود الدائمة لدولة الاحتلال، سواء في سياق المفاوضات مع الفلسطينيين، أو في جوهر الخطاب السياسي الإسرائيلي.

تجدر الإشارة إلى أن الكنيست الإسرائيلي صادق في العام 2011 على قانون لجان القبول الذي يمنحمصداقية للتمييز ضد من ترفض لجان القبول في البلدات الجماهيرية والكيبوتسات الإسرائيلية ترشيحهللسكن فيها وهو موّجه ضد الفلسطينيين في الداخل، ورفضت المحكمة الإسرائيلية العليا طلبات الالتماسالتي قدمت ضد القانون، وفيما بعد جاء "قانون القومية" ليمنح لجان القبول شرعية إضافية.

لقد تمثّل أول تصريح أدلى به الوزير الإسرائيلي الجديد لما يسمى بـ"شؤون الجليل والنقب والأطراف والمنعة القومية"، وهو من حزب "عوتسما يهوديت" ("قوة يهودية") الكهانيّ بزعامة الفاشي إيتمار بن غفير (وزير الأمن القومي)، في أنه يرى مهمته الرئيسة في دعم الأشخاص المعنيين بازدهار إسرائيل وتطوير الجليل والنقب على قاعدة تعزيز هويتهما اليهودية. ومنذ ذلك الوقت تتواتر المقالات والتصريحات حول هذه المهمة مع التشديد على ضرورة التمسك بها واتخاذ كل ما يلزم في سبيل إنجازها.

لدى متابعة النقاش العام بهذا الصدد ليس من العسير الوصول إلى استخلاص فحواه أنه نقاش يعبّر عن حقيقة راسخة في العمق مؤداها أن إسرائيل متمسكة بكونها دولة يهودية، وبرسم ذلك لا يجوز أن تكون في أي من مناطقها أغلبية فلسطينية عربيّة من شأنها أن تشكّل إغراء للمطالبة باستقلال تلك المنطقة. وتحذّر أوساط إسرائيلية، كما أشارت إلى ذلك صحيفة "معاريف" في نهاية الأسبوع الفائت، من مغبّة وضع يتحوّل فيه الجليل إلى "منطقة دونباس" إسرائيلية تيمناً بمنطقة دونباس في أوكرانيا التي تشهد حرباً منذ نحو 9 أعوام، بعد أن أعلن الانفصاليون المؤيدون لروسيا فيها العام 2014 "جمهورية شعبية" مستقلة فيمنطقتي لوهانسك ودونيتسك، وبعد فترة من المعارك بين الانفصاليين والجيش الأوكراني، تم التوصلبموجب اتفاقية مينسك الثانية العام 2015 إلى هدنة هشّة وتحديد "خط تماس" يفصل بين المناطق التيتحت سيطرة أوكرانيا ومناطق سيطرة الانفصاليين المحاذية لروسيا. ويشير هؤلاء إلى أنه في سياق قرار التقسيم من العام 1947 (قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181) فإن وسط الجليل الممتد من الناصرة وحتى منطقة الحدود مع لبنان لم يكن جزءاً من دولة إسرائيل اليهودية. وبالتالي فإن وجود أغلبية عربية فيه يمكن أن يحفّز على المطالبة بالتقسيم في إطار حل الدولتين لا على أساس خطوط 1967 إنما على أساس قرار التقسيم من العام 1947.

من الملفت أن وزير "شؤون الجليل والنقب" حرص أكثر شيء على أن يؤكد أن موقفه الداعي إلى تعزيز الهوية اليهودية للجليل من الناحية الديموغرافية بالأساس، هو خير استمرار لإرث كل السلف الصهيوني على شتى أطيافه. وعموماً، مثلما تثبت الوقائع الصرفة، وقف في صلب سعي الاستراتيجية الإسرائيلية الصهيونية لتعزيز الهوية اليهودية هدف "ضمان أغلبية يهودية"، وتم التركيز أيضاً على الجغرافيا، ولا سيما على منطقتي الجليل والنقب، وأنشئت لأجلهما الوزارة المذكورة في العام 2005. وتشدّد هذه الوزارة بشكل خاص على أن الوجود اليهودي في الجليل والنقب استراتيجي، غير أنه مُهدّد بـ "خطر ديموغرافي ملموس" يتمثل بنزعة السكان اليهود إلى تفضيل السكن في "متروبولين غوش دان" (وسط إسرائيل)، والهجرة التدريجية من المنطقتين. وفيما تشكل منطقة "غوش دان"، الممتدة من مدينة نتانيا في الشمال وحتى مدينة رحوفوت في الجنوب، نحو 7 بالمئة فقط من مساحة إسرائيل، ويسكن فيها اليوم نحو 41 بالمئة من مجموع السكان، تشكل منطقة النقب، الممتدة من غور بئر السبع وحتى مدينة إيلات، نحو 60 بالمئة من مساحة إسرائيل ويسكن فيها نحو 8 بالمئة فقط من مجموع السكان في إسرائيل، بينما تشكل منطقة الجليل، الممتدة من منطقة الحدود مع لبنان حتى مرج بن عامر، نحو 16 بالمئة من مساحة إسرائيل ويسكن فيها نحو 15 بالمئة فقط من مجموع سكان الدولة. وقبل أكثر من عامين أجملت دراسة صادرة عن "معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي" مترتبات هذا "الخطر"، حين أشارت إلى أن اختلال الميزان الديمغرافي في الجليل والنقب "ينطوي على خطر جيو- سياسي يتهدد إسرائيل". وهو برأيها خطر يحدّده، بالأساس، التاريخ الدولي الذي يفيد بأن "الأقليات التي تتمتع بوعي وطني ولديها قيادات وطنية، والتي تشكل أغلبية سكانية في منطقة جغرافية خاصة بها، تجنح في العادة إلى تحقيق تطلعاتها القومية من خلال المطالبة، العنيفة أو الهادئة على حدّ سواء، بـ "الاستقلال الذاتي" (كتالونيا في إسبانيا) أو بالالتحاق بدولة أخرى قد تكون ذات حدود مشتركة (شبه جزيرة القرم). وبناء على هذا، ليس من المستبعد أن يتحرك السكان العرب في إسرائيل ـ الذين يعبرون باستمرار عن عدم الرضى من الوضع القائم السياسي والاجتماعي في الدولة ـ بمثل ما فعلت أقليات أخرى في العالم من قبل". 

لمنع ذلك ترصد إسرائيل ميزانيات طائلة جداً تحت عناوين مختلفة أبرزها "تطوير النقب والجليل"، الذي كان ولا يزال يعني تهويد المنطقتين، ولا تجد السلطات الإسرائيلية أيّ حرجٍ في إشهاره. وكان أول من قاد تهويد الجليل تحديداً رئيس الحكومة العمالي ليفي أشكول منذ العام 1964 محذراً من أن انعدام غالبية يهودية فيه يشكل خطراً على المشروع الصهيوني برمته، وكان من مشاريعه إقامة مدينة كرميئيل في منطقة الشاغور لتكون مدينة يهودية في قلب الجليل العربي، وإنشاء كتل استيطانية بالقرب من منطقة الحدود مع لبنان، وفي منطقة البطوف.  

كما رفعت حكومة إسحق رابين الأولى (1974-1979) لواء تهويد الجليل عن طريق إنشاء ما عرف باسم "قرى صناعية" هدفها أن تجذب أيدي عاملة يهودية من منطقة الوسط بهدف الشغل والإقامة الدائمة. ومما تسرده الوثائق الرسمية لهذه الحكومة أنه في العام 1976 وقف رابين وراء إطلاق خطة جديدة لتهويد الجليل من خلال إقامة 50 مستوطنة يهودية جديدة فيه. كما تنقل هذه الوثائق عن رئيس قسم الاستيطان في الوكالة اليهودية في ذلك الوقت، رعنان فايتس، وهو من قادة حزب رابين، قوله: "يتعيّن علينا أن نعلن غاية تهويد الجليل علناً وعلى مسامع الجميع... إننا غير ملزمين بتاتاً بأن نخفي أن منطقة مثل الجليل توجد فيها أغلبية كبيرة من السكان العرب تعتبر مثار قلق لإسرائيل، وبناء على ذلك ستعمل مؤسسات هذه الأخيرة بكل ما تمتلك من قوة من أجل تهويدها"! 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات