المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
مقر شركة "إن إس أو".  (واي نت)
مقر شركة "إن إس أو". (واي نت)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1270
  • هشام نفاع

مرة أخرى تصدق التحذيرات التي وجّهها إلى المجتمع الإسرائيلي قلّة ممن صحّ تفكيرهم وصحا ضميرهم: إن السياسات والأساليب والأدوات المشتقة منها، والتي تستخدمها المؤسسة الحاكمة ضد من تصفهم بـ"الأعداء" وأوّلهم الشعب الفلسطيني (كله)، هي سياسات ستنقلب على المواطنين في إسرائيل أيضاً يوماً ما؛ أو بصياغة أخرى: إن تكريس الاحتلال والحرب وما ينطوي عليه من انتهاكات، سيضرب لاحقاً الحياة المدنية في هذه الدولة.

المثال الراهن اليوم هو انكشاف قيام الشرطة الإسرائيلية بالتجسس غير القانوني على مواطنين دون أيّ صلاحية ودون أيّ إذن قضائي أو قانوني من الجهات ذات الشأن. فقد كشف تقرير لصحيفة "كلكاليست" الاقتصادية، أن الشرطة الإسرائيلية استخدمت برنامج التجسّس "بيغاسوس" الذي أثار سلسلة فضائح، للتجسّس على نشطاء اجتماعيين في إسرائيل، فلاحقتهم وتتّبعتهم دون توفّر أيّ أمر قضائي يسمح بذلك، وبشكل مخالف للأنظمة القانونية العينيّة التي تُتيح للشرطة اللجوء لمثل هذه التقنيات في حالات محدّدة وواضحة، بإذن قانوني.

التقرير الصحافي ربط من حيث المعلومات بين هذا وبين ترؤّس مسؤولٍ كبير قادم من جهاز الشاباك، نائب رئيسه روني ألشيخ، جهاز الشرطة في أواخر العام 2015. ففي فترته تغيّرت مكانة وحدة التنصت التابعة للشرطة وتعزّزت، خصوصاً مع استقدام خبراء عسكريين خدموا في وحدة التجسس 8200. هنا تصبح لدينا صورة واضحة عن تسرّب آليات الاحتلال المستخدمة ضد الشعب الفلسطيني وتوجيهها من قبل ذراع سلطة إسرائيلية تنفيذية نحو مواطنين في إسرائيل: هناك مسؤول شاباك أحضر معه تلك الآليات ومعها خبرات من وحدة تجسس تابعة لجيش الاحتلال.

خلفيّة: برنامج التجسس الذي قاد إلى فضائح دولية

برنامج "بيغاسوس" التجسسّي من إنتاج شركة "إن إس أو" الإسرائيلية، وهو قادر على اختراق كاميرا أو ميكروفون هاتف نقال والحصول على كامل بياناته، تم بيعه إلى جهات مختلفة ووقع ضحية لاستخدامه أشخاص بالمئات من كل أنحاء العالم، بينهم سياسيون وصحافيون وناشطون حقوقيون. وعلى الرغم من أن المنتج والمسوّق هو جهة اقتصادية وليس حكومية رسمية، فقد طفت على السطح معلومات مختلفة تثبت ضلوع جهات رسمية في بيع البرنامج لمن يُعرّفون بأنهم "أصدقاء".

وكشف تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" أن رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق بنيامين نتنياهو أوعز بتجديد رخصة استخدام نسخة "بيغاسوس" لجهات حاكمة في السعودية بعد أن انتهت صلاحيتها، وذلك في أعقاب اتصال هاتفي مباشر أجراه ولي عهدها، محمد بن سلمان، مع نتنياهو، في إثر معارضة ذلك من قبل وزارة الدفاع الإسرائيلية. نتنياهو نفى ذلك وقال مكتبه في بيان رسمي إن "الادعاء بأن رئيس الحكومة نتنياهو تحدث مع قادة لدول العالم وعرض عليهم هذه البرامج مقابل تحقيق إنجازات سياسية أو إنجازات أخرى، ما هو إلا كذب". لكن البيان نفسه اعترف بأن "مبيعات هذه الأجهزة أو منتجات أخرى لشركات إسرائيلية، لدول أجنبية، تتم بموافقة وإشراف وزارة الدفاع، وفقا للقانون الإسرائيلي". أي أن الخلاف ليس على حقيقة ضلوع المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية في بيع برنامج التجسس، بل على هوية الجهة المحددة فيها.

وكان تحقيق واسع النطاق لمنظمة "أمنستي"، نشرت نتائجه في تموز 2021، بشأن تسرب بيانات 50 ألفاً من أرقام الهواتف، التي كان أصحابها مستهدفين للمراقبة، فيما يبدو، كشف عن أن برمجيات التجسس التي ابتكرتها مجموعة "إن إس أو" قد استُخدمت في تسهيل ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان على نطاق هائل في مختلف أنحاء العالم. وقالت المنظمة على موقعها: إن مشروع بيغاسوس يكشف للعيان كيف وجدت الحكومات القمعية في برمجية التجسس لمجموعة "إن إس أو" السلاح المفضل في مسعاها لتكميم أفواه الصحافيين، والاعتداء على النشطاء، وسحق أي معارضة، الأمر الذي يهدد ما لا يُحصى من الأرواح

لقد اضطلع بهذا التحقيق أكثر من 80 صحافياً من 17 مؤسسة إعلامية في 10 بلدان، بتنسيق من منظمة "قصص محظورة"، وهي منظمة غير ربحية تتخذ العاصمة الفرنسية باريس مقراً لها، وبدعم فني من منظمة العفو الدولية. وقالت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية أنياس كالامار: "هذه الحقائق التي تكشفت تنسف أي ادعاءات لمجموعة إن إس أو بأن تلك الهجمات نادرة الحدوث، وتعود إلى استخدام منحرف لتقنيتها. فلئن كانت الشركة تزعم أن برمجية التجسس التي ابتكرتها لا تُستخدم إلا في التحقيقات المشروعة المتعلقة بالجرائم والإرهاب، فمن الواضح إن تقنيتها تسهِّل إساءة الاستخدام بصورة شاملة؛ وترسم الشركة صورة تكتسي الشرعية، في الوقت الذي تربح فيه من الانتهاكات الواسعة النطاق لحقوق الإنسان".

الشرطة تهرّبت.. نفت ثم عادت واعترفت

بعد كشف صحيفة "كلكاليست" المذكور أعلاه، اعترفت الشرطة باستخدام تقنيات التجسس المعلوماتي بدون تفويض، وذلك بعد أن زعمت قبل ذلك أنها لم تجد "أي معطى يدعم هذه المعلومات" الصحافية. لكنها غيّرت روايتها مع تراكم المعلومات والكشوفات وصرّحت بوجود ما أسمته "عناصر عدّلت بعض جوانب القضية". وأن "كل عناصر الشرطة عليهم التعاون مع لجنة التحقيق وتقديم كل المعلومات المطلوبة".

ومما جاء في بيان لها: "على ضوء تشكيل فريق تحقيق خاص برئاسة نائب المستشار القانوني للحكومة، أمر المستشار القانوني باتخاذ خطوات فورية بهدف منع إمكانية تجاوز للسلطة، وشرطة إسرائيل ستعمل بموجب ذلك. رئيس قسم التحقيقات والاستخبارات، سيقوم بمعرفة وموافقة المفتش العام للشرطة، بإصدار أوامره لكافة عناصر الشرطة التي تقضي بوجوب التعاون بشكل كامل مع عمل طاقم التحقيق، والانصياع الى أوامره، وتقديم الإجابات على الأسئلة وتسليم كافة المستندات والمعلومات المطلوبة، والسماح بالوصول الى أنظمة المعلومات وتوفير المعلومات التقنية حول الوسائل المتاحة لشرطة إسرائيل بما في ذلك المعلومات التي في حوزة أطراف ثالثة".

كذلك اعترف وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي عومر بار ليف بأن الشرطة استخدمت برنامج التجسس هذا بشكل غير قانوني في عدة قضايا. وقال لـ"يديعوت أحرونوت" إن هناك تطبيقات لم يسمح باستخدامها لكن تم استخدامها من قبل وحدة التكنولوجيا في الشرطة.

من جهته، أصدر المستشار القانوني للحكومة المنتهية ولايته أفيحاي مندلبليت تعليمات للشرطة باتخاذ اجراءات فورية لمنع تجاوز الصلاحيات. وأعلن تشكيل طاقم لفحص قضية التنصت على الحواسيب، مشيراً إلى أنه ستترأس الطاقم نائبة المستشار عميت مراري بمشاركة اثنين من كبار المسؤولين السابقين في جهاز الشاباك، حيث سيطلب من الطاقم تقديم تقرير بهذا الشأن في غضون خمسة أشهر.

وبروح ما عقّبت به الشركة في السابق، عن أنها "تبيع منتجاتها بموجب ترخيص ووفقاً للأنظمة، إلى وكالات استخبارات وأجهزة للشرطة لمنع أعمال إرهابية وجرائم بناء لأوامر القضاء والقوانين المرعية الإجراء في دولها"، فهي لم تصدر في حالة الشبهات بتجسّس الشرطة على مواطنين، أيضاً، أي تأكيد أو نفي للمعلومات وكرّرت أنها "لا تنخرط بأي شكل من الأشكال في تشغيل النظام بعد بيعه لجهات حكومية".

من أوجه الطرافة، كان ما كشفه شريط بثته "القناة 12"، وهي قناة إخبارية إسرائيلية، أن الشرطة قد تكون استخدمت "بيغاسوس" للتجسس على شاهد رئيس في محاكمة بنيامين نتانياهو، في اجراءاتها ضده. وفي الشريط يُسمع رجال شرطة يناقشون التنصت على هاتف شلومو فيلبر، الحليف السابق لنتنياهو الذي أصبح "شاهد ملك". ويقول ضابط شرطة "يبدو الأمر غير قانوني".

نتنياهو الذي تحدثت مصادر مختلفة عن تدخله لتسويق برنامج التجسس، أيضاً في بلغاريا وبولندا، ربما يكون قد وقع بشكل غير مباشر ضحية له. نتنياهو الذي يُصوّر مراراً على أنه "ساحر" يظهر هنا في لحظة من لحظات انقلاب السحر على الساحر، عليه هو نفسه.

ليبوفيتش ونبوءته عن الاحتلال التي يتردّد صداها

بين الأصوات التي ربطت بين سياسات الاحتلال المنتهجة ضد الفلسطينيين في المناطق المحتلة 1967 وبين تسرّب آلياتها الى داخل إسرائيل، كان مقال الكاتب عيناف شيف في "يديعوت أحرونوت". وهو يذكّر أن برنامج "بيغاسوس" زُرع لدى نشطاء اجتماعيين فلسطينيين، بعضهم من سكان القدس الشرقية. "وبعضهم، يا للمفاجأة" يلاحظ ساخراً، عملوا في منظمات أعلنها وزير الدفاع بنيامين غانتس كـ "إرهابية"، في خطوة تعرّضت لنقد دولي شديد.

ويضيف الكاتب: لا يوجد هنا في ظاهر الأمر جديدٌ حقاً: إذا كانت المنشورات صحيحة، فقد ثبت مرة أخرى كم هي خطيرة الصناعة المسماة "السايبر الهجومي"، وهو اسم جميل لميليشيا تجسس... غير أن ظهور "بيغاسوس" في السياق الفلسطيني يجب أن يقلق مواطني إسرائيل أكثر من مجرد مشاكل السمعة العالمية ومبيعات الشركة الإسرائيلية. وهو يفسّر: الأخطر هو المنحدر الزلق. إنكار الاحتلال بجميع أسبابه، يؤدي إلى ألا يُزعج معظمنا أن بضعة فلسطينيين اكتشفوا ذات صباح بأنهم مكشوفون أكثر مما يمكن تخيله. غير أن طبيعة مثل هذه الأحداث هي أن تتدحرج. وقد تذوقنا قليلا منها فقط، حين أخذت الدولة لنفسها صلاحيات كبرى، مثل ملاحقة المواطنين باسم مكافحة وباء كورونا. وطالما كان السلاح موجودا ولا توجد خطوط حمراء صارخة وواضحة على استخدامه، فلا يُفترض بأحد الاعتقاد أن لديه حصانة أمام حلول يوم سيوجّه فيه هذا السلاح ضده.

ويشدّد شيف: هذا هو الكابوس الشهير للراحل يشعياهو ليبوفيتش بعد حرب 1967، حين لم يكن "بيغاسوس" إلا اسماً من الأسطورة اليونانية فقط. مثلما كتب ليبوفيتش، كي نكون دولة شاباك، لا حاجة بالضرورة للشاباك. كل ما هو مطلوب هو المسيرة الهدامة التي حصلت في موضوع العنف الجنائي في إسرائيل: أن يغض الناس الطرف وأن يعتقدوا بأن هذه مشكلة العرب.

كتب الكاتب المذكور هذا قبل كشف تجسس الشرطة على مواطنين، وهو ما شكل تجسيداً سريعاً لما حذّر منه. في السياق نفسه، قبل بضعة أعوام أشار الكاتب عكيفا إلدار في مقال له على موقع "المونيتور" إلى النبوءة نفسها للراحل ليبوفيتش. وكتب أنه بعد عقود على مقولته المذكورة يحاجج البروفسور مرسيلو دسكل، الذي كان عميد كلية العلوم الإنسانية في جامعة تل أبيب، بأن المجتمع الذي يمارس الاحتلال مقيّضٌ له استبدال قيمة احترام الآخر، بالتشكيك المرضيّ العُضال. وهو يشير الى العلاقة الوثيقة بين أفعال ومواقف الإنكار، الاستهتار، الإذلال، عدم الاحترام، التمييز، الأنانية، وبين نزع الإنسانية عن الآخر وعن الذات. هكذا، كما قال، يتمزق ويتدمر نسيج الأخلاق وتبدأ سيرورة التدهور الأخلاقي.

تنطبق هذه الأفكار والتحليلات والتحذيرات دون كثير من العناء على قضية بيغاسوس: برنامج تجسسي استُخدم ضد فلسطينيين وتم بيعه إلى حكومات وأنظمة مؤيدة لسياسات إسرائيل، وانتهكت بها شتى الحقوق والحريّات، قد انقلب على نحو حاد وعدواني وخطير على المجتمع الذي صمت وشاركت معظم شرائحه في إنكار معاناة الفلسطيني والاستهتار بحقوقه وكرامته، وإذلاله بشتى الأساليب القمعية والتمييز ضده وعدم الالتفات الى بؤسه ووجعه، بكل أنانية. هذه ممارسات تم تطبيقها بشتى آليات الضبط والملاحقة والبطش التي قامت بها أذرع الأمن الإسرائيلية المختلفة. من هنا، صارت الطريق قصيرة كي ينقلب كل هذا القُبح العنيف على المجتمع الإسرائيلي، وإنْ بدرجة بسيطة جداً قياساً بما يتعرّض له الفلسطيني. بالرغم من هذا، هكذا بالضبط تتفاعل وتتعاظم الأمور وفقاً لمفهوم المنحدر الزلق: فعلٌ خلف فعل سوف يجرّ وراءه سلسلة من العواقب التي تنتهي بنتيجة مروعة.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات