المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1144
  • تومر أفيطال (*)

لديّ تقليد منتظم. في كل عام تقريباً، أطلب من مكتب الإعلانات الحكومي الاطلاع على ميزانيات الإعلان الحكومية. الهدف: دراسة وسائل الإعلام التي أفسدتها الوزارات الحكومية في ذلك العام. الميزانيات، تجدر الإشارة، تبلغ مئات ملايين الشواقل في السنة.

يُظهر كل تقرير كيف يبدو أن السياسيين يمنحون أفضلية في الإعلان لوسائل الإعلام ذات الصلة بالوسط الذي ينتمون اليه أو بمقرّبيهم، مرة سيكون بنيامين نتنياهو ومكتب رئيس الحكومة، هم من سيحوّلون المزيد فالمزيد من الميزانيات بواسطة الاعلانات إلى جريدة "يسرائيل هيوم" التي تُوزّع مجاناً. ومرّة يكون وزراء "يش عتيد (يوجد مستقبل)" هم من سيحوّلون كميّات إعلانات سخية لجريدة "يديعوت أحرونوت".

لقد كشف تحقيق نُشر على موقع "العين السابعة" واستند جزئياً إلى مواد موقع "شكوف" أنه بعد تعيين نفتالي بينيت وزيراً للتعليم، زاد إنفاق الوزارة على الإعلان في وسائل الاعلام المرتبطة بالتيار الديني- القومي. البيانات التي تبيّن هذا حادة وواضحة ومتسلسلة. خذ على سبيل المثال، موقع قطاع "سروغيم" المنتمي لهذا الوسط.

في العام 2015، العام الذي دخل فيه بينيت وزارة التعليم، لم تنشر الوزارة على الإطلاق في "سروغيم". بعد مرور عام واحد، لوحظت أولى علامات الاستيقاظ: اشترت الوزارة إعلانات من هذا الموقع، ولكن بمبلغ هامشي نسبياً يبلغ حوالي 8000 شيكل. ولكن في العام 2017، ارتفع الإنفاق في وزارة بينيت على الإعلان في هذا الموقع إلى 100000 شيكل. هذه النزعة تواصلت أيضاً في العام 2018: في هذا العام، ضاعفت الوزارة تقريباً استثماراتها في نشر الإعلانات بهذا الموقع - وبلغت بالمجمل 193000 شيكل. وهذا مجرد مثال واحد.

أموال الحكومة تخلق تأثيراً هائلا

يدّعي الوزراء بشكل عام، أنهم لا يشاركون على الإطلاق في مسألة تخصيص وتقسيم الموارد (قال بينيت، في هذه الحالة، إنه ضالع فقط في "محتوى المنشورات"). ولكن حتى لو كان البعض يتحدث بصدق، فهناك العديد من الأمثلة على السياسيين الذين لم يتدخلوا فقط في توزيع كعكة الميزانية – بل حصلوا بالفعل على تغطية إعلامية إيجابية جرّاء اختيارهم النشر في وسائل إعلام محددة. وهم أخذوا هذه الأموال من جيوبنا جميعاً.

عندما كان يوآف غالانت وزيراً للبناء والإسكان، حصل على مقابلة مليئة بالإطراء في برنامج "الناس" الذي تنتجه شركة "كيشت"، وظهر فيه مع زوجته. لم يكن لدى المشاهدين فكرة عن تمويل هذه المقابلة بمئات الآلاف من الشواقل من ميزانية شركة "عميدار" الحكومية. وزير السياحة السابق ستاس ميساجنيكوف، وهو الآن سجين مفرج عنه، ضغط على المستوى المهني في وزارته لتقوم بسكب الميزانيات الإعلانية إلى مجموعة من الأجسام التي كان لكبار مديريها علاقات شخصية معه ومع حزبه، "إسرائيل بيتنا".

إن خلط الأموال العامة مع الاعتبارات الصحافية له تأثير إشكالي آخر: الخوف من فقدان الميزانيات المخصصة للإعلان. اسأل نفسك، هل تجرؤ وسائل الإعلام التي اعتادت على الحصول على ميزانية عادية من وزارة حكومية على نشر سلسلة من التحقيقات الاستقصائية حولها؟ هل يشجع المستوى القيادي الأعلى في وسائل الإعلام الصحافيين على انتقاد وزارة تهدر المال والدعوة للتحقيق معها؟
في إسرائيل، لا تزال هناك بعض وسائل الإعلام القوية وبعض الصحافيين الذين يعرفون (أو يحاولون على الأقل) كيف يتجاهلون التلميحات والمصالح الاقتصادية. ولكن في قطاع يمر بأزمة اقتصادية مستمرة، ومع تفكك الروح المهنية ورواج الفساد في الشرفات العالية وتسرّبه نحو الأسفل، فإن الأموال الحكومية تجلب معها تأثيراً يخفض من حرارة النقد.

الصورة واضحة، وكلنا نعاني منها: هناك تمويل واضح وخفي وخطوط أنابيب إعلانية بين السياسيين ووسائل الإعلام. في بعض الأحيان تحصل وسائل الإعلام على ميزانيات إعلانية لأسباب سياسية. يُقصَف القراء والمشاهدون بكمّ هائل من الأخبار، ومن دون إدراك أن شخصاً ما دفع ثمنها أو قام بتمويلها بطريقة غير سويّة. وهناك طبعا لهذا تأثير يخفّف من حدة النقد.

المشكلة هي أن لا شيء من هذا كله يعتبر أمراً جديداً. يجب أن يعرف الجمهور هذا الموضوع بعمق فعلاً: لقد تعرّفنا جميعاً من خلال ملفات تحقيق واتهام بنيامين نتنياهو، على صور "رنتغن" مفصلة للعلاقات غير اللائقة بين الناشرين والسياسيين – وكذلك على نتاج تلك العلاقات على صفحات الصحف والموقع. لقد تم تقديم تغطية ملوثة بتضارب كبير في المصالح.

لكن ذلك لم يغير الصورة. الأموال تستمر في التدفق، ويواصل السياسيون التدخل في شكل توزيعها، وتستمر وسائل الإعلام التي نستهلكها جميعاً في تزويدنا بواقع مشوّه. من المهم التأكيد على أن هذه ليست ظاهرة "يمين" أو "يسار". بغض النظر عمن يجلس على مقاعد الحكم في السلطة - طالما أن النظام يسمح بل ويشجع على مثل هذا التضارب في المصالح فإننا سنظلّ في وضع صعب. وعندما أقول نظاماً، لا أعني فقط النظام السياسي، ولكن وسائل الإعلام نفسها أيضاً.

يجب كسر الرابط بين الناشرين والسياسيين وميزانياتهم الإعلانية

وسيلة الإعلام، في نموذجها التقليدي والمألوف على الأقل، هي مصلحة تجارية. في رأيي، هذا هو أروع أنواع الأعمال - لأنه في أفضل حالاته، يشكل منتجه مادة وأداة لإصلاح غبن في العالم. كم من الأعمال الأخرى التي تعرفها يحرّكها هدف كشف الحقيقة والإشارة إلى الظلم؟ ولكن في نهاية المطاف، يتعلق الأمر بمصلحة تجارية. باستثناء وسائل الإعلام المستقلة التي تعتمد على الجماهير (مثل "شكوف" أو "العين السابعة") - فبمجرد عدم وجود معلنين أو كمية اشتراكات كبيرة، لا يوجد مال، وبالتالي تواجه وسائل الإعلام خطر الإغلاق.

كان الاتجاه في السنوات الأخيرة يزداد سوءاً. إن نقل ميزانيات الإعلانات إلى غوغل وفيسبوك إلى جانب التوزيع المجاني لجريدة "يسرائيل هيوم" ذات الموارد المالية التي لا نهاية لها – خلقا وضعا يقتل وسائل الإعلام. إن "جدران الدفع" التي ظهرت في السنوات الأخيرة في بعض المواقع الإخبارية هي بداية لحلّ، لكن الجمهور لم يعتَد بعد على دفع ثمن مقابل تلقي مواد الصحافة - واليوم، لا تزال رسوم الاشتراك تشكل جزءاً صغيراً من الإيرادات.

والنتيجة: محاولات للحصول على الميزانيات بطرق ملتوية. الصفقات القذرة. الدعاية السرية. الغمز لرجال الأعمال الذين يتوقون إلى سيطرة في الصحف والقنوات والمواقع الإلكترونية ومحطات الراديو لاستخدامها كوسيلة للضغط والتأثير على أعمالهم التجارية الأخرى. يقوم الإعلام حين يكون في الأيدي الخطأ، بعكس ما تعلمناه في فصول المواطنة؛ يقوم بتشويه الحقيقة، وإخفاء الخلل، وإدامة الظلم. غالباً ما تكون ميزانيات الإعلان هي نقطة الضعف التي يضغط عليها السياسيون والأباطرة الماليون في وسائل الإعلام القطرية والمحلية.

بالنسبة لعدد قليل من السياسيين وأباطرة المال، فإن واقعاً فيه الصحافة ضعيفة وتعتمد عليهم، هو نوع من اليوتوبيا. وبالتالي، يمكنهم ترتيب "تغطية إيجابية" لأنفسهم (الاسم المستعار للتغطية المنحازة والمعوجة والمصلحيّة) من خلال إبرام صفقات مع الناشرين الذين يأتون إلى الفراش معهم، منهم السعداء ومنهم المترددون.

إنه لأمر حزين ومثبر للسخرية أن نذكره، ولكن هناك أيضاً طريقة أخرى للحصول على تغطية إيجابية. هذا بسيط للغاية: تعزيز النشاطات الإيجابية للسياسيين. يبدو هذا ساذجاً لكن هكذا يفترض أن ينجح. قمنا في "شكوف" بإعداد صفحة على الفيسبوك تسمى "المسطرة". في هذه الصفحة، نمتدح السياسيين - من جميع الأحزاب – ممن سلكوا بشكل لائق وعززوا التحركات التي تخدم عامة الناس. لكن هذه لا تزال مبادرة صغيرة نسبياً. هناك حاجة إلى الكثير من التدابير الصارمة لتقويم الصورة المشوهة. كيف نفعل ذلك؟ بادئ ذي بدء، يجب إقامة سور هائل بين الأخبار الحقيقية والأخبار التي تم شراؤها. على سبيل المثال، من الممكن تحديد ترميز واضح ومميز لمحتوى التسويق بحيث تبدو مقالات "التسويق" أشبه بالإعلان. عضو الكنيست السابق ميكي روزنتال، طالب بذلك، وسقط اقتراحه. يجب معاودة محاولة سن تشريع لهذا.

بدلاً من إضعاف الصحافة، يجب على السياسيين القيام بدور نشط في ضمان استقلالها الاقتصادي. إحدى الطرق الممكنة للقيام بذلك هي فرض ضرائب على غوغل وفيسبوك وتخصيص بعض الإيرادات للضحية الرئيسية من قضم عمالقة الإنترنت لميزانيات الإعلان من وسائل الإعلام. لتجنب وضع يؤدي فيه الدعم المالي فقط إلى معاملات غير لائقة بين السياسيين والناشرين، يمكن إنتاج "فحوصات عمياء" – بحيث أن مسائل مثل نطاق التوزيع، أو مؤشر الحرية الصحافية، تقوم بتحديدها هيئة مدنية مختصة منزوعة من المصالح، مثل نقابة الصحافيين.

كما يجب تقسيم ميزانيات الإعلان الحكومية وفقاً لمعايير مماثلة. يمكن أيضاً التفكير في منح كل مواطن اشتراكاً شخصياً في وسائل الإعلام التي يختارها، بتمويل من ميزانية الدولة. يمكن للمرء أن يفكر في العديد من هذه الأفكار. بعضها ناجع والبعض الآخر أقل نجاعة. ولكن حتى لو اختار المرء عدم تبني أي منها، فلا بد من عمل شيء واحد: إبعاد السياسيين تماماً عن توزيع الميزانيات الإعلانية، وحظر الإعلانات السرية من قبل الحكومة. حان الوقت للعثور على حلول ويجب إبقاء الأنظار مثبتة على الهدف: كسر الرابط بين الناشرين والسياسيين وميزانياتهم الإعلانية، وبناء جدار عالٍ بينهما.
_____________________________
(*) كاتب ومحرر في الموقع الإعلامي المستقلّ "شكوف" (شفّاف) الذي يُموّل من اشتراكات الجمهور ولا يعتمد على الإعلانات التجارية ولا الرسمية. ترجمة خاصة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات