تؤكد سلسلة من التقارير الإسرائيلية أن فترة الإغلاق بسبب فيروس كورونا، وما نجم عنها من أزمة اقتصادية، لقسم واسع من السوق والشركات، ساهمت في انتعاش السوق السوداء في مسارين: الأول اتساع ظاهرة الدفع نقدا، بسبب ضعف المراقبة المباشرة. والثاني هو انتعاش ظاهرة القروض من جهات خاصة، قسم كبير منها تكون مرتبطة بعالم الإجرام.
وتستفحل ظاهرة القروض السوداء في المجتمع العربي، إلى مستوى جعل الهيئات الشعبية تصدر بيانا تنادي الجمهور بالامتناع عن هذه القروض لما فيها من مخاطر.
ويقول تقرير لصحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية، إنه بسبب الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها العديد من المصالح الاقتصادية، هناك قلق في المؤسسات الرسمية من انتعاش الاقتصاد الأسود، المقدر بنحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل، بمعنى أنه يعادل سنويا أكثر من 67 مليار دولار، وحسب التقديرات فإن هذه السوق ستتسع في ظل الأزمة الاقتصادية. وعادة ما يتطور الاقتصاد الأسود في ظل ضائقة اقتصادية عندما تكون الضرائب مرتفعة للغاية، وهناك شعور بعدم الثقة في صانعي القرار. والعبء الضريبي على الشركات في إسرائيل أقل بقليل من المتوسط في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، وبالتالي لا يشكل حافزا حاليا للتهرب الضريبي. في المقابل، تشكل الصعوبات الاقتصادية، وإغلاق الصناعات بأكملها، والخوف من عدم وصول الحوافز الحكومية إلى الشركات المتضررة بشكل خطير حافزا للنشاط الاقتصادي غير المبلغ عنه.
وحسب التقديرات، فإنه في ظل الأزمة القائمة، انتعشت ظاهرة الدفع النقدي، دون إصدار فواتير، لتكون بعيدة عن سجلات الضريبة، إضافة إلى ظاهرة غسيل الأموال وإصدار فواتير وهمية، وغيرها من أشكال هذه الظاهرة. ومن دون هذه الأزمة، فإن الدفع نقدا يُعد من الأعلى بين الدول المتطورة، وهذا ما كشف عنه استطلاع أجرته سلطة النقد في بنك إسرائيل المركزي، في شهر تموز من العام الماضي 2019، وتبين أن 26% من المشتريات في إسرائيل تتم بالدفع النقدي. ولهذا فإن التخوف الآن هو من أن هذه الظاهرة ستساهم أكثر في تراجع خزينة الضرائب في العام الجاري.
والجانب الآخر للأزمة، الذي يحفز تلقائيا السوق السوداء، هو وضعية المصالح الاقتصادية الصغيرة، التي عادة ما تكون متاجر صغيرة، ومصالح حرفية للعائلة، ومرافق غذائية صغيرة وغيرها. فهؤلاء الذين لا يسري عليهم قانون مخصصات البطالة لكونهم "مستقلين"، رغم أن مداخيلهم السنوية ليست بالقدر الذي يجعلهم أعلى من مستويات الأجيرين، وجدوا أنفسهم من دون مساعدات حكومية كافية لمواجهة الأزمة. وكل واحد من أصحاب المصالح الصغيرة هذه، تم وعده بمخصص 6 آلاف شيكل شهريا في فترة الإغلاق، وهو مبلغ هامشي جدا بالكاد يقفز عن الحد الأدنى من الأجر، 5300 شيكل. وحتى أن المخصص الهش هذا مشروط بأن يثبت صاحب المصلحة أن دخله الإجمالي في العام الجاري 2020 قد انخفض بنسبة 25%، وفي حال كان التراجع أقل، سيكون عليه إعادة المخصصات للخزينة العامة. وهذه "وصفة" وتحفيز على اتباع السوق السوداء، بمعنى عدم تسجيل كل المبالغ النقدية التي يتلقاها صاحب المصلحة. كذلك فإن هذه الشريحة فرصها أقل من غيرها في الحصول على قروض ميسّرة بدعم من الحكومة، بسبب حجم مصلحتها الاقتصادية.
المجتمع العربي الضحية الأكبر
يبقى المجتمع العربي، بسبب أوضاعه الاقتصادية الاجتماعية السيئة، بفعل سياسة التمييز العنصري، هو الضحية الأكبر للسوق السوداء، من حيث القروض، لأن إمكانياته بالحصول على قروض من البنوك التجارية تبقى أقل مما هي في المجتمع اليهودي، لكون سوء الأوضاع الاقتصادية ينعكس على ضعف الضمانات المطلوبة، عدا عن أن البنوك والمؤسسات المالية تشدد أكثر قيودها على العرب تحت ذرائع الضمانات.
وتقول الدكتورة نسرين حداد حاج يحيى، رئيسة برنامج المجتمع العربي في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، في حديث لـ "ذي ماركر": "يعتمد القطاع الخاص في المجتمع العربي، في معظمه، على 96% من الشركات الصغيرة، وتبلغ المبيعات السنوية لنحو 54% منها، أقل من نصف مليون شيكل (141 ألف دولار). وهي شركات صغيرة تديرها العائلة عادة. وكل أزمة، مثل الأزمة الحالية، هي ضربة قاصمة لمثل هذه الشركات، خاصة عندما لا يكون لديها شبكة أمان".
وقد داهمت الأزمة الصحية الاقتصادية في شهر رمضان، الذي تنتعش فيه الأسواق، خاصة في قطاع الأغذية والمطاعم، والقيود المشددة حظرت فتح المطاعم لاستقبال الإفطارات الجماعية، وحتى على مستوى العائلات، وهذا تسبب بخسائر فادحة جدا للمطاعم التي تعتمد في حساباتها السنوية على الشهر الفضيل.
وتشرح حاج يحيى أن "الأدوات الحكومية الحالية لا تتكيف مع الأعمال التجارية في المجتمع العربي بسبب بعض العوائق. والعديد من أصحاب الأعمال لديهم قيود أو حجوزات على حساب البنك". وحسب عاملين في مكاتب تقدم خدمات مالية، فإن الكثير من أصحاب المصالح العرب، وجدوا صعوبة في تلبية الشروط الحكومية للحصول على مساعدات وقروض ميسّرة. وغالبا يحصلون على قروض أقل بكثير مما يحتاجونه.
وهذا الواقع أنعش من جديد قروض السوق السوداء، التي غالبا ما تسيطر عليها عائلات إجرام، أو جهات تستعين بعائلات إجرام للحصول على أموالها في حال تأخر التسديد. والقضية الأساس في هذه القروض، هي في الفوائد الرهيبة التي تفرض على الحاصلين على القروض، وهي تتراوح بنسب من 100% إلى حتى 150% سنويا، ولكن من يكون بحاجة يغض الطرف عن هذه المأساة من أجل أن يجتاز مرحلة. وهذه الحالة قائمة منذ سنوات طويلة في كل البلاد، ولكن بشكل خاص في المجتمع العربي، هي جزء كبير من مسببات استفحال الجريمة في المجتمع العربي. وقد وصلت ظاهرة القروض من السوق السوداء إلى حد اضطر المؤسسات الشعبية، وفي مقدمتها لجنة المتابعة العليا لفلسطينيي الداخل، واللجنة القطرية لرؤساء البلديات والمجالس القروية، لإصدار بيان يدعو الجمهور للامتناع عن الحصول على قروض من السوق السوداء، لما في هذا من خطر مباشر عليهم.
محاولات محاصرة السوق السوداء
في السنوات القليلة الماضية، عملت إسرائيل على مواجهة السوق السوداء في مسارين، وهذا بعد ضغوط من المؤسسات الدولية، وتهديد إسرائيل بفرض عقوبات مالية- اقتصادية عليها، منها ما يتعلق بحجم اعتماداتها المالية أمام تلك المؤسسات.
والمساران هما:
الأول، وضع ضوابط لشبكة مكاتب الصرافة، إذ حسب التقديرات يعمل في إسرائيل حاليا ما بين 2300 إلى 2400 مكتب صرافة، ومقدمي خدمات مالية، واعتمادات. ويقدّر حجم الأموال المتداولة بـ160 مليار شيكل. ويجري الحديث عن سوق محجوبة عن الأنظار، رغم القوانين التي سنّها الكنيست في السنوات القليلة الماضية، لفرض قيود على عمل تلك المكاتب، والزامها بتقديم بيانات اسمية، على حركات مالية، تعد متوسطة، مثل شراء 5 آلاف دولار وأكثر، ولكن يتم التحايل على هذا بطرق عدة، حسب تقارير صحافية. وتحدثت سلسلة من التقارير الإسرائيلية عن أن قطاع مكاتب الصرافة هو أحد قطاعات تبييض الأموال، لعصابات الإجرام الكبرى والأخطر. ومن خلالها يقدمون القروض لمن سدت البنوك في وجوههم أبوابها. وكان تقرير سابق لوزارة العدل قد أشار إلى أن السوق السوداء هي عنوان القروض الوحيد للفئات الضعيفة، أولئك الذين لم تستوعبهم البنوك، أو خرجوا منها مضطرين، ويجد المدينون الضعفاء أنفسهم في سوق من دون رقابة على القروض التي يحصلون عليها. فصحيح أنه يوجد قانون ينظم مسألة الفائدة القصوى التي تستطيع السوق السوداء جبايتها، والقصد هنا مكاتب الصرافة الحاصلة على تراخيص عمل من بنك إسرائيل المركزي، ولكن في ظل عدم رقابة على السوق، فإن القانون لا يطبق إطلاقا، فمثلا في حين أن القانون يقول إن الفائدة القصوى التي يمكن جبايتها 6ر9% بالمجمل، والفائدة الاستثنائية على القروض المستعصية تصل إلى 16%، فإنه حسب التقديرات تصل الفائدة الفعلية في السوق السوداء إلى ما بين 100% إلى 150%. كذلك، فإن السلطات لم تلاحظ الممارسات الخطيرة، التي يستخدمها أصحاب السوق السوداء من أجل جباية القروض ضد من يستصعبون تسديد الأقساط.
أما المسار الثاني، الذي كانت ولادته مستعصية لسنوات، فهو قانون الدفع نقدا، الذي دخل حيز التنفيذ في مطلع العام الماضي 2019. فهذا القانون واجه معارضة حادة، من كتلتي المتدينين المتزمتين الحريديم: شاس وبالأساس يهدوت هتوراة، فمن المعروف أنه في هذا المجتمع تنتعش السوق السوداء، وليس فقط لدى الطوائف التي ترفض التعامل مع المؤسسات الإسرائيلية، بل أيضا طوائف تتمثل في الكنيست والحكومة. وبعد تهديدات من مؤسسات مالية دولية رسمية، وأبرزها هيئة "المراقبة الدولية" FAFTE، وهي المنظمة الدولية التي تعمل لمنع تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، اضطرت إسرائيل لسن قانون يضع حدا لمسألة الدفع نقدا. وحسب القانون، فإن سقف الدفع النقدي في أي صفقة، 11 ألف شيكل، مشروط بأن يشكل لا أكثر من 10% من حجم الصفقة، بمعنى أن من أراد شراء بضاعة أو خدمة ما، حجمها الكلي 15 ألف شيكل، فإنه لا يستطيع الدفع نقدا أكثر من 1500 شيكل، والباقي سيكون متاحا دفعه، إما بالتحويلات البنكية أو الشيكات أو بطاقات الاعتماد. وفي المقابل، فإذا كانت الصفقة 200 ألف شيكل، على سبيل المثال، ففي هذه الحالة لن يكون متاحا الدفع نقدا أكثر من 11 ألف شيكل، على مستوى الأفراد.
أما في ما يتعلق بالصفقات التجارية الكبيرة، بمعنى بين مصلحتين تجاريتين، فإن المبلغ النقدي الأقصى الذي يمكن دفعه هو 50 ألف شيكل، وأيضا في هذه الحالة، ممنوع أن يتجاوز المبلغ النقدي نسبة 10% من حجم الصفقة. في حين أنه سيكون متاحا للسياح الدفع نقدا على ما يعادل 55 ألف شيكل. ولكن لا تحديد للنسبة المئوية بالنسبة لصفقات السياح.
كذلك فإن القانون يفرض قيودا على الدفع بالشيكات، إلا أن القيود على الدفع بالشيكات دخلت متأخرة بنصف عام، بدءا من منتصف العام الماضي 2019. ويحظر القانون الدفع بشيك مفتوح، بمعنى دون تسجيل اسم المستفيد، كما توقف نمط الشيكات التي يمكن نقلها من شخص إلى آخر، بمعنى تجيير الشيك لمستفيد آخر، بل ستكون كل الشيكات للمستفيد الأول فقط. إلا أن القانون يمنح استثناء بأن الشيكات التي يمكن تجييرها لا تتجاوز سقف 5 آلاف شيكل، وفي حال التجيير يجب أن يكون مسجلا بشكل واضح اسم ورقم هوية المستفيد الثاني.