يمثل العقيد عوفر فينتر، القائد السابق للواء "غفعاتي" في الجيش الإسرائيلي، أحد أبرز الوجوه الدينية التي تدرجت خلال السنوات الأخيرة في سلم القيادة العسكرية، ليس لكونه متدينا متعصبا ينتمي إلى "التيار الديني الوطني" اليهودي (الذي يمثله حزب "البيت اليهودي"، بوجه أساس) والذي يسجل انتشارا لافتا جدا، واسعا وسريعا، في مختلف درجات القيادة العسكرية في الجيش الإسرائيلي فحسب، بل أيضا بسبب تصريحه المتكرّر عن هذا الانتماء الديني ـ السياسي وإفشائه لمدى ما يشكله (هذا الانتماء) من مرجعية ومنطلق لعقيدته الأمنية وممارساته العسكرية.
وكان فينتر قد أثار عاصفتين اثنتين، بوجه خاص، خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة ("الجرف الصامد") في صيف العام الماضي- 2014، وخلال توليه منصب قيادة "غفعاتي"، أحد ألوية النخبة في الجيش الإسرائيلي.
وعلى الرغم من أنه لم ينه خدمته العسكرية النظامية ولم يخلع بزته العسكرية بعد ـ إذ يقضي في هذه الأيام "سنة دراسية استكمالية" في "كلية الأمن القومي" سيعود في ختامها (وفق المخطط المعلن) إلى صفوف الجيش لتتم ترقيته إلى رتبة عميد وتعيينه في منصب "رئيس مقر قيادة المنطقة العسكرية الجنوبية" ـ إلا أنه تحدث، مؤخراً، عن جوانب عديدة تتعلق بالعاصفتين المذكورتين تحديدا وعن بعض جوانب العدوان الأخير على قطاع غزة، وذلك ضمن كلمة ألقاها في إحدى المدارس الدينية اليهودية (ييشيفاه) في مدينة بيتح تكفا، حيث يقيم، بحضور جمهور كبير من "المتدينين الوطنيين".
وقامت صحيفة "مكور ريشون" اليمينية بنشر مقاطع من هذه الكلمة.
"الرسالة المسيانية"
ثارت العاصفة الأولى في إثر الكشف عن الرسالة الداخلية ("رسالة القائد في المعركة") التي وجهها فينتر إلى جنوده في لواء "غفعاتي" خلال عدوان "الجرف الصامد" وضمنها سيلا من الاقتباسات الدينية، جاعلا من المنطلقات والمعتقدات الدينية "مرجعية" للسلوك العسكري المتوقع من الجنود خلال العدوان، حتى اعتبرتها أوساط واسعة، عسكرية وسياسية وإعلامية، "رسالة مسيانية" لا يجوز وضعها هاديا (دينياً) للجنود في نطاق "نشاط عسكري".
وقال المدير العام لـ"الجمعية من أجل حرية التدين والمساواة"، الحاخام المحامي أوري ريغف، آنذاك، إن رسالة قائد لواء "غفعاتي" إلى جنوده "مؤشر خطير يثير قلقا كبيرا جدا، وحري بسلطات الجيش المسؤولة أن تعلن موقفها حيال هذا الخلط المرفوض والخطير بين الدين والجيش"!.
وأضاف ريغف: "إن الأمر الأخطر في هذه الرسالة هو توجه القائد الذي يحاول إقناع الجنود بأن الحرب حرب دينية"!
وخلص إلى القول: "من الضروري أن يحرص قادة هذا القائد على إفهامه ضرورة الفصل المطلوب بين معتقداته الدينية وبين تأدية مهام منصبه العسكري، بين توجيهات القتال وأوامره وتعزيز روح الجنود وبين الوعظ الديني وتحويل المواجهة إلى حرب دينية دفاعا عن اسم رب إسرائيل وكرامته"!
وكان فينتر كتب في رسالته تلك يقول:
"لقد اختارنا التاريخ لنكون رأس الحربة في القتال ضد العدو الإرهابي الغزّيّ، الذي يجدف، يعلن ويهين رب معارك إسرائيل... نحن نضطلع بهذه المهمة تأدية لرسالة ومن منطلق كوننا مستعدين للمخاطرة وبذل أرواحنا دفاعا عن عائلاتنا، عن شعبنا وعن وطننا... من أجل اجتثاث العدو وإزالة التهديد عن شعب إسرائيل"!
وكتب فينتر، في رسالته أيضا: "إنني أرفع عيني إلى السماء وأتلو الصلوات أدعو فيها الرب إلى الأخذ بأيدينا ومؤازرتنا: سنحارب من أجل شعبك، شعب إسرائيل، ضد عدو يلعن اسمك... وأدعو الرب، كما ندعو في صلواتنا، كي يتحقق ما ورد في التوراة: "إنّ الربّ إلهكم سائر معكم لكي يحارب عنكم أعداءكم ويخلصكم" ... آمين"!
وحاول فينتر، خلال كلمته أمام الييشيفاه، تفسير وتبرير هذه الرسالة وما تضمنته فقال:
"أنا لست قائدا يؤدي شعائر دينية فحسب. إنني أعيش الإيمان. وحين أصل إلى هذه الحرب ("الجرف الصامد") أدرك أن ثمة أشياء تؤرقني لا تخطر في بال قادة عسكريين آخرين. فهل هناك من انتبه إلى التاريخ العبري الذي تصادف مع بدء الحرب؟ إنني أجري حوارا مع الخالق، أو مونولوجا على الأصح لأنه لا يجيبني إطلاقا. لكنني شعرت بأنني أجري حوارا مع رب الكون من منطلق مسؤوليتي التي تقتضي تحقيق النصر وإعادة الجنود إلى بيوتهم سالمين".
وشرح فينتر مضمون رسالته تلك إلى جنوده فقال:
"عندما أكتب رسالة إلى جنودي تتحدث عن الروح القتالية والصلاة العميقة لخالق الكون، فما الذي أبتغيه؟ ... لقد نجحت في تحييد نفسي والقول: إنني أخاطر بنفسي من أجل أبنائك. نجحت في أن أقول لرب الكون: إنني أقوم بما هو أكبر مني وأكبر من قدرتي... أنا لست سوى مبعوث جمهور ولا أفعل هذا من أجل نفسي. أنا أتحدث، إذن، عن الروح القتالية وأستخدم ما قاله الملك داود. وحين أذكر قتلى الملكوت العشرة وأذكر عبارة أن العدو "يلعن اسمك، يهينه ويجدفه" يقولون إن هذا "جهاد يهودي". ليس هناك جهاد يهودي. وهذا يعرفه كل مَن يعرف اليهودية. الجهاد هو حرب دينية لقتل جميع غير المؤمنين. في الإسلام ثمة عالمان، أحدهما هو عالم مستقبلي جميع البشر فيه مسلمون. أما في اليهودية، في المقابل، فليس ثمة تبشير ولا نية لتهويد الجميع. ولذا، ليس ثمة جهاد يهودي هنا، وإنما حرب تنطلق من الإيمان".
ولم يحاول فينتر خلال كلمته في بتيح تكفا نفي وصف رسالته تلك بأنها "مسيانية"، بل قال: "توجه إلي شخص يدرس معي (في كلية الأمن القومي) وسألني: هل أنت مسياني؟ قلت: أتعرف؟ يبدو أنني كذلك. فوالداي وجدّي وجدتي كانوا كذلك أيضا. منذ دراستي في أور عتصيون (إحدى أهم وأبرز المدارس الدينية ـ ييشيفوت ـ التابعة للتيار الديني الوطني اليهودي) أتلو، في نهاية الصلاة، دعاء "أومن بقدوم المسيح المنتظر". فهل أنا مسياني، أم لا؟ لكن السؤال عن هذا يخبئ مكيدة: فالسؤال هل أنت مسياني؟ هو مثل السؤال: هل أنت كهانيّ (من أتباع الحاخام مئير كهانا)؟ أو هل أنت فاشيّ؟. كلا، ولكن معا سوف ننتصر. ثمة خطوط حمراء. يجب أن نكون موحدين، بكثير من الحب. وعندئذ سوف نصل. أنا أعرف إلى أين أريد أن أصل وأومن بما أقرأ".
وقال فينتر إن إسرائيل والشعب اليهودي لا يواجهان الآن خطرا وجوديا، ولذا "لدينا الوقت الكافي لتوضيح مَن نحن". ثم تساءل: "لماذا أرض إسرائيل، بالذات؟ هل ثمة حاجة إلى أرض إسرائيل كلها؟". ويجيب: المسألة ليست بسيطة. ثمة خلافات ومشاحنات، لكن الأمر الأهم في نظري هو التذكير بأننا يمكن أن ننتصر فقط إذا كنا موحدين. وفي الخلافات، أول ما يتبادر إلى ذهني هو حملة الاقتلاع (إخلاء المستوطنات) من غوش قطيف (قطاع غزة).
وأضاف: "إن من هاجمني بسبب الرسالة رأى كما يبدو السلاح عبر الصور فقط، لم يشارك في حياته في معركة ولا يعلم ما هي الروح القتالية... قبل الخروج للمعركة أنا أقرأ أمام جنودي أقوال كاهن الحرب: "إسمع يا إسرائيل ستخرجون اليوم للحرب" إلخ. لا يوجد أحد منهم، بل وحتى الأكثر علمانيّة، لا يتلو وبنيّة كبيرة هذه الصلاة قبل الخروج للمعركة. في المعركة، حيث يعلم الجنود أنّهم قد يفقدون الشيء الأغلى بالنسبة لديهم، حياتهم، فإنّهم يتّصلون بحقيقتهم. حين يكون الإنسان في خطر الموت، فإنّه يتّصل بحقيقته الداخلية الأعمق، وحين يحدث ذلك، فإنّ الكافر الأكبر أيضًا يلتقي بالله. هذا هو السبب في أنّ الإيمان يملأ قلوب الجميع وقت الحرب، فضلا عن أنّهم يرون الكثير من المعجزات، حيث من الصعب عدم الإيمان".
وتطرق فينتر إلى عاصفة أخرى أثارها حين قال لبعض الصحافيين الذين دخلوا إلى قطاع غزة، إبان العدوان: "لو أنهم يحررون لنا الفرامل فقط، فسنصل إلى البحر"، والتي اعتبرها البعض نقدا مباشرا للمسؤولين السياسيين، فنفى فينتر أن يكون هذا مقصده وقال: "إن الإعلام هو جزء من الحرب. وقد جرت هذه الحرب في صالونات الكثير من الناس. صدرت إليّ أوامر بالسماح لثلاثة مراسلين صحافيين بالدخول إلى قطاع غزة ليشاهدوا ما نفعل. أردت من خلالهم إيصال رسالة إلى حركة حماس وقلت إنه إذا ما حرروا لنا الفرامل فلن نراهم هنا بعد اليوم.... تلقيت رسالة عاجلة من قائد كبير يدعوني إلى التروّي، لأنني برأيه أصف القيادة السياسية بالضعف والتردد. قلت له: لم يخطر هذا ببالي مطلقا. أردت فقط إعلام قادة حماس بأنهم ليسوا هم الذين يصدوننا وإنما قياداتنا العليا، وإذا ما أفسحت القيادة لنا المجال فسنوجه لهم صفعة قوية مدوية".
"حماس تعرف ما يخيفنا لكننا فاجأناها"!
عن العدوان الأخير على غزة ("الجرف الصامد")، قال فينتر إن "القضية في غزة لم تكن تهديدا على وجود دولة إسرائيل. حماس لا تتوهم أنها تستطيع احتلال دولة إسرائيل. أقصى ما يمكنها تحقيقه هو تكبيدها (إسرائيل) بعض الأضرار وقتل بعض الأشخاص. لكن المسألة أنه كانت هناك درجة عالية من التخويف. فقد درست حركة حماس شعب إسرائيل جيدا وأصبحت تعرف أكثر ما يخيفنا: سقوط جنود قتلى، العبوات، الصواريخ على إسرائيل، الجنود المخطوفون. فحين كان أحد جنودنا مخطوفا، ضجت الدولة كلها. أعتقد أننا نأخذ التخويف بجدية تفوق حجمه الطبيعي. بل أستطيع القول إن رعبا قد دب فينا. لا أقول هذا باستخفاف، بل أعرف من تجربتي أننا كنا مضطرين، في كثير من الأحيان، إلى تقديم خطط عسكرية لا لشيء سوى لتقوية المستوى السياسي وطمأنته على أننا قادرون على مواجهة التحدي والتهديد. كان ثمة شعور بأننا نصدق العدو الذي يقول لنا: "هنا ستكون مقبرتكم" و"تعالوا حتى نذبحكم". ولقد استعدت حماس جيدا لهذه اللعبة".
وعن "حرب الأنفاق"، كشف فينتر أنه كان من بين المعارضين لدخول قوات من الجيش الإسرائيلي إلى الأنفاق في قطاع غزة موضحا: "قبل الحرب ببضعة أشهر أجرينا تدريبا واسعا يحاكي حربا في داخل قطاع غزة. وخلال ذلك طُلب مني عرض تحقيق حول الأنفاق اكتشفت خلاله أمورا مثيرة، منها مثلا أنهم يدربون جنود الجيش بصورة مغلوطة ـ إما تفجير الأنفاق أو الدخول إليها والقتال، كما في موقع محصن. قلت، في هيئة رفيعة جدا: جنود غفعاتي لن يدخلوا إلى الأنفاق. إذا ما مددت يدا إلى جحر الأفعى، فمن الواضح أنك ستُلدغ. نحن لا نخاف، لكننا لسنا أغبياء. قدمت اقتراحات أخرى بديلة، وطوّرنا معدات وأجهزة معينة وفي نهاية الحرب حصلنا على جوائز عنها".
وقال: "لقد جهزت حركة حماس نفسها واستعدت للقتال طوال سبع سنوات. كان تقديرها أننا سنأتي إليهم من المواقع التي حددوها هم، بناء على تحليل عمليات سابقة. كشفنا الأمر وتوصلنا إلى الاستنتاج بأنه ليس من الصحيح مهاجمتهم وجها لوجه، بل ينبغي أن نفاجئهم من الخلف. هذه نقطة الضعف لديهم. وبالفعل، وضعنا قوة عسكرية في المقدمة للتمويه، من المكان الذي اعتقدوا أننا سنأتيهم منه، بينما أجرينا في ساعات الليل مناورة بمشاركة كتيبتين ونصف كتيبة. وفي الصباح، حين استيقظت حماس، اكتشفت أننا خلفهم، وراء ظهرهم. ولذا، فلم نصطدم بأية مقاومة، تقريبا. تركوا أسلحتهم وهربوا. أحد الأسرى قال خلال التحقيق معه: تدربنا خلال سنوات على أن تأتوا من هنا، لكنكم أتيتم من الخلف"!
وقال فينتر: "للأسف، فإن بعض الألوية والوحدات تصرفت بشكل مختلف. وأنا لا أقصد امتداح غفعاتي، لكن الحرب في تلك المواقع كانت أسهل منها في مواقع أخرى".