أقرت الحكومة الإسرائيلية، في الأسبوع الماضي، مشروع تعديلات ميزانية العام الجاري 2024، والتي تطرح في أعقاب تبعات وكلفة العدوان المستمر على قطاع غزة، وتشمل التعديلات ضربات اقتصادية متعددة الاتجاهات للجمهور، منها ما سيدخل حيز التنفيذ فورا، ومنها ما سيكون في العام المقبل 2025. في المقابل فإن الحكومة أقرت إضافة 55 مليار شيكل لميزانية الجيش، وهي زيادة بنسبة 70% عن الميزانية المقررة مسبقا، لكن هذه بداية لزيادة سنوية مشابهة حتى العام 2027؛ ويطرح المختصون سؤال: "من أين؟". وفي الوقت نفسه فإن أحزاب الائتلاف حافظت على الغالبية الساحقة من الميزانيات التي تخدم جمهور مصوتيها، رغم العبء الكبير على الجمهور العام. وفي ظل كل هذا، يحذر خبراء ومحللون من أن السوق الإسرائيلية مقبلة على موجة تضخم مالي كبير، في العام الجاري، بعد لجمه في العام الماضي، نسبياً.
وصوّت كل وزراء الائتلاف الأساسي، باستثناء وزير واحد، لصالح كل التعديلات، بينما عارض الميزانية وزراء كتلة "المعسكر الرسمي" بزعامة بيني غانتس، التي انضمت إلى حكومة الحرب، ووجودها في الحكومة يستمر طالما حالة الحرب مستمرة، وفق الاتفاق الموقع بين الكتلة وكتلة حزب الليكود. وليس واضحا كيف سيكون أداء الكتلة في التصويت في الهيئة العامة للكنيست، حتى يوم 20 شباط المقبل، الموعد الأخير لإقرار هذه التعديلات.
ففي الخطوط العامة، أقرت الحكومة تقليص ميزانيات الوزارات المختلفة، باستثناء الجيش، بنسبة تتراوح ما بين 3% إلى 5%، يضاف إليها تجميد أو تأجيل تنفيذ مشاريع بنى تحتية، منها ما يتعلق بشبكة المواصلات، وخاصة مشاريع القطار الخفيف في عدة مناطق، وتقليص ميزانيات تخصصية، كانت قد وعدت بها الحكومتان الحالية والسابقة، لكنها لم تدخل حيز التنفيذ، ومنها ميزانيات للبلديات والمجالس القروية العربية، وغيرها.
في المقابل، فإن الميزانيات المخصصة لأحزاب الائتلاف الأساسي، لتقرر بشأن صرفها، وهي تُعد ميزانيات زائدة تفضيلية، لا تخدم كل الجمهور، جرى تقليص جزء منها، لا يتعدى 25%، وهي ما تعادل 2.8 مليار شيكل، وسط انتقادات حادة ظهرت بشكل خاص في الصحافة الاقتصادية، فيما كان بنك إسرائيل المركزي قد طالب الحكومة بوقفها بالكامل، كونها لا تساهم في النشاط الاقتصادي، ودفع النمو الاقتصادي إلى الأعلى؛ وكما أشرنا من قبل، فإن هذه ميزانيات بغالبيتها الساحقة تخدم جمهورين أساسيين: المتدينون المتزمتون، "الحريديم"، وجمهور التيار الديني الصهيوني، العصب السياسي الأساس للمستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.
وسنرى لاحقا، أن الجيش حصل على زيادة ضخمة، هي دفعة ثانية، بعد ما حصل على دفعة أولى، في نهاية العام الماضي، إذ تمت زيادة ميزانياته بـ 55 مليار شيكل، عدا حوالى 53 مليار شيكل موعود بها، كدعم إضافي من الولايات المتحدة الأميركية.
ولتغطية هذه الكلفة الزائدة بعد التقليصات، فإن الحكومة ستزيد المديونية بنسبة كبيرة. فقد انتهى العام 2023 بزيادة المديونية بنحو 40 مليار شيكل، عن المخطط، لأن حجم المديونية بلغ مع نهاية العام الماضي، تريليون و127 مليار شيكل (أكثر من 300 مليار دولار)، وهذا يشكل نسبة 62.1% من حجم الناتج العام، في حين أن إجمالي الدين حتى شهر أيلول الماضي 2023، كان دون نسبة 60% من حجم الناتج العام.
وحسب مخطط الحكومة فإن حجم المديونية قد يرتفع مع نهاية العام الجاري إلى نسبة 68% على الأقل، لكن خبراء يتوقعون نسبة أعلى.
مضاعفة ميزانية الجيش الإسرائيلي
ضمن تعديلات الميزانية، تم رفع ميزانية الجيش الإسرائيلي بـ 55 مليار شيكل، إضافة إلى ما بين 78 مليارا وحتى 80 مليار شيكل كانت مقررة كميزانية أساسية، حينما أقرت ميزانية العام 2024 في شهر أيار الجاري، ومن أصل الميزانية الأساسية، أكثر من 13 مليار شيكل، هي الدعم العسكري السنوي الأميركي لإسرائيل، بقيمة 3.8 مليار دولار.
وكان الرئيس الأميركي جو بايدن أعلن منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي تقديم مساعدة استثنائية بقيمة 14.3 مليار دولار (قرابة 53 مليار شيكل)، لتمويل الحرب. لكن البيت الأبيض قدم مشروع القرار سوية مع قرار آخر يتضمن مساعدة إضافية ضخمة لأوكرانيا؛ وفي حين أن الغالبية العظمى جدا من نواب الكونغرس الأميركي من الحزبين، الجمهوري وهم الأغلبية، والديمقراطي، حزب الرئيس بايدن، متفقة على المساعدة لإسرائيل، ولا مشكلة في تمرير القرار، فإن النواب من الحزب الجمهوري يعارضون زيادة الدعم لأوكرانيا، ولهذا فإن القرار الذي يخص إسرائيل ما زال عالقا، وفي نهاية المطاف سيُقر، والسؤال متى؟
لكن هذه الزيادة الحكومية للجيش هي "سلفة" على حساب زيادة سنوية يريدها الجيش على مدى 4 سنوات، بدءا من العام الجاري حتى العام 2027، بقيمة إجمالية 240 مليار شيكل، بمعنى 60 مليارا سنويا، لصرفها على تبعات الحرب، وما سيقود من استنتاجات لجاهزية الجيش، التي تلقت ضربة حادة جدا، وليس فقط معنوية، في هجمات السابع من تشرين الأول 2023.
وأولى مهمات الجيش ملء المخازن من الذخيرة، وليس فقط بالمستوى الذي كان، بل أكبر، وتعويض النقص بمئات الآليات التي إما دمرت أو خرجت من الخدمة، والعمل على زيادة عدد أفراد الجيش النظامي، وإلغاء المخطط السابق لتقليص جيش الاحتياط على مستويين: خفض جيل الحد الأقصى لخدمة الاحتياط، وتقليص عدد أيام الاحتياط السنوية.
في كل موسم إقرار ميزانية إسرائيلية عامة، كانت تثور ضجة حول ميزانية الجيش، بدعوى أنها تحمل بنود بذخ، وكانت تنتشر المقالات في الصحافة الإسرائيلية، خاصة الاقتصادية، التي تطالب الجيش بتنجيع إدارته المالية. وكانت الانتقادات تتركز في مستوى الرواتب والامتيازات المالية، وبشكل خاص رواتب التقاعد بالذات لأصحاب الرتب العسكرية العالية، لكن هذه الانتقادات لم تشمل مستويات التسلح والجاهزية العسكرية.
وفي هذا الموسم، بالإمكان القول إن هذا الجدل اختفى، ولم نقرأ أو نسمع مطالبة الجيش بخفض نفقاته على أفراد الجيش والضباط، ورغم هذا برز السؤال: "من أين يكون هذا التمويل على مدى 4 سنوات؟".
كما أشرنا في مقال سابق هنا، فإن 240 مليار شيكل تعادل 12% من حجم الناتج السنوي العام، وتعادل 68% من حجم الميزانية السنوية الفعلية، بمعنى من دون أموال تسديد الديون والفوائد، التي تشكل عادة 32% من حجم الموازنة العامة، لهذا فإن مطلب الجيش وفي ظروف حرب كهذه، لا يجد من يعارضه في المستوى السياسي، لكنه هناك من يحذر من أنه سيعمق الأزمة الاقتصادية أكثر، ويرفع المديونية إلى مستويات لم تعرفها إسرائيل منذ 12 عاما، وهذا سيهدد مكانة إسرائيل في المؤسسات المالية العالمية، وتدريج الاعتمادات لإسرائيل، بمعنى ستضطر إسرائيل للحصول على قروض بفوائد أعلى.
وبحسب المحللة الاقتصادية ميراف أرلوزوروف، في مقال لها في صحيفة "ذي ماركر"، فإن "الجيش الاسرائيلي كان حتى الآن عقلانيا بما فيه الكفاية، كي لا يلقي على وزارة المالية فشل 7 تشرين الأول، أي لا يوجد ادعاء جدي بأن النقص في الميزانية هو عامل الفشل في يوم السبت الأسود، لكن هذه النزاهة تنتهي عند الوصول إلى مناقشة ميزانية الدولة"؛ إذ يطالب الجيش بالاستعداد لـ "العهد الجديد" من حيث تعزيز القوة البشرية والتسلح، كما قالت.
وتابعت أنه توجد مشكلة جوهرية في طلب الجيش؛ "إذ لا يوجد أي خلاف على أنه سيتم تخصيص مبالغ ضخمة، 150 مليار شيكل وأكثر، لصالح تسديد كلفة الحرب (العسكرية)، وتجديد كل احتياطي الأسلحة الذي نفد... فالجيش يصمم على إدخال أيضا النقاشات حول زيادة قوته طويلة المدى، أي أنه لا يكتفي الآن فقط بتجديد الاحتياطي الذي كان قبل الحرب... هذا يدفع الحكومة إلى زاوية عبثية في تحديد نظرية أمنها وإثقال ميزانية الدولة بمبلغ اضافي هو 60 مليار شيكل سنويا لأربع سنوات، ما يعني رفع ميزانية الجيش الثابتة من 60 إلى 120 مليار شيكل سنويا... من الواضح أن هذا سلوك غير جدي وغير معقول". (وهذا لا يشمل مبلغ حوالي 13 مليار شيكل سنوي، ما يعادل الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل).
التضخم المالي والدولار
سجل التضخم المالي في العام الماضي 2023، ارتفاعا بنسبة 3% "فقط"، بحسب ما أعلنه مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي في الأسبوع الماضي، وفي ظروف عادية، كان من المفترض أن تحتفل الحكومة الإسرائيلية، وخاصة وزير ماليتها ورئيسها، بما كان يمكن تسميته "إنجازا"، كون هذه النسبة هي السقف الأعلى الذي وضعته السياسة الاقتصادية، منذ مطلع سنوات الألفين، لكن هذا الاحتفال لم يكن، لأن تراجع التضخم السريع في الشهرين الأخيرين من العام الماضي، كان ناجما عن تباطؤ في حركة السوق الإسرائيلية، إذ تراجع التضخم في شهر تشرين الثاني بنسبة 0.3%، وفي الشهر الأخير، كانون الأول، تراجع بنسبة 0.1%.
والتراجع في حركة السوق هو انعكاس لحالة القلق في الشارع الإسرائيلي من المستقبل الاقتصادي، وأيضا بسبب شلل قطاعات صرف جدية، أو تراجع عملها بشكل حاد، مثل شبكات المطاعم وأماكن الترفيه، والسياحة في الاتجاهين، في حين أن القلق يؤدي عادة لتراجع في شراء ما هو ليس مستعجلا، أو بالإمكان تأجيله.
وهذا الاستنتاج تدعمه الحصيلة السنوية لحركة الأسعار في السوق، فرأينا في تقرير مكتب الإحصاء، أن أسعار الخضار والفواكه سجلت في العام الماضي بالمجمل ارتفاعا بنسبة 13.6%، وساهم في هذا تراجع قطف المحاصيل بفعل الحرب على قطاع غزة، كذلك فإن أسعار المواد الغذائية ارتفعت بنسبة 4.2%، وكان هناك ارتفاع في العديد من فروع الاستهلاك، لكن بالذات أسعار الملبوسات والأحذية تراجعت بنسبة 10.4%، وهذا التراجع تزايد في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الماضي، إثر تراجع الطلب.
وكانت التقديرات الرسمية التي تلت اندلاع العدوان على قطاع غزة، تشير إلى أن التضخم المالي في العام الماضي 2023 سيرتفع بنسبة 3.7%، وأنه في العام الجديد 2024، سيكون التضخم 2.8%. إلا أن الخبراء والمحللين باتوا يتوقعون أن التضخم في هذا العام سيكون أعلى بكثير من التقديرات، وهذا يعود لعدة أسباب، من بينها ارتفاع أسعار مواد حياتية واستهلاكية مع افتتاح العام الجديد، وكان أولها الوقود بنسبة 4%، بعد أن قررت الحكومة وقف عملية تخفيض الضريبة العالية، بفعل العجز الكبير الحاصل في الميزانية العامة، وأيضا رفع أسعار مواد غذائية عديدة، أعلنتها شركات مختلفة، في حين أن سعر الكهرباء للمستهلك سيرتفع هو أيضا بنسبة 2.6% في مطلع شباط المقبل.
الأمر الآخر هو سعر صرف الدولار، الذي ارتفع أمام الشيكل بنسبة قاربت 4%، منذ اليوم الأول من الشهر الجاري، وحتى يوم إغلاق التداول الأسبوعي الرسمي (الجمعة 19 كانون الثاني)، وكان سعر الصرف في محيط 3.75 شيكل للدولار، وهذا الارتفاع سيقود إلى ارتفاع أسعار كبير، إذا لم يقرر بنك إسرائيل المركزي التدخل مرّة أخرى، ببيع مليارات الدولارات لخفض قيمة الدولار أمام الشيكل.
فقد أعلن البنك المركزي بعد أسبوعين من اندلاع العدوان عزمه على بيع 30 مليار دولار، لكنه باع 8.2 مليارات حتى يوم 24 تشرين الأول الماضي، وأوقف العملية مع تهاوي سعر الدولار، أيضا بفعل عوامل خارجية.
وفي حال تطبيق توقعات الخبراء، فإن الجمهور في إسرائيل سيكون واقعاً بين مطرقة رفع الضرائب العامة وحجب ميزانيات بنيوية وخدماتية، وبين سندان قيمة الشيكل أمام الدولار، وهذا من شأنه أن يعمق الأزمة الاقتصادية.