في هذه المقالة (السابعة والأخيرة في هذه السلسلة)، نختتم هذا العرض التفصيلي الذي قدمناه لما توصل إليه مشروع مشترك للرصد والتوثيق أطلقته مؤسستان إسرائيليتان بارزتان في أعقاب الهجوم المباغت الذي شنته المقاومة الفلسطينية على القواعد العسكرية والبلدات المدنية في منطقة ما يسمى "غلاف غزة" في عمق الأراضي الإسرائيلية يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. وقد خلص المشروع المذكور إلى وضع ما يمكن تسميته "وثيقة المفاهيم المركزية" الأبرز التي شكلت قاعدة الرؤية الأمنية ـ السياسية الإسرائيلية التي يُجمع المجتمع الإسرائيلي، بشكل شبه تام، على حقيقة أنها مُنيت بالفشل الذريع، بل بالانهيار التام، في "يوم السبت الأسود" وعلى أنّ مسيرة إعادة ترميم ما ينبغي ترميمه في العقيدة السياسية والأمنية الإسرائيلية يتطلب، أولاً وكشرط ضروري لا مهرب منه، تحديد تلك المفاهيم التي حكمت العقيدتين السياسية والأمنية في إسرائيل عقوداً من الزمن، وأنه بدون ذلك لن يكون بالإمكان، من ثم، إعادة هيكلة الأجهزة، المنظومات والأذرع المكلفة بتطبيق هذه العقيدة في المستقبل. وقد رسمت مؤسستا "بيرل كتسنلسون" (شعارها المركزي: "نبني أسساً طويلة الأمد لمعسكر المساواة في إسرائيل") و"مركز مولاد" (لتجديد الديمقراطية في إسرائيل)، في "وثيقة المفاهيم" هذه خارطة تفصيلية لعشرة مفاهيم هي "المفاهيم المركزية التي انهارت، فقادت بنفسها وبانهيارها إلى الإخفاق". وكنا قد عرضنا في الحلقات الست السابقة لتسعة من هذه المفاهيم المركزية، كان آخرها العرض الذي قدمته الحلقة السابقة (السادسة) للمفهومين الثامن والتاسع، تحت العنوانين التاليين: "إسرائيل تتقوى بتقليص القطاع العام" و"تعيين المقربين يساهم في تقوية الدولة وتعزيزها".
ونعرض، في هذه الحلقة (الأخيرة)، للمفهوم المركزي العاشر في "وثيقة المفاهيم" والذي جاء تحت عنوان: "في وقت الحرب، سينقلب المواطنون العرب ضد الدولة" ـ وهو عنوان مُقتبَس، حرفياً تقريباً، من التصريحات التحذيرية المتواترة الذي أطلقها قادة سياسيون وأمنيون إسرائيليون خلال سنوات عديدة ماضية، لكنها اتخذت طابع الرؤية الأبوكاليبتية خلال الأشهر الإثنيّ عشر منذ تشكيل الحكومة الإسرائيلية الحالية ـ "حكومة اليمين الخالص" بتشكيلتها الوزارية التي تضم أشخاصاً مدانين بارتكاب مخالفات جنائية خطيرة، منها دعم الإرهاب، منفلتي العقال في يمينيتهم التوراتية المسيانية.
مخاوف قديمة ولّدتها المؤسسة وأججتها!
في أعقاب هجوم 7 تشرين الأول وحرب الإبادة التي شنتها إسرائيل ضد قطاع غزة، بدأ كثيرون من اليهود الإسرائيليين التعبير العلني عن تخوفهم من أن يؤدي اشتعال الجبهة الجنوبية في قطاع غزة وارتفاع درجة التوتر والضربات المتبادلة على الجبهة الشمالية مع حزب الله إلى انفجار "جبهة ثالثة بين العرب في داخل إسرائيل". إلا أن هذا التخوف لم يأت من فراغ ولم يكن وليد لحظته تلك، بل هو ما ولّدته وكرّسته السياسات الإسرائيلية الرسمية في التعامل مع الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل على مدى عقود عديدة وفي جميع مجالات الحياة، ثم جاء وزراء الحكومة الحالية وأمعنوا في تأجيج هذه المخاوف والوصول بها إلى مستويات مقلقة جداً وغير مسبوقة.
على سبيل المثال فقط، لا الحصر، أعلن وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، منذ لحظة تعيينه في هذا المنصب الوزاري (المسؤول عن الشرطة الإسرائيلية) أن "الانتفاضة الداخلية بين المواطنين العرب هي مسألة وقت فقط"، ثم دعا إلى شن "حملة حارس الأسوار رقم 2 في القدس الشرقية"! وكان واضحاً بذلك، أن بن غفير لا يتوقع سيناريو انفجار "انتفاضة داخلية" ولا هو يشير إلى "تقديرات مهنية" مبنية على تقارير استخباراتية سرية، ولا هو يخشى هذا السيناريو حتى، إنما هو يأمل ويتمنى أن يتحقق مثل هذا السيناريو، وبأعنف صورة ممكنة، لا بل هو يدفع نحوه بصورة فاعلة من خلال تعامله، ثم تعامل الشرطة تحت مسؤوليته الوزارية، مع المواطنين العرب.
وبعد أحداث 7 تشرين الأول، عاد بن غفير ليكرر تصريحاته/ تحذيراته السابقة معلناً أن "حارس الأسوار رقم 2 على الباب، برأيي". وعبر تصريحاته المتواترة وممارساته المختلفة منذ بدء الحرب ضد قطاع غزة، بما في ذلك الحملة الواسعة لتسليح المدنيين اليهود، بصورة وطريقة لا تعتمدان أي معايير مهنية أو قانونية، كما أعلنت الجهات القانونية المعنية لاحقاً، ثم إعادة الحديث عن ضرورة تشكيل مليشيات "الحرس القومي"، ما يثبت، مرة أخرى، أنه قد فعل كل ما في وسعه وأكثر لإشعال عود الثقاب في "الجبهة الثالثة".
وليس ثمة إثبات على هذا الكلام أقوى من اتهام المفتش العام للشرطة، يعقوب شبتاي، لعضو الكنيست إيتمار بن غفير بشكل مباشر وصريح بأنه هو الذي كان وراء إشعال الفتنة المحلية بين العرب واليهود في مدينة اللد في أيار 2021 ـ "هبة الكرامة". وهو الاتهام الذي أشهره شبتاي ضد بن غفير حين كان الأول مفتشاً عاماً للشرطة في تلك الفترة (أيار 2021)، لكن تحت قيادة شخص آخر هو أمير أوحانا كوزير لـ "الأمن الداخلي" (هذا كان اسم الوزارة قبل أن تغيره الحكومة الحالية إلى "وزارة الأمن القومي").
لكنّ بن غفير لم يكن الوحيد في حملة التحريض ضد المواطنين العرب، من جهة، وتأجيج المخاوف لدى الجمهور اليهودي، من جهة أخرى، سعياً إلى تفجير الأوضاع بصدامات بين المواطنين العرب واليهود، وخاصة في "المدن المختلطة" (المدن الساحلية). فقد شاركه في ذلك كثيرون من وزراء الحكومة الحالية وأعضاء الكنيست من الائتلاف البرلماني. وكان هدف هؤلاء جميعاً إثبات "حقيقة أساس" واحدة هي: أن المواطنين العرب في دولة إسرائيل يتحولون إلى طابور خامس في وقت الحرب وينقلبون ضد الدولة ومؤسساتها.
التضامن... الأعلى على الإطلاق!
لم يقع الفلسطينيون في إسرائيل في حبائل بن غفير وكل من زامله في اليمين الإسرائيلي ولم يسقطوا في الشراك التي كان هؤلاء يعدّونها لهم، بتواطؤ ثلاثيّ من جهاز الشرطة الإسرائيلية، الذي يقوده بن غفير، وجهاز المستشار القانوني للحكومة والنيابة العامة للدولة ـ وهو ما ظهر في حملة الاعتقالات والمحاكمات الترهيبية بشبهة "دعم الإرهاب"، التي شنتها هذه الأجهزة الثلاثة ضد عدد كبير من الشابات والشبان العرب الفلسطينيين مواطني إسرائيل لمجرد التعبير عن رفضهم للحرب وتعاطفهم مع أبناء شعبهم في قطاع غزة. فلو سقط الفلسطينيون مواطنو إسرائيل في تلك الشراك، لوجدوا الدولة كلها متجندة، بكل أجهزتها وأذرعها، ليس لقمعهم بأعتى الوسائل وأعنف الأشكال وأثمان دموية باهظة، بل لتقديمهم فيما بعد لمحاكمات انتقامية بالجملة، كما حصل في أعقاب أيار 2021.
ويشير معدو "وثيقة المفاهيم" إلى أنه "خلافاً لخطط بن غفير والآخرين في الحكومة، ما زال المواطنون العرب حتى الآن، بعد مضي ثلاثة أشهر على بدء الحرب، بعيدين عن استخدام العنف. وبدلاً من ذلك، تصرف المجتمع العربي حتى الآن بدرجة عالية من المسؤولية، ضبط النفس والانضباط التي تستحق الإشادة". وأضافوا: "كما أثبت المجتمع العربي أنه شريك في ألم المجتمع الإسرائيلي كله حيال مذبحة السابع من تشرين الأول، بالرغم من أن لكثيرين من المواطنين العرب في إسرائيل أقرباء في قطاع غزة".
ورأى هؤلاء أن "هذا لم يكن مجرد صدفة. فقيادة المجتمع العربي، سواء على الصعيد المحلي والجماهيري أو على الصعيد القُطري، بذلت جهوداً كبيرة لمنع توتر الأجواء وعدم تمكين عناصر متطرفة ـ عربية ويهودية ـ من دهورة الدولة إلى حالة من الفوضى العارمة والعنف االمنفلت". وأوردت الوثيقة هنا نماذج من تصرفات القيادات العربية في داخل إسرائيل في هذا الاتجاه وسعياً إلى هذا الهدف. كما استشهدت أيضاً بنتائج استطلاع للرأي أجره "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" بعد نحو شهر من اندلاع الحرب ضد قطاع غزة، والتي بينت أن "مستوى تضامن المواطنين العرب مع دولة إسرائيل اليوم هو الأعلى من أي وقت مضى، على الإطلاق"! ثم استعانت أيضاً بنتائج استطلاع آخر للرأي أجراه "مركز دايان" في جامعة تل أبيب ونُشرت في مطلع شهر كانون الأول ـ أي بعد نحو شهرين على بدء الحرب ـ ومنها تبين أن 66% من المواطنين العرب "يؤيدون انضمام حزب عربي إلى الائتلاف الحكومي بعد الانتخابات العامة المقبلة" وأن "غالبية المشاركين في الاستطلاع تنظر بإيجابية إلى مشاركة مواطنين عرب في الجهود الإعلامية الإسرائيلية في خارج البلاد، خلال الحرب"! وأشار معدو الوثيقة إلى استطلاع آخر للرأي أجراه "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" نشر في 25 كانون الأول 2023 تحت عنوان: "استطلاع مواقف المجتمع العربي في موضوع حرب السيوف الحديدية: نحو ثُلثيّ المواطنين العرب يشعرون بأنهم جزء من دولة إسرائيل ومشاكلها". وشدد معدو الوثيقة على أن هذا الاستطلاع بيّن أن "87% من المواطنين العرب يؤيدون مشاركة المجتمع العربي في جهود المساعدات الإنسانية خلال الحرب (المقصود هنا المساعدة التي جرى تقديمها إلى المواطنين اليهود الذين هربوا من بيوتهم وبلداتهم من جراء الحرب) وأن غالبية المواطنين العرب يعتقدون بأن أعمال حركة حماس لا تمثل المجتمع العربي ولا تمثّل الإسلام"!
وخلصت الوثيقة إلى الاستنتاج الذي يقول إنه "بالرغم من محاولات إشعال الحرب الداخلية، فتح جبهة إضافية والنظر إلى المواطنين العرب باعتبارهم عدواً من الداخل، ورغم التوترات والحساسيات، فإن المجتمع العربي يتصرف منذ تشرين الأول بمسؤولية وتضامن مع سائر المجتمع الإسرائيلي، ويتضامن مع الكلّ الإسرائيلي ويشعر بانتماء إليه"!