سُجّلت في العام 1994 لحظة تاريخية في سجّل الكنيست. فتحت قيادة عضو الكنيست ديدي تسوكر من حزب ميرتس، الذي كان يترأس في ذلك الحين لجنة الدستور والقانون والقضاء، تم إدراج بند مهم في "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته"، وفي "قانون أساس: حرية العمل". ومما جاء في التعديل: "حقوق الإنسان الأساسية في إسرائيل... يجب احترامها بروح المبادئ الواردة في وثيقة إعلان قيام دولة إسرائيل". وهكذا، تم لأول مرة في تاريخ البرلمان الإسرائيلي، ترسيخ مبادئ وثيقة الاستقلال في قانون أساس. من جهته، لم ينضم رئيس الحكومة في حينه إسحاق رابين إلى فرحة شريكه في الائتلاف، خوفاً من أن تؤدي هذه الخطوة إلى الإضرار بقدرته على إعادة حزب شاس إلى الحكومة. وقال إن "إدخال إعلان الاستقلال إلى قوانين الأساس هو غباء"، مضيفا أن "هذه القوانين يعدّها حقوقيون لم يسبق لهم أن شاركوا في التطبيق". من جهة أخرى، أقرّ القاضي أهارون باراك بالأهمية التاريخية لهذا التشريع. وكتب "إننا حيال تغيير جوهري في المكانة القانونية لإعلان الاستقلال"، مفسّراً أنه "أصبح مصدرا مستقلا لحقوق الإنسان".
انقضى نحو 30 عاماً منذ ذلك الحين. لقد اغتيل رابين، ومات حزب ميرتس في صناديق الاقتراع، وبات باراك، الذي سبق أن خرج إلى التقاعد، عدوا لمؤيدي الانقلاب على الحكم. ومع ذلك، فإن الجدل حول النفاذ القانوني والدستوري لإعلان الاستقلال لم يُحسم بعد. إذ عاد هذا الأسبوع إلى مركز الطاولة. المسؤول عن ذلك هو المحامي إيلان بومباخ، الذي يمثل الحكومة في الالتماسات المقدمة إلى محكمة العدل العليا ضد قانون تقليص حجّة المعقولية. وقد قال عن إعلان الاستقلال "لا يُعقَل أن 37 شخصاً لم يتم انتخابهم أبداً... قد خلقوا لنا دون أن يقصدوا وثيقة تسمى دستوراً يكبّل أيدي كل الأجيال التالية". وهكذا، فقد ضجّت السياسة، عالم القانون، الرأي العام ووسائل الإعلام خوفاً من ذبح بقرة مقدسة أخرى. ولكن الأرشيف يُظهر أن هذه هي حلقة إضافية في سلسلة طويلة من النقاشات، التي بدأت في العام 1948 وتستمر على نحو متقطع حتى يومنا هذا، على امتداد 75 عاماً. وينخرط فيها سياسيون وقضاة، من اليمين واليسار.
على مرّ الأعوام، لم تكن المكانة القانونية لإعلان الاستقلال "خالية من الشكوك"، مثلما كتب أهارون باراك لاحقاً. إذ اتفق الجميع على أن الوثيقة تعبر عن رؤية الشعب و"إيمانه الأساس"، ولكن الرأي السائد لم يعتبرها قانوناً يقضي فعلياً بوجود قوانين أخرى أو إبطالها.
وبالفعل، ففي أواخر العام 1948، بعد بضعة أشهر من التوقيع على الوثيقة، تناولها الجدل في التماس زُعم فيه أن إعلان الاستقلال هو قانون، ووفقا لقيمه يجب إبطال القوانين والأنظمة الانتدابية التي تسلب حريات مختلفة. لم يتأثر القاضي بهذا الموقف، وحكم بأن الوثيقة في حد ذاتها ليست قانوناً. لكن إعلان الاستقلال اكتسب فيما بعد معنى "كل مرة صمت فيها القانون على مسألة معينة، أو عندما تسنى الأمر لتفسيره بروحه" (الإعلان)، كما أوضح المحلل القانوني لصحيفة "هآرتس" زئيف سيغل. وهكذا، فقد كان بمثابة أساس للأحكام التي أعطت أهمية كبيرة لحرية الصحافة والمساواة للمرأة ومنع التمييز.
لقد سُجّل تغيير في الاتجاه العام 1953، عندما منحت المحكمة مبادئ إعلان الاستقلال مكانة مميّزة، وقررت أنه يمكن على ضوئه تفسير القوانين. وأوضح القاضي شمعون أغرانات لحكومة إسرائيل أن وثيقة الاستقلال ليست مجرد قطعة ورق صقيلة، وقضى بأن حُكمها الذي بموجبه الدولة "تقوم على أسس الحرية"، يتطلب الحفاظ على القيم الديمقراطية الأساسية مثل حرية التعبير وحرية الصحافة. وصدر الحكم في واحدة من أشهر القضايا في تاريخ القضاء الإسرائيلي، وهي التماس "كول هعام"، حيث قرر وزير الداخلية يسرائيل روكح حينذاك إغلاق صحيفة "كول هعام" (صوت الشعب) الشيوعية استناداً إلى أمر الصحافة الانتدابي بسبب انتقادات وجّهتها الصحيفة للحكومة، وقدمت الصحيفة التماسا ضد القرار وحاججت بأنه انتهاك لحريتها في التعبير. قبِلِ أغرانات الالتماس وكتب: "إن ما أعلنه إعلان الاستقلال – وخصوصاً فيما يتعلق بتأسيس الدولة "على أسس الحرية" وضمان حرية الضمير - يعني أن إسرائيل هي دولة تسعى إلى الحرية". صحيح أن أغرانات تحفظ وكتب: "لا يشكّل الإعلان قانوناً دستورياً يقضي فعلياً بشأن تطبيق أوامر وقوانين أو إبطالها"، لكنه أضاف أنه حين يكون الإعلان "يعبر عن رؤية الشعب وإيمانه الأساس، فمن واجبنا أن ننتبه للأمور التي يعلنها، حين نقف أمام تفسير قوانين الدولة وتحميلها معنى". في العام 1962، كتب الرئيس الرابع للمحكمة العليا يوئيل زوسمان، متطرّقاً إلى إعلان الاستقلال، أن "نمط حياة مواطني البلاد تحدّد فيه ويجب على كل سلطة في البلاد أن تعتمده منارة لها". وقد تقصّى في قرار الحكم أيضاً واجب مجلس محلي في الالتزام بالحرية الدينية تجاه كل التيارات، وألزم (بلدة) كفار شمرياهو بتأجير مبنى عام أيضا لصلاة التيار الإصلاحي (ريفورمي).
القاضي تسفي برنزون، الذي كان أحد واضعي صيغة وثيقة الاستقلال، عبّر عن موقف أكثر تحفظا. "يجب تفسير كل بند في القانون وفقا لمبادئها الموجِّهة" (وثيقة الاستقلال)، كما كتب في العام 1970. ومع ذلك، كما تابع، "عندما يكون هناك أمر صريح في قانون الكنيست بما لا يدع مجالا لأي شك، فيجب العمل بموجبه، حتى حين لا يتماشى مع مبادئ إعلان الاستقلال". وكتب هذا في باب عرض أسباب رفض التماس الأزواج الذين طالبوا وزارة الداخلية بأن تعترف بزواجهم المدني. وأوضح في تسويغاته أن الوثيقة تفتقر إلى الحُكم القانوني المُلزم، وبالتالي فإنه على الرغم من أنها تتضمن مطلب المساواة والحرية الدينية، إلا أنها لا تشكل قانونا يلزم وزارة الداخلية بخرق قانون صريح للكنيست – ووفقاً له يجب عقد زواج اليهود في إسرائيل بحسب قانون التوراة فقط.
إعلان الاستقلال "يشكل وثيقة قيم الأمة... ومنه تُشتَق الحقوق، ويفسَّر بموجبه كل قانون"، كتب أ. باراك في العام 1987 في قرار حكم قضى بأنه مسموح للنساء بأن يكنّ عضوات في المجالس الدينية. وكتب "أحد المبادئ الأساسية لنظامنا الدستوري هو ضمان المساواة بين الرجل والمرأة"، ونوّه إلى أن مبدأ المساواة واردٌ في إعلان الاستقلال. وفي العام 1994، كتب القاضي دوف ليفين، في التماس قدمته شركات تأمين ضد وزارة المالية، بأن وثيقة الاستقلال تضمّ "التعبير عن المبادئ والقيم الجذريّة التي يليق بها، حسب تصور الشعب، أن تكون منارة لنا، بمثابة القول الفصل، عندما نتوجه إلى تفسير القانون الذي يسري على الدولة وسكانها." وفي العام 1995، في التماس أليس ميلر ضد منع مشاركتها في دورة الطيّارين العسكريين، ذكّرت القاضية داليا دورنر بأن إعلان الاستقلال ينص على أن "دولة إسرائيل ستطبّق مساواة تامّة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع مواطنيها من دون تمييز... في الجنس".
في العام 2000، قضت محكمة العدل العليا بأن إدارة أراضي إسرائيل ليست مخوّلة بالتمييز بين اليهود والعرب في تخصيص أراضي الدولة. استند قرار الحكم في قضية الزوجين قعدان على قيمة المساواة الواردة في وثيقة الاستقلال. وفي العام 2006، اقتبس القاضي سليم جبران من وثيقة الاستقلال للتأكيد على حق عرب إسرائيل في المساواة، "جاء في إعلان قيام دولة إسرائيل: ’دولة إسرائيل... تحافظ على المساواة التامة في الحقوق اجتماعياً وسياسياً بين جميع رعاياها’". وقد سُجِّل التغيير الأهمّ في المسار (الذي لم يكتمل) لاعتماد وثيقة الاستقلال في التشريع في العام 1994، كما ذكرنا، عندما حظي إعلان الاستقلال بِذكرٍ دستوري أوّلي. ولكن منذ ذلك الحين وحتى اليوم هناك خلاف حول مسألة المعنى القضائي الذي يجب نسبُه إلى ما ورد فيه. على سبيل المثال، كتب القاضي إسحاق زمير أنه ليس أكثر من "إعلان لطيف"، لا يغير المكانة القانونية للوثيقة. أما باراك، من الجهة المقابلة، فقد ادعى أن التغيير دراماتيكي، وأنه بمقدور المحكمة منذ ذلك الحين إبطال التشريعات التي لا تتوافق، مثلاً، مع مبادئ المساواة.
لم يظلّ النقاش داخل أروقة المحكمة فحسب، بل انتقل إلى مجلس المشرّعين أيضاً. في العام 2001، كتبت الوزيرة السابقة شولاميت ألوني أن إعلان الاستقلال هو "الإيمان الجماعي لدولة إسرائيل". وقدمت وزيرة سابقة أخرى، أييلت شاكيد، موقفا معاكسا العام 2018. وردت على أقوال أهارون باراك الذي قال إن سلطة الكنيست مقيّدة بإعلان الاستقلال. وقالت شاكيد: "هذا تصريح يقوّض أسس ديمقراطية دولة إسرائيل". وفي كتابه "قبل الثورة: القانون والسياسة في عصر البراءة"، كتب أحد أسلافها في المنصب، وزير العدل السابق دانيئيل فريدمان، أن المحكمة كانت في السنوات الأولى بعد قيام الدولة "متواضعة"، بكونها "لم تطمح إلى الوقوف فوق الكنيست"، وأن إعلان الاستقلال كان الهدف منه اعتراف دولة إسرائيل بالقانون الدولي، ولا يشكل دستورا. واقتبس فريدمان كلمات الوزير السابق زيراح فرهافتيغ من حزب المفدال، وبموجبها فإن إعلان الاستقلال ليس وثيقة قانونية وإنما هو بيان سياسي.
وفي تموز 2018، سنّ الكنيست "قانون أساس: القومية"، الذي عرّف إسرائيل بأنها الدولة القومية للشعب اليهودي فقط، وحدّد مكانة اللغة العبرية باعتبارها "لغة الدولة"، وقرّر أن الدولة ستعمل على تشجيع "الاستيطان اليهودي". وجاء في ملحق شرح القانون أنه يهدف إلى "استكمال الدمج القيمي الذي يميز درب دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية بروح مبادئ إعلان الاستقلال". وفي العام 2021، رفضت محكمة العدل العليا الالتماسات ضد القانون، بتسويغ مفاده أنه لا يغيّر التوازن الدستوري في إسرائيل بين اليهودي والديمقراطي. إعلان الاستقلال ذُكِر في قرار الحكم 159 مرة وعادت الرئيسة الحالية للمحكمة العليا إستير حيوت وكررت أنه يجب على المحكمة أن تحتكم إلى إعلان الاستقلال، الذي يشكل "شهادة ميلاد وكذلك بطاقة هوية الدولة كوحدة سياسية، سيادية ومستقلة".
عرضت حيوت في قرار الحكم التوجهين الرئيسيين في الأحكام بخصوص المكانة القانونية للإعلان. وفقاً للتوجه الأول، الذي يقوده باراك، فإن سلطة السلطة التأسيسية نابعة من إعلان الاستقلال، وبالتالي فالمجلس التأسيسي غير مخوّل بنفي المبادئ الأساسية المرسّخة في الإعلان، وبالأساس أن إسرائيل يهودية وديمقراطية.
أما بموجب التوجه الثاني، الذي تعبّر عنه بالأساس قرارات حكم القاضي الراحل ميشيل حيشن، فلا ينبغي الاعتماد على الإعلان كوثيقة قانونية ملزمة. مع ذلك، وفقاً لهذا التوجه، هناك مبادئ أساسية غير مكتوبة وفوق- دستورية تشكل أساساً محتملاً لأن تتدخل المحكمة في سن قوانين الأساس التي تشرّعها الكنيست. حيوت امتنعت عن حسم الخلاف وكتبت أنه فيما يتعلق بقانون القوميّة هناك اجتماع على نقطة واحدة وهي أنه "في هذه المرحلة من المشروع الدستوري الإسرائيلي هناك قيود - ضيّقة النطاق للغاية - على صلاحية السلطة التأسيسية، والتي تتلخص في إنكار هوية دولة إسرائيل كدولة يهودية أو ديمقراطية".
الشهر الماضي، وعندما كان قضاة المحكمة العليا يستعدون للنظر في الالتماسات ضد قوانين الانقلاب على الحكم التي تتم بواسطة تعديلات على قوانين الأساس، نشر الرئيس السابق للمحكمة باراك مقالاً أكاديمياً في مجلة "القانون والأعمال"، وكتب فيه: "إن إعلان الاستقلال يشكّل المرجع الخارجي لقوانين الأساس ويمكن بموجبه فرض قيود على نطاق سلطة الكنيست كسلطة تأسيسية أوّلية". وكتب باراك في مقال نشره في "هآرتس" هذا الأسبوع أن "الجميع متفقون على أن إعلان الاستقلال ليس دستور الدولة"، لكنه أضاف أن المعنى القانوني للمبادئ الأساسية المضمّنة في الإعلان هو أن الكنيست غير مخوّل بالعمل بشكل يتناقض مع هذا الحمض النووي – خلافاً لـ "رؤية الشعب" و"الإيمان الأساس" في إعلان الاستقلال.
مقال باراك هذا نُشر عشية جلسة المحكمة العليا بشأن التماسات إبطال قانون تقليص حجّة المعقولية، وكانت الرسالة التي أراد باراك إيصالها إلى القضاة الخمسة عشر واضحة. في الجلسة التي انعقدت هذا الأسبوع سطع نجم إعلان الاستقلال بالأساس بسبب تصريح المحامي بومباخ. وفي قرار الحكم، في الأسابيع المقبلة، سيتعيّن مرة أخرى على القضاة مناقشة المكانة القانونية لإعلان الاستقلال. وفي وضع تدفع به الحكومة والكنيست بتعديلات غير ديمقراطية لقوانين الأساس، وفي غياب الدستور، ليس لديهم خيار آخر.
(عن "هآرتس"، 15/9/2023. ترجمة خاصة)
المصطلحات المستخدمة:
هآرتس, لجنة الدستور والقانون والقضاء, باراك, مجلس محلي, وثيقة الاستقلال, الكنيست, رئيس الحكومة