بحسب التقديرات يعيش في إسرائيل حاليا حوالي مليون شخص من المتدينين المتزمتين (الحريديم). فلكل عائلة حريديم يولد ستة أو سبعة مواليد بالمعدل (هناك عائلات يصل المعدل إلى 12 وحتى 18 مولودا- الترجمة)، ولهذا فإن نسبة التكاثر لدى الحريديم في إسرائيل هي الأعلى.
وخلال 20 عاما من المتوقع أن يصل عدد الحريديم إلى حوالي مليوني نسمة. ولكن السؤال المطروح: أين سيسكنون؟
يتضح أن هذا السؤال الحارق لم يقض مضاجع الحكومة في السنوات الأخيرة. وبشكل ما، ترسخت في الحكومة وجهة نظر مفادها أن الحريديم سينظمون شؤونهم لوحدهم، وبناء عليه سيكتظ عشرات الأشخاص في البيت الواحد: في مدينتي بني براك والقدس؛ أو سينتقلون إلى أحياء فقيرة ويشترون بيوتا. وكلا الخيارين إشكالي جدا. فمدينة بني براك (قرب تل أبيب) تبدو كحي فقر، والاكتظاظ فيها بات يلامس الأخطار على السلامة العامة. والانتقال إلى أحياء فقر هو تعبير مؤدب لوصف حالة سيطرة الحريديم على الأحياء، كما في حالة مدينة "بيت شيمش"، وأيضا حالة مدن بأكملها، من خلال دفع جمهور الساكنين المحلي إلى المغادرة، وهو جمهور بشكل عام من الشرائح الضعيفة. والنتيجة الحاصلة هي صراع قوة على الثقافة ونهج الحياة، يزيد من حالة الشرخ القائمة بين العلمانيين والحريديم.
فقط في الآونة الأخيرة، استيقظوا في وزارة البناء والإسكان، وقرروا فحص مسألة سكن الحريديم. وأقام وزير الإسكان يوآف غالانت طاقما مشتركا من الوزارة، ومعهد الحريديم للأبحاث السياسية، ورؤساء مدن الحريديم (بينها مستوطنات). وتم تكليف الطاقم بوضع احتياجات الحريديم للسكن، مع وضع تصورات للحلول الممكنة. ووجد الطاقم في تقريره الأول أنه ينقص الحريديم 10 آلاف بيت، وأنهم في السنوات العشرين المقبلة، سيكونون بحاجة إلى حوالي 190 ألف بيت إضافي.
كما وجد الطاقم أن احتياجات السكن لجمهور الحريديم، مختلفة عن احتياجات الجمهور العام. فمثلا الحريديم المتطرفون (بقصد الأكثر تشددا دينيا) لن يسكنوا في أبراج سكنية، بسبب رفضهم استخدام المصاعد في أيام السبت. كذلك فإن الحريديم يحتاجون بيوتا واسعة، ولكنهم ليسوا بحاجة إلى تفاصيل فاخرة ومواقف كثيرة للسيارات قرب البيوت. كما أن احتياجات جمهور الحريديم مختلفة، فهم بحاجة إلى مؤسسات تعليمية منفصلة للذكور والإناث، بالإضافة إلى كُنس (جمع كنيس)، وإلى مغاطس دينية.
وفقط جزء صغير من الحريديم مستعدون للسكن في أحياء علمانيين، وبإمكانهم أن يشتروا بيوتا في السوق المفتوحة، بينما غالبية الحريديم يكتظون داخل مجتمعهم، وهذا يتطلب بناء مدن خاصة بالحريديم، أو أحياء منفصلة في المدن المختلطة، وهناك فجوة ضخمة كبيرة بين هذين الخيارين.
في سنوات التسعين، كانت سياسة الحكومة تعتمد مبدأ بناء مدن (منها مستوطنات) خاصة بالحريديم. وعلى هذا الأساس بنيت مدينة (مستوطنة) عمانوئيل، ولاحقا مدن (مستوطنات) "بيتار عيليت" و"موديعين عيليت" و"إلعاد"، ووصلت هذه السياسة الذروة حتى "بيت شيمش"، وعمليا جرى مضاعفة هذه المدينة. وضمنت هذه المدن (المستوطنات) للحريديم حلا ممتازا لسكن رخيص الثمن، وبالأساس في المدن (المستوطنات) التي بنيت في المناطق (المحتلة منذ العام 1967). وعمليا فإن الحكومة قدمت دعما ماليا لضمان سكن رخيص الثمن للحريديم، من خلال بناء مكثف في المناطق (المحتلة).
ويقول بحث أعده الخبير الاقتصادي إيتان ريغف في معهد "طاوب"، إن الحريديم نجحوا في الإفلات من أزمة أسعار السكن القائمة، ففي حين ارتفعت أسعار البيوت بنسبة 34% بالمعدل في السنوات العشر الأخيرة، فإن أسعار السكن لدى الحريديم ارتفعت بنسبة 6%، إذ أن الانتقال إلى المناطق (المحتلة) ساعد الحريديم على الاستمرار في شراء بيوت رخيصة الثمن، على الرغم من أن الحديث يدور عن بيوت جديدة في مدن (مستوطنات) جديدة.
إلا أن هذا الانتقال كان له ثمن باهظ. فأولا، هذا الخيار استنفد ذاته، حيث أن البناء المكثف في "المناطق" توقف، وخيار بناء عشرات آلاف البيوت الأخرى في "المناطق" لم يعد قائما. ثانيا، كل هذه المدن (المستوطنات)، ومن دون استثناء، تحولت إلى غيتوات ثقافية وتشغيلية. فالبحث المذكور يقول إن نسبة الانخراط في سوق العمل في (مستوطنتي) بيتار عيليت وموديعين عيليت، منخفضة بشكل خاص. 24% بين الرجال فاقدو المؤهلات في بيتار عيليت، مقابل 34% في مجتمع الحريديم كله. وحتى في وسط الحاصلين على اللقب الجامعي الأول من الرجال الحريديم، فإن نسبة الانخراط في سوق العمل بينهم فقط 55% في بيتار عيليت، مقابل 71% في مجتمع الحريديم كله.
ويقول أحد المهتمين بقطاع السكن إن شكل سكن الحريديم كان خطأ الدولة، "فعمليا أدخلت الدولة الحريديم إلى غيتوات والنتيجة كارثة كبيرة للجميع، لأن هذا أنتج جيوب فقر، وجزرا ضخمة من عدم الانخراط في سوق العمل، وما هو أكثر حدة من هذا، اتساع الاغتراب بين الحريديم والعلمانيين. فالشخص الذي عاش كل حياته في دفيئة مغلقة، وفيها يرى فقط أناسا مثله، لن يشذ عن النهج القائم، ولن يكون لديه طموح ليكون شخصا آخر، وبهذا نكون عمليا قد ساعدنا الحريديم على الانعزال عن المجتمع العام، وعن سوق العمل".
هذا الاستنتاج كان ماثلا أمام الطاقم الخاص في وزارة الإسكان، ولكن هذا لم يلغ خيارات بناء مدن منفصلة للحريديم، واحدى هذه المدن هي "كسيف" في صحراء النقب، المطروحة كمشروع على طاولة مؤسسات التخطيط والبناء منذ سنوات طويلة، لأن الحريديم لن يقبلوا إلا السكن في مدن منفصلة. وعلى الرغم من هذا، فإن التوصية واضحة، وهي الامتناع بقدر الامكان عن الاستمرار في بناء غيتوات للحريديم، وبالأساس الانسحاب من فكرة "كسيف" التي هي بعيدة عن كل مراكز تجمعات الحريديم (في الأساس القدس ومنطقتها)، وأيضا بعيدة عن مراكز التشغيل، وستخلق هذه المدينة الشعور بأنها من المناطق البائسة، وهذا سيكون مدعاة لبكاء أجيال.
بناء عليه فإن الحل الأفضل هو توسيع البناء في تجمعات الحريديم القائمة بقدر الإمكان، وأيضا بناء أحياء للحريديم في المدن المختلطة. وتعلم التجربة أن أحياء الحريديم في المدن المختلطة، هي حل هام من أجل التقارب بين العلمانيين والحريديم، وفي نهاية المطاف حل جيد من أجل تقريب الحريديم إلى سوق العمل.
لكن توجد ثلاث مشاكل في تطبيق هذا الحل المفضل.
أولا، مشكلة قضائية نابعة من الرغبة في تسويق أحياء بأكملها لسكان حريديم فقط، ويكمن في هذه الخطوة طابع التمييز. وتقرير وزارة الاسكان يتأخر صدوره منذ عدة أشهر بسبب هذه القضية القضائية، ولكن كما يبدو سيتم إيجاد حل لها. والحل هو تسويق ملائم للحريديم، ولكن مع إفساح المجال أمام بيع البيوت للعلمانيين، إذا ما رغبوا بالسكن في تلك الأحياء، بينما في واقع الحال لا يرغب العلمانيون في السكن وسط غالبية من الحريديم، رغم وجود بعض الاستثناءات.
ومعروف أن تسويق مدينة حريش (الجاثمة على أراض مصادرة في منطقة مدينة أم الفحم وقراها في المثلث) كمدينة للحريديم فشل، بسبب أن متدينين من التيار الديني الصهيوني وعلمانيين تقدموا لعطاءات شراء بيوت ونافسوا الحريديم عليها، وفي نهاية المطاف باتت حريش مدينة مختلطة، وقلة فقط من الحريديم نجحت في شراء البيوت، وتخطط حاليا للانسحاب منها.
والمشكلة الثانية أن حل المدن المختلطة ليس مقبولا عادة على الحريديم، وبالتأكيد ليس مقبولا قطعا على الحريديم المتطرفين.
والمشكلة الثالثة أن حل المدن المختلطة ليس مقبولا على العلمانيين، وبشكل خاص ليس مقبولا على رؤساء بلديات مدن العلمانيين، الذين يعارضون بإصرار دخول جمهور الحريديم إلى مدنهم.
ويتخوف رؤساء البلديات من الحريديم لسببين مركزيين: الانطباع السيء الوارد عن الحريديم بأنهم يسعون للسيطرة بالقوة على الأحياء ويفرضون طابع حياتهم المتزمت على جمهور العلمانيين. وثانيا لكون الحريديم هم عادة سكان فقراء، يقللون من الإنتاجية، ومداخيلهم شحيحة، وبسبب أوضاعهم الاقتصادية الاجتماعية فإن الضرائب البلدية التي تفرض عليهم تكون مخفضة، وفي المقابل فإنهم يتسببون بمصاريف عالية للمجلس البلدي على خدمات التعليم والمرافق العامة الخاصة بهم.
وتوصي وزارة الإسكان بالتغلب بالقوة على اعتراضات رؤساء بلدات مدن العلمانيين، ويقول أعضاء في طاقم الوزارة: "إذا ما أعلن رئيس بلدية ما عدم استعداده لاستيعاب أثيوبيين في مدينته فإنه يكون عنصريا منبوذا، لكن إذا رفض اسكان الحريديم يكون شرعيا، ولا يوجد لهذا أي سبب. على الحريديم أن يسكنوا في كل إسرائيل، بحسب نسبتهم: 15% من السكان (القصد السكان اليهود)".
ويقول المهتمون بالأمر إن الهدف هو دمج الحريديم في العقد المجتمعي لدولة إسرائيل، ولهذا علينا إخراجهم من الغيتوات الخاصة به، من أجل خلق رابطة بين الحريديم والعلمانيين. وبطبيعة الحال فإن أساس هذا الدمج يتم في مدن الضواحي، بمعنى البعيدة عن مركز البلاد، لأن أسعار البيوت في تلك المناطق أرخص، كما توجد أراض أكثر، ولكن أيضا من الممكن بناء أحياء للحريديم في مركز البلاد، خاصة للحريديم الأغنياء.
تعقيب: جوانب هامة
هذا المقال المترجم هنا بتصرف، للمحللة الاقتصادية ميراف أرلوزورف، يعرض جوانب هامة، منها ما لا تعترف به المؤسسة الحاكمة، وهو العدد الحقيقي للحريديم الإسرائيليين. فعادة تقلل الإحصائيات الرسمية من أعدادهم، ويجري الحديث رسميا عما بين 8% إلى 9% من إجمالي السكان كأقصى حد، ما يعني وفق الإحصائيات الرسمية التي تشمل فلسطينيي القدس وسوريي الجولان، أن الحديث يجري عن قرابة 714 ألفا من الحريديم.
بيد أن الكاتبة وكذا وزارة الإسكان يتحدثان عن مليون نسمة، وهؤلاء يشكلون ما نسبته قرابة 12% من إجمالي السكان رسميا، ونسبة 4ر12% من إجمالي السكان من دون فلسطينيي القدس وسوريي الجولان. وفي كل الأحوال فإنهم قرابة 16% من إجمالي اليهود. وليس واضحا ما هي الخلفية التي تجعل الإحصائيات الرسمية تقلل من أعداد الحريديم، سوى الاعتقاد بأن لا يتسبب هذا في إخافة جمهور العلمانيين.
كذلك فإن المقالة تكشف أكثر حقيقة أن الحكومة الإسرائيلية تستخدم الحريديم ومسألة تكاثرهم بوتيرة قد تكون الأعلى عالميا، لمواجهة نسبة تكاثر المواطنين العرب، من جهة. ومن جهة أخرى، كي يكونوا أداة لتوسيع الاستيطان في الضفة الفلسطينية المحتلة، حتى باتوا حاليا يشكلون ما نسبته ثلث المستوطنين في الضفة والقدس المحتلتين.
وهناك جانب ثالث بالإمكان لمسه بشكل واضح في هذا المقال، هو حال التناحر بين جمهوري العلمانيين والحريديم، والذي من الممكن أن يتحول في سنوات مقبلة إلى صراع أكثر حدّة، وقد ينعكس كثيرا على طابع المجتمع الإسرائيلي.
(عن "ذي ماركر"، ترجمة بتصرف)