اعترف بحق اللاجئين الذين طردوا من قبل إسرائيل في حرب 1948، من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة وذلك في كانون الأول 1948. وواصلت الأمم المتحدة المصادقة على هذا المشروع ولا تزال ملتزمة به هذه الأيام أيضًا. وهذا الحق (العودة) راسخ في القانون الدولي وأيضًا في مبادىء العدالة الكونية. ويمكن الادعاء كذلك، أمام كل من لا يرغب بالتسويغات الأخلاقية أو كل من يحتقر المواقف الأخلاقية والأيديولوجية، أنه بدون الاعتراف الإسرائيلي بحق العودة وتطبيقه بصورة تكون مقبولة على اللاجئين أو على من يتحدثون باسمهم، فإن جميع محاولات المصالحة سيكون مصيرها الانهيار، كما حصل فعلاً في عملية أوسلو التي تحطمت إلى شظايا في قمة كامب ديفيد، في صيف 2000.
لكن قضية اللاجئين هي أكثر من سؤال حول حلّ صحيح أو غير صحيح للتطهير العرقي الذي اقترفته إسرائيل في سنة 1948. هذه القضية هي الأساس لفهم المشروع الصهيوني كافة، في لبوسه الحالي، وربما هي الأساس أيضًا للبديل الوحيد لوجوده. التسويغ الإسرائيلي الأكثر أساسية، الإجماعي، ضد عودة اللاجئين يتمثل في الخوف من فقدان الأكثرية الديمغرافية اليهودية. وهذا الخوف يبدو أقوى من الرغبة في إنكار النكبة أو من السعي للتهرّب من المسؤولية عن ارتكاب الجريمة في 1948. والموقف الإسرائيلي الأخلاقي وكذلك الدولي تآكل جدًا، إلى حد لم يعد معه خوف إسرائيلي من الإدانة ولا رغبة يهودية في التكفير عن الذنب.
هناك في صلب هذا الموقف المأزق الذي أرّق الصليبيين حين اكتشفوا أنهم أنشأوا دولة ليس في أوروبا وإنما في لبّ العالم الإسلامي، وأرّق الكولونياليين البيض الذين سعوا إلى إقامة دولة قبلية خاصة بهم في أفريقيا ولم يقدروا على القارة السوداء، لكنه لم يؤرّق بالمقدار نفسه الكولونياليين في الأميركتين الذين أبادوا على نطاق واسع البيئة غير البيضاء بمجرّد قدومهم.
في حوالي سنة 1922 نجحت مجموعة من المستوطنين اليهود من أوروبا الشرقية في إنشاء دولة عتيدة على حراب بريطانية وأملوا بأن يحافظوا على جيب "أبيض" في لبّ العالم العربي. وقد قلّل الهولوكوست في أوروبا مخزون اليهود البيض وفضلت بقية الشتات بغالبيتها الولايات المتحدة أو حتى أوروبا نفسها. وبصورة ليست اختيارية قررت القيادة الأوروبية الشرقية أن تستورد حوالي مليون يهودي عربي مررتهم في عمليات إلغاء لعروبتهم أصبحت موثقة جيدًا الآن بفضل الدراسات الما بعد صهيونية والشرقية. وهكذا فإنه حتى مع وجود أقلية فلسطينية داخل إسرائيل كان في الإمكان بناء الوهم بأن الجيب الصهيوني مبني بكل الفخامة، حتى لو أن الثمن هو التطهير العرقي لغالبية السكان المحليين والسيطرة على حوالي 80 بالمئة من فلسطين.
غير أن العالم العربي والحركة الوطنية الفلسطينية كانا قويين بما يكفي لكي يمررا على الأقل رسالة مؤداها أنهما لن يعيشا بسلام مع جيب كهذا، وإزاء ذلك فإن التيار المسياني الصهيوني العلماني الذي ولد في سنة 1948 سوية مع النجاح في احتلال البلاد لم يكتف بنسبة الـ80 بالمئة. وعندما التقت هاتان النزعتان، في العالم العربي وفي المركز السياسي الصهيوني، في سنة 1967 ربحت الصهيونية وسيطرت على كل فلسطين وعلى أجزاء من سوريا ومصر والأردن، لأنه لا حدود للشهية. وفي سنة 1982 أضيفت أيضًا قطعة من لبنان. وكل ذلك من أجل الدفاع عن الجيب الأبيض في قلب العالم العربي الذي استوطن فيه.
منذ سنة 2000 لم تعد الدولة الصهيونية تحتل مناطق جديدة، لا بل إنها أخذت تنسحب في هذه الأثناء من أجزاء احتلتها في مصر ولبنان. وقباطنتها مقتنعون بأن القوة النووية والتأييد غير المحدود من جانب الولايات المتحدة والجيش القوي في مقدورهم حماية الجيب الذي بنوه هنا. بل وظهرت حتى براغماتية صهيونية جديدة- قديمة: يمكن السيطرة فقط على 90 بالمئة من فلسطين لكن من أجل ذلك ينبغي العيش داخل أسوار عالية، لأنه على رغم الجبروت والتأييد والجيش لم تنجح إسرائيل في سحق حركة المقاومة الفلسطينية. وهناك حفنة من المهاويس، مع وجبة زائدة من الصهيونية، لا يفهمون ذلك ولذا توجد ظاهريًا "حرب أهلية" حول "الانفصال" إلى داخل الـ90 بالمئة، غير أن غالبية الجمهور تؤيد الموقف المنطقي للحكومة، وتجد بينهم حتى بعض أفضل أصدقائي.
لكن ما الذي يجري داخل الأسوار؟ صحيح أن كثيرًا من غير اليهود أتوا من الاتحاد السوفياتي السابق غير أنهم بيض، أو ليسوا عربًا على الأقل، ولذا يمكنهم البقاء داخل الأسوار. العمال الأجانب ربما يجري طردهم أو لا. هؤلاء هم عبيد عصريون، ليسوا عربًا، ولا يشكلون "مشكلة ديمغرافية". اليهود العرب أصبحوا بمعظمهم، والحمد لله، أشدّ عداءً للعرب مما كانوا عليه، ولذا يمكن الاتكال عليهم في تبييض الجيب الصهيوني والافتراض بأن القلائل بينهم، الذين يتجاسرون على البحث عن الطريق نحو جذورهم والطريق من هناك صوب اندماجنا في المنطقة، لا يشكلون خطرًا حقيقيًا على رأي المجموع المقرّر.
لذا كيف يمكن بشكل عام البدء بنقاش مع الفلسطينيين حول مجيء "عرب" إضافيين إلى داخل الجيب. صحيح أنه لم يعد في الجيب الآن أكثرية يهودية متماسكة، مع كل المسيحيين الذين أتوا من الاتحاد السوفياتي السابق ومع العمال الأجانب ومع اليهود العلمانيين، لكن جميع هؤلاء هم بيض. بكلمات أخرى فقط باستثناء الأثيوبيين، لكن هؤلاء هم يهود تقريبًا، وهم في أحياء فقيرة، وهم قلائل ولا أحد يراهم. وهكذا فإنه حتى لو تم طرح جميع التسويغات الجيدة التي في العالم أمام أفراد اليسار الصهيوني حول العدالة والأخلاق والمصالحة ولو تم طرح جميع الاعتبارات البراغماتية أمام الأشخاص العمليين وأصحاب نزعة "الواقعية السياسية" في مركز الخارطة السياسية بشأن معقولية الاعتراف بحق العودة وتمكين عودة اللاجئين، فإن الرغبة في عدم إدخال مزيد من "العرب" إلى داخل الجيب هي التي تقرّر وتحسم.
لكن إسرائيل جففت منابع الهجرة اليهودية وأخفقت في تشجيع الولادة اليهودية ولم تجد حلاً إقليميًا بمقدوره أن يقلص عدد "العرب"، بل إنها تنجح فقط في إنتاج حلول تزيد من عددهم (الجميع يؤيد ضم القدس الكبرى والكتل الاستيطانية الكبرى وهضبة الجولان وكذلك السيطرة غير المباشرة على الأقل على المناطق التي سيتم إخلاؤها). فضلاً عن ذلك فإنه إذا كانت هذه الحلول التي تبيعها حكومة شارون- بيريس ، بموافقة صامتة من جانب اليسار الصهيوني، ترضي بعض الأنظمة العربية فإنها لا ترضي المجتمع المدني العربي الهائج والذي يتحكم فيه سجال سياسي إسلامي راديكالي. صحيح أنه توجد قوات أميركية في العراق غايتها أن تساعد هذه الأنظمة، وإسرائيل بطبيعة الحال، باسم "الديمقراطية الأميركية"، لكن بكيفية ما فإن هذا الوجود لا يسهل الحياة داخل الجيب الأبيض. مستوى معيشة بعض سكان الجيب يرتفع، لكن مستوى معيشة الأغلبية ينخفض. مع ذلك فلمن يوجد وقت لمعالجة هذه المشكلة أو مشكلة تلوث البيئة ومكانة المرأة؟. الأهم من ذلك أننا أكثرية من البيض في خضم بحر من السود.
معارضة عودة الفلسطينيين معناها التأييد غير المتحفظ لفكرة الجيب الأبيض. وكثيرون من هؤلاء كانوا في الأصل جزءًا من الحضارة العربية وحاولوا أن يتبيضوا، أي أن يتشكنزوا (من الأشكناز)، وهم الآن من المؤيدين المتحمسين للفكرة، رغم أن غالبيتهم العظمى، خصوصًا القادمين من شمال أفريقيا ومن القفقاس، وكذلك أبناء المجتمعات الدرزية والبدوية والأثيوبية، ينتظرهم حاجز سميك من الزجاج يستحيل عبوره في الطريق إلى مكان جيد على الجزيرة البيضاء. استمرار هذا التأييد الواسع والشامل هو الضمانة الرئيسية لاستمرار النزاع مع الفلسطينيين ومع العالم العربي والعالم الإسلامي. ولا توجد في التاريخ قوة تستطيع في نهاية الأمر أن تصمد أمام قوى كتلك التي تحركها مشاعر من الإحباط والرغبة في التحرّر، من ماليزيا حتى المغرب إلى فلسطين وإنقاذها.
المعرفة الحميمية من جانب الفلسطينيين هنا داخل إسرائيل وفي قسم من المناطق لتعقيدات الوجود الأبيض الإسرائيلي تضمن إمكانية مصالحة على رغم السنوات الطويلة من الأبرتهايد والطرد والقمع. وهي تعقيدات تنطوي على احتمال قيام شيء ما ليس أفضل من الدولة الصهيونية فحسب وإنما أفضل أيضًا من دول الظلم العربية المحيطة بنا. غير أن نافذة الفرص للفلسطينيين واليهود آخذة في الانغلاق. وإذا ما سقط الجيب الما بعد كولونيالي الأوروبي الأخير بقوة السيف ولم ينحل بإرادته ويتحول إلى دولة متساوية ومدنية، فإنه سيستبدل من قبل نظام ثأري وقوموي ومتطرف دينيًا. وفي البنك الفلسطيني عندما يحدث مثل هذا السيناريو الحتمي، فإن حساب المظالم سيكون طويلاً جدًا وشديد الوطأة، حتى يصبح من غير الإنساني المطالبة بالاعتدال والتروي والبناء. يجوز أن يأتي كل ذلك لاحقًا، لكن إذا حكمنا على الأمر وفقًا لكل أرجاء العالم العربي الذي اجتاز عملية إلغاء الكولونيالية بواسطة النضال وليس المصالحة، فإن احتمالات ذلك ضئيلة للغاية.
لذا فإن كل من يؤيد الآن حق العودة تأييدًا كاملاً يؤمن بأن هذه النافذة ما زالت مفتوحة. وإن من يجتهد بإمكانه أن يندمج في شبكات الاتصال السياسية وأن يفهم بأن الكوة لم تنغلق بعد. إن من يتحدث على الدوام مع لاجئين هنا وفي المناطق والشتات يعرف أن ذلك ممكن وأن هناك أساسًا بعد لواقع مغاير. ومن يفهم ذلك يعرف الهوة بين ضخامة الجريمة التي ارتكبت في 1948 وبين ضعف شهوة الانتقام الفلسطينية.
لكن كم من مثل هؤلاء يوجد بيننا الآن؟.
(*) محاضر في جامعة حيفا