على الرغم من المحاولات التي بُذلت لتسويغ تعديل قانون الجنسيّة، الذي يسلب حقّ الفلسطينيّين مواطني إسرائيل في العيش مع أزواجهم الفلسطينيّين من سكّان المناطق داخل إسرائيل، بمسوّغات أمنية، يبقى المسوّغ الحقيقيّ هو ما أشارت إليه إحدى المؤيّدات المهمّات لهذا التعديل، وهي البروفيسورة روت غابيزون. وحسب أقوالها فإن تسويغه نابع من كونه "جزءًا من الجهد الذي يُبذل في سبيل استمرار المحافظة على إسرائيل كدولة يمارس فيها الشعب اليهوديّ حقّه في تقرير المصير، على خلفيّة الظروف التي تسود المنطقةَ في هذه الأوقات" ("يديعوت أحرونوت"، 5/8/2003). الكنيست الحاليّ صادق على هذا التعديل لقانون الجنسيّة، بعد أن رفضت رئاسة الكنيست السابقة، وبسبب دوافعه العنصريّة، التداول في مشروع قانون تقدّم به عضو الكنيست ميخائيل كلاينر في قاعة الكنيست، يقضي بتوفير الدعم الماليّ الحكوميّ (السوبسيديا) لهجرة العرب الإسرائيليّين إلى الدول العربيّة. وفسّر كلاينر مشروعه هذا بضرورة "تشجيع مغادرة العناصر التي لا تتماثل مع الطابع اليهوديّ للدولة...".
ما هي العلاقة بين قانون كلاينر وبين سلب حقّ الفلسطينيّات مواطنات دولة إسرائيل بالعيش مع أزواجهنّ الفلسطينيّين من غير المواطنين؟ وما العلاقة بين هذين القانونين- إذا توافرت أصلاً علاقة كهذه- وبين قانون العودة، الذي يمكّن اليهود الذين يهاجرون إلى إسرائيل من الحصول على المواطنة بشكل فوريّ وغير محدود تقريبًا، الأمر الذي لا يتوافر لغير اليهود بشكل شبه مطلق، وإنْ كانوا يمكثون في إسرائيل لمدّة طويلة؟ يجب الانتباه إلى حقيقة أنّ هذه القوانين الثلاثة أُعدّت بهدف تعزيز يهوديّة دولة إسرائيل في المجال الديمغرافيّ. وإذا اعتُبر قانون كلاينر مَعيبًا أو منبوذًا لأسباب تتعلّق بالعنصريّة، فلماذا لا تُعتَبرُ القوانين المتبقّية مَعيبة هي الأخرى؟ وإذا لم تكن هذه مَعيبة، فلماذا يعتبر قانون كلاينر مَعيبًا؟
تقول غابيزون: "كلّ من يطالب بحلّ ثابت يستند إلى إقامة دولتين لشعبين لا يمكنه أن يطالب بحقّ الفلسطينيّين في لمّ الشمل داخل حدود دولة إسرائيل. مبدئيًّا، ينبغي على العائلات الفلسطينيّة أن تتّحد داخل دولتها، وعلى العائلات اليهوديّة أن تتّحد داخل دولتها". بروح هذه الأقوال يمكن القول إنّه من المفترض أن يُنجب الفلسطينيّون أبناء داخل دولتهم، وأن ينجب اليهود أبناء داخل دولتهم. وإذا كانت هذه الوسائل شرعيّة في عمليّة الغربلة الديمغرافيّة، فبالتأكيد تتوافر الشرعيّة لقانون كلاينر.
في واقع الأمر، أعتقد أنّ قانون كلاينر يكتسب شرعيّة أكبر من سلب حقّ الفلسطينيّين في لمّ شمل العائلات. فتوفير الدعم الماليّ الحكوميّ (السوبسيديا) لهجرة العرب مواطني الدولة أُعِدَّ بغرض تشجيعهم على مغادرتها، لكن مسألة إقدامهم على الهجرة تتعلّق- في نهاية الأمر- بهم هم وحدهم. ولا يفرض هذا الدعم الحكوميّ أيّة قيود على حرّيّة العرب مواطني دولة إسرائيل، ولا يمنعهم من إمكانيّة العمل في المجالات التي تهمّهم. فهو لا يقيّدهم من الناحية المهنيّة ولا يحدّ من حرّيّة تنقّلهم، ولا يحدّ من قدرتهم على اكتساب التحصيل العلميّ، ولا من حرّيّاتهم السياسيّة، ولا من قدرتهم على تجسيد الحبّ وبناء الحياة العائليّة. في المقابل، سلب حقّ الفلسطينيّين مواطني إسرائيل في لمّ الشمل العائليّ يحول دون هذا الأمر الأخير؛ فهو يحدّ من خياراتهم في بناء العلاقات الزوجيّة والعائليّة، ويضعهم أمام الخيار التالي: إمّا أن يمتنعوا عن الزواج من الفلسطينيّين/ الفلسطينيّات من غير المواطنين الإسرائيليّين، وإمّا أن يدفعوا ثمنًا باهظًا لهذا النوع من الزواج؛ أن يعيشوا بعيدا عن أزواجهم، أو أن يهاجروا ويتركوا أماكنهم في إسرائيل.
وعلى عكس الموقف الذي طرحته غابيزون، التي تعتقد أنّ الحق الأساسيّ في إقامة حياة زوجيّة لا يرافقه حقّ الناس في تحقيق هذا الأمر في أماكن ترعرعهم، وفي المحيط الذي نسجوا فيه حياتهم، أعتقد أن هذا الحقّ يتوافر لهؤلاء من الناحية القانونيّة ومن الناحية الأخلاقيّة بالأساس، تمامًا كما يحقّ لهم إنجاب الأطفال وتنشئتهم في هذه الأماكن، والحصول على التعليم في هذه الأماكن، والعمل لكسب الرزق في هذه الأماكن والعيش في هذه الأماكن. تشكّل هذه الحقوق- حقوق الإنسان الأساسيّة- التقييدَ الأساسيّ الذي ينبغي إحلاله على وسائل الغربلة الديمغرافيّة التي يسمح للدول بممارستها من أجل تدعيم حقّ تقرير المصير للمجموعات الإثنيّة الثقافيّة التي تتمتّع في إطارها بهذا الحقّ.
كذلك الأمر مع توفير الدعم الماليّ الحكومي لهجرة الفلسطينيّين مواطني إسرائيل، على الرغم من أنّه أقلّ خطورة من سلب حقّ لمّ شمل العائلات؛ فهو غير شرعيّ. إذ ينطوي دعم كهذا على رسالة فظّة من قبل الدولة إلى مجموعة من مواطنيها، رسالة مفادها أنّهم غير مرغوب فيهم في الأماكن التي وُلدوا فيها، أو نسجوا فيها حياتهم، وكلّ ذلك بسبب انتمائهم الإثنيّ الثقافيّ.
في الحقيقة، لا يتوافر في هذه الحالة مساس مباشر بقدرتهم على تحقيق مركّبات أساسيّة في الحياة في هذه الأماكن، إذ إنّ الحديث يدور حول رسالة، أي عن أمر يمكن تجاهله على المستوى الفعليّ، لكنّها رسالة مهينة بشكل خاصّ. وقد طرح إينوك باول- وهو من المحافظين البريطانيّين- اقتراحًا مشابهًا في مطلع السبعينيّات بخصوص المواطنين البريطانيّين الذين تجنّسوا في بريطانيا بعد أن هاجروا إليها من جزر الهند الغربيّة. وأصبح هذا الاقتراح مضربًا للأمثال من حيث سوئه، وموضعًا للسخرية. ومن المهمّ التأكيد على أنّ هذا الاقتراح لم يكن بدرجة خطورة مشروع كلاينر، إذ وُجِّه صوب الأقلّيّات المهاجرة لا صوب المجموعات الأصلانيّة التي يتوافر لها حقّ تقرير المصير في أوطانها.
تفضيل الهجرة إلى داخل الدولة على أساس قوميّ، كما ينعكس ذلك في قانون العودة، هو أمر مغاير. أوّلاً، لأنّه لا يمنع المواطنين في الدولة من تحقيق ذواتهم في مضامير الحياة المركزيّة. وثانيًا، إذا اعتُمِد هذا التفضيل لكلّ المجموعات الإثنيّة الثقافيّة على التساوي ضمن إطار الدول التي تسيطر على أراضي أوطانها، فعندها ليس من الإنصاف أن يفسَّر هذا التفضيل (لدى مواطني الدولة المعيّنة) على أنّه مهين، بينما تتمتّع به مجموعتهم الإثنية الثقافيّة في دولة أخرى. ما من شكّ في أنّ الغبن المركزيّ، الذي تسبّب به قانون العودة الإسرائيليّ بصيغته وتطبيقاته الحاليّة، لا يَكمُن في حقيقة منحِه امتيازات في الهجرة على أساس قوميّ، بل في منحه هذه التمييزات غير المحدودة لمجموعة قوميّة واحدة داخل إطار الدولة، التي ينتمي جزء من الخاضعين لسلطتها إلى مجموعة قوميّة أخرى لا تتمتع بهذه الامتيازات، لا في إطار هذه الدولة ولا في إطار أيّ دولة أخرى.
وإذا كان الحلّ الأمثل، في هذه المرحلة من الصراع اليهوديّ الفلسطينيّ، هو في الحقيقة إقامة دولتين، واحدة يهوديّة في أساسها، فمن الطبيعيّ، إذًا، أن يُطبَّق التفضيل في الهجرة لصالح اليهود داخل إسرائيل، وأن يطبَّق التفضيل في الهجرة لمصلحة الفلسطينيّين في دولة أخرى. وعلى عكس حالة سلب الحقّ في لمّ شمل العائلات (وإنجاب الأطفال، وما شابه)، لا يدور الحديث هنا حول تفضيلٍ يخبّئ في طيّاته خطر المساس بحقوق الإنسان الفرديّة للفلسطينيّين مواطني دولة إسرائيل، نحو حقّ تجسيد الحبّ أو الحقّ في بناء العائلة. يتراءى لي أنّ تطبيق التفضيل في الهجرة لصالح اليهود في إسرائيل- بينما يتمتع الفلسطينيّون بهذا التفضيل في الدولة الأخرى التي ستقام بين الأردنّ والبحر- هو وسيلة شرعيّة في إطار الغربلة الديمغرافيّة التي يفترض بها أن تحافظ على إسرائيل كيهوديّة بالأساس.
هنالك عدّة تفسيرات لقيام الكنيست بسلب حقّ لمّ شمل العائلات من ناحية، وشطبها لمشروع قانون كلاينر من الناحية الأخرى. أحد هذه التفسيرات هو الجانب العمليّ؛ فبما أنّ قانون كلاينر يُبقي الخيار بترك إسرائيل أو البقاء فيها بيد العربيّ، فمن المحتمل ألاّ تكون له إسقاطات فعليّة، اذ إنّه على الأغلب لن يستغلّ العربُ الدعم الحكوميّ الذي يقترحه كلاينر. في المقابل، هنالك نتائج عمليّة مؤكّدة لتعديل قانون الجنسيّة؛ فزواج العربيّ/ة الإسرائيليّ/ة من فلسطينيّ/ة غير إسرائيليّ/ة لن ينتهي بدون زيادة أيّ مواطن عربيّ ونسله فحسب، بل إنّ زواجًا كهذا سيؤدي إلى انخفاض شامل في عدد العرب مواطني إسرائيل. هكذا تشكّل الاعتبارات العمليّة لمن يودّون استخدام وسائل غير شرعيّة لتعزيز الأهداف الديمغرافيّة لليهود في إسرائيل، تشكّل حافزًا لشطب قانون كلاينر، من ناحية، وقبول تعديل قانون الجنسيّة من ناحية أخرى.
ربما هذا هو التفسير الحقيقيّ لمصادقة الكنيست على سلب حقّ لمّ الشمل ورفض قانون كلاينر. تصرّف الكنيست كان وفقًا للقول المأثور "If you want to shoot, shoot, don’t talk" (وهو ما يمْكن ترجمته على النحو التالي: إن أردت أن تطلق النار، أَطْلِق! لا تتكلّم!- وفي هذا السياق المتناوَل: "إذا أردت المساس بحقوق إنسان أساسيّة، فافعل هذا ابتغاء تحقيق نتائج ملموسة، لا لمجرّد إثارة الغضب"). يمكن كذلك تفسير رفض قانون كلاينر، من ناحية، والمصادقة على قانون الجنسيّة، من ناحية أخرى، وفقًا لأسباب غير موضوعيّة؛ فبما أنّ كلاينر هو عنصريّ جليّ أو، على الأقل، مصنَّف في هذه الخانة، كان من السهل، ولأسباب تتعلّق بهويّة الشخص (ad-hominem)، تصنيف اقتراحه كعنصريّ وبالتالي رفضه. مقترحو ومؤيّدو سلب حق لمّ الشمل من مواطني إسرائيل العرب، ليسوا مصنّفين كعنصريّين. لذا، تمنع هذه الأسباب التي تتعلّق بهويّة الشخص (ad-hominem) رؤية سلب حقّ لمّ الشمل على أنّه قانون عنصريّ. بقي أن نأمل أن تفعل المحكمة العليا لقانون لمّ شمل العائلات ما فعلته رئاسة الكنيست لقانون كلاينر.
(*) بروفيسور في القانون، كلّيّة الحقوق، جامعة تل أبيب وقد ظهر المقال في مجلة "عدالة" الألكترونية.