المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 1521

في صبيحة اليوم التالي على انتهاء ايام الحداد السبعة على وفاة ابنه عومري، خرج أميرام غولدين من منزله في قرية "أفيف" في الجليل وسافر ربع ساعة الى مكتبه القائم في مركز مدينة سخنين. لدى وصوله الى المكتب - يهودي وحيد في قلب مدينة عربية - رن جرس الهاتف. على الطرف الثاني كان الممثل محمد بكري. ابن أخيه، ياسين، وابن عمه، ابراهيم، كانا مشتبهين بتقديم المساعدة لناشط "الجهاد الإسلامي" حمادة، الفلسطيني من سكان جنين، الذي إنتحر في حافلة الركاب رقم 361 قرب مفرق ميرون وأخذ معه من هذا العالم تسعة اسرائيليين، بينهم عومري غولدين ابن الـ 20 عاما.


بكري لم يصدق الشبهات، اتهم وسائل الاعلام و"الشاباك" والشرطة. اما غولدين فكان يعتقد ان في حوزة قوى الأمن، هذه المرة، اثباتات قوية. كانت المحادثة بينهما صعبة. الجمل الصحيحة قيلت، لكن ساد بينهما ضيق كبير. كان واضحاً لكليهما انهما لا يزالان يتقاسمان آمالا وأفكارًا متشابهة بشأن الصراع الدامي بين الشعبين. لكن الأمر لم يعد مسألة سياسية فحسب. بانفجار واحد، أصبحت الحرب والسلام مسألة عائلية جدًا.

يوم السبت الماضي، بعد مرور سبعة اشهر، وبعد ايام قليلة من اعتراف ياسين وابراهيم بكري بالتهم الموجهة اليهما، التقى اميرام غولدين ومحمد بكري وجهًا لوجه، للمرة الأولى. جلسا ساعات طويلة، بحضور زوجتيهما، على الشرفة في المنزل في قرية "أفيف"، يطلان على مناظر الجليل الخلابة، خصوصاً في هذا الشتاء الماطر، وتحدثا عن كل شيء. محمد وليلى على جانب من االطاولة، أميرام وتيلدا على الجانب الآخر. كلمات قاسية كثيرة قيلت هناك، حمولات كثيرة من التوتر أفرغت، والدموع ايضًا لم تغب. في ختام اللقاء، وجهت عائلة بكري دعوة الى مضيفيهم لزيارتها في منزلها في البعنة. غولدين ليس واثقاً بقدرته على ذلك: من هذه القرية خرج الأشخاص الذين حولوه الى أب ثاكل.

اميرام غولدين استوطن مع عائلته في الجليل قبل اقل من ثلاث سنوات، لكن يخيل انه كان هناك منذ الأزل. خلال فترة قصيرة اصبح احدى الشخصيات البارزة في المجتمع، ساعيًا دون كلل لدفع "التعايش"، كما يصف بسخرية محاولة الحفاظ على ما تبقى من الجسور القليلة التي ما تزال ممدودة بين اليهود والعرب في اعقاب تشرين الأول / أكتوبر 2000. حين قرأ معارفه المقالة التي نشرها في "هآرتس" قبل اسبوعين، حسبوا ان معسكر السلام الاسرائلي فقد واحدًا آخر من أفضل ابنائه.

تحدث غولدين في مقالته عن التجربة العاطفية التي مر بها لدى وصوله الى المحكمة المركزية في حيفا لحضور محاكمة قاتلي ابنه. "حدث في المحكمة شيء ما"، كتب. "حتى تلك اللحظة كنت احسب انهما فتيان طائشان لم يدركا خطورة عملهما. كنت احسب ان عائلتهما لا تساند اعمالهما، لكن في المحكمة تبين لي ان الأمر ليس كذلك. شيء ما تصدع في قناعاتي".

ـ ما الذي شاهدته في المحكمة ذاك اليوم فسبب لك هزة كهذه؟

"كان ذلك قاسيًا جدًا من ناحية عاطفية. حين اقتربت رأيت تجمهرًا امام بوابات البناية، لم يسمحوا للجميع بالدخول، وكان واضحًا ان الغالبية هم من اقارب المتهمَين واصدقائهما. اعتقد ان بعضهم تعرف عليَّ، لكن احدًا منهم لم يقترب مني. بعد ذلك كان الانتظار طويلاً في الرواق، وفجأة حدثت فوضى وجلبة. أحد الآباء الثاكلين، على ما يبدو، لفظ كلمة "قتلة" او شيئاً من هذا القبيل، تجاه العائلة، فجرى احد الوالدين وراءه صارخًا "أنتم قتلة". تلك كانت الصدمة الأولى التي أصابتني.

"في داخل القاعة ساد الهدوء، نسبياً، الى ان دخل المتهمان. اثار دخولهما انفعالاً كبيرًا بين الجمهور. لا اتوقع من عائلة ان تتخلى عن ابنائها. لكنني راقبت بانتباه لغة الجسد والتصرفات فلاحظت دعمًا قويًا جدًا لهما، وبدت معنوياتهما عالية، حتى ان احدى السيدات في الجمهور أشارت اليهما ان يبتسما، بأن رفعت خديها بأصابعها.

"بعض الشبان في الجمهور وضعوا كوفيات حمراء على اعناقهم. هؤلاء لا يفعلون ذلك في الحياة اليومية، انه نوع من اعلان موقف. في مرحلة معينة، اعلن محامي المتهمين انهما يعترفان بالتهمة. كانت تلك مفاجأة، لكن يبدو ان ذلك لم يفاجىء الحاضرين في الجمهور، ولذلك - لم يقلقهم. كنا نتوقع ان الجمهور الذي جاء ليشجع ابناء العائلة، مؤمنًا بأنهم لم يفعلوا شيئًا، وفجأة يتضح له انهم قتلة، سوف يصاب بالذهول والحيرة. لكن هذا لم يحدث. كان ثمة شعور جلي باستمرار الدعم. كل شيء عادي".

غادر غولدين، منفعلاً، قاعة المحكمة عائدًا الى منزله. جلس قبالة الحاسوب ووصف، بكلمات حادة، الغدر الذي شعر به. للحظة كان يخيل ان الأمور تدفع باتجاه تصريح على غرار "فليبحثوا عني" الذي أطلقه يوسي سريد إبان حرب الخليج الأولى، وانه ينوي اعلان الطلاق النهائي من جيرانه العرب. لكن عاصفة المشاعر، والاهانة والغضب، سرعان ما تبدلت وحلَّ مكانها شعور بالحاجة الملحة القصوى. "الصدع بين اليهود والعرب اكبر بكثير مما كنت اعتقد"، كتب، "واذا لم نضع حدًا نهائياً وفوريًا للصراع، واذا لم نتخذ خطوات بعيدة الأثر لاصلاح وضع الوسط العربي في كل ما يتصل بالمساواة المدنية، فسنجد انفسنا في أتون حرب أهلية - مدنية دامية في المستقبل القريب جدًا. انه نداء الطوارىء. انهضوا وافعلوا !".

* كل شيء تفجر في وجوهنا

أميرام غولدين، في الـ 50 من عمره، متزوج من تيلدا، وهي خبيرة اقتصادية. ابناهما الباقيان هما ران ( 28 عاما) ضابط مدرعات في الجيش النظامي، وإيتاي (26 عاما) ميكانيكي سيارات.

غولدين، مهندس ماكينات، خدم في الجيش النظامي سنوات طويلة، قضى غالبيتها في القسم التقني في سلاح الجو، ثم انتقل ـ في الفصل الأخير من الخدمة ـ الى شعبة الإستخبارات العسكرية. في بداية التسعينات انهى الخدمة العسكرية برتبة رائد. في تلك الفترة بنى بيتًا في حي "ابنِ بيتك" الأول من نوعه في اسرائيل والذي بادر مئير شطريت الى اقامته في بلدة "يفنه" التي كان رئيساً لبلديتها، آنذاك.

"منذ الأيام التي كنت فيها عضوًا في {هشومير هتسعير} وأنا كيبوتسي (عضو كيبوتس) مُحبَط"، يقول غولدين. "كنت أرغب دائماً في العيش في مجتمع دافىء وداعم، حياة اشتراكية واختلاطية، وهو ما اعتقدنا اننا سنجده في يفنه". ولكن كلما مر الوقت، زادت خيبة الأمل.

"البعد الاجتماعي تلاشى، وتحولت يفنة الى مدينة بكل المواصفات، وفوق كل شيء: بعيدًا عن الطبيعة والمناظر التي نحبها كثيرًا".

بعد انهائه الخدمة العسكرية، أشرف غولدين لفترة على ادارة مجمع " قوة" لـ "الكرفانات" التي كان يقيم فيها مهاجرون من أثيوبيا. وفي ساعات الفراغ كان يمارس الكتابة لزاوية في الصحيفة المحلية "يفنِتون". في تلك الفترة اشتعلت في نفسه الجمرة السياسية. "كانت هنالك زاويتان - واحدة كان يكتبها شخص يميني، والأخرى كنت اكتبها انا في خانة اليساري". في تلك الأيام أشغل غولدين، ايضاً، رئيس فرع حركة "ميرتس" في يفنه. ويقول انه فخور بالناخبين الـ 600 الذين صوتوا لصالح هذا الحزب في المدينة.

بعد انهائه مهام منصبه في مجمع الكرفانات، حصل على اللقب الجامعي الثاني في موضوع الإدارة العامة وبدأ يقدم خدماته المهنية لبعض الكيبوتسات في النقب. وكان ذلك ايضاً برنامجه المهني حين إتخذ قرار النزوح الى الجليل، بتشجيع حماسيّ من زوجته. ووقع الإختيار على منطرة (مستوطنة) أفيف (اختصار اسم عالم الجغرافيا افراهام يعقوب برفر)، وهي بلدة اقيمت في الجليل الغربي في بداية الثمانينات، مثلها مثل بقية بلدات "غوش مسجاف"، وتسكن فيها 150 عائلة. (وهي الاراضي التي تسببت مصادرتها من العرب باندلاع احداث "يوم الارض" الاول في العام 1976 وسقوط ستة شهداء من بينهم في المواجهات مع الشرطة الاسرائيلية – المترجم).

في صيف العام 2000 انتقلت العائلة الى الشمال. منذ الأيام الاولى ادرك غولدين انه لم يكن يعرف الا القليل جدًا عن الواقع الذي اصبح الآن بيته الجديد: "كنا نشتري حاجياتنا من حوانيت في شفاعمرو وقرى اخرى مجاورة. أمشي في الشارع فأرى فتيات بلباس عصري ومكشوف، اتحدث مع الناس، وفجأة أفهم انني، وخلافاً لما كان يخيل لي، لا أعرف شيئاً عن عالم عرب اسرائيل. مع كل تفصيلة جديدة تعلمتها أيقنت ان من لا يعيش احتكاكاً يومياً معهم، من يتغذى من الاعلام والافكار المسبقة، لا يعرف أي شيء. سارت الحياة بهدوء تام، كنا سعداء بالمناظر الطبيعية الخلابة التي نشاهدها من النافذة كل صباح. بعد ثلاثة اشهر، كل شيء تفجر في وجوهنا. فجأة تبين لنا اننا لا نسكن في احد أقاليم البلاد".

ـ هل خفت؟

"ليس بمفهوم القلق على الأمن الشخصي. لم أشعر بأننا مهددون. لم أنظر الى ما يحدث، ولا للحظة واحدة، وكأن لديهم شيئا ما ضدي أنا كأميرام، او كيهودي. ادركت ان ذلك هو احتجاج كبير ضد المؤسسة السلطوية، نابع من مشاعر الظلم والإجحاف، وان ما يوجه الينا انما هو بسبب اعتبارنا ممثلي المؤسسة".

ـ كلام جميل نظرياً، ولكن الخطر ملموس اكثر حين تسافر في الشارع ويرمونك بالحجارة.

"كان ثمة اشخاص تعرضوا للقذف بالحجارة في الشوارع، وهذا أمر خطير حقًا. لكن المسألة كلها مسألة تناسبية. حتى اليوم، حين اقول انني اسكن بين عبلين وطمرة، يسألني البعض اليس ذلك خطرًا، وألا يرمون الحجارة؟ الأحداث التي وقعت قبل سنتين ونصف السنة انحفرت في الوعي، فكيف عساك تغيرها، خاصة وان الانتفاضة والأوضاع عامة تعمقها باستمرار. اذكر انني كنت عائدًا من العمل في الثامنة من مساء احد الأيام في اوائل شهر تشرين الأول/ اكتوبر، وبالقرب من مفرق عبلين اصطدمت بحاجز للشرطة فقال لي رجالها انه لا يمكنني مواصلة السفر بسبب رمي الحجارة. لم استطع تقبل ذلك، انه بيتي وكيف أخاف من السفر في الشارع؟ المفارقة غير المعقولة كانت انه بينما كان الشارع مغلقاً، كانت القرية مفتوحة وهادئة تماماً. قررت الدخول الى عبلين، وهناك استوقفني شاب من القرية وسألني إن كنت من منطرة "أفيف". وحين أجبته بالإيجاب قال انه سيوصلني من القرية الى شارع جانبي يؤدي الى المنطرة. وهذا بالضبط ما حصل".

ـ انك تجلس وحيدًا في قلب سخنين. أي هيجان فجائي قد يضبطك في وضع حرج؟

"لا أشعر هنا بأي خطر. من يقول انهم يلاحقوننا لأننا يهود، لا يعرف ما يقول وعمَّ يتحدث. بعد احداث تشرين الأول / اكتوبر 2000 ببضعة اشهر حضرنا، مجموعة من اليهود، للمشاركة في مسيرة يوم الأرض في سخنين. وآنذاك ايضًا سألوني إن كنت لا أخاف. مم سأخاف وأنا آت للتضامن؟ حين ترك ابني إيتاي سيارته في الكراج وتجوّل في المدينة ماشياً، القى عليه بعض الأولاد الحجارة. انفعلت كثيرًا واتصلت، على الفور، برئيس البلدية الذي وعدني بمعالجة الأمر. إيتاي لم يفهم سبب انفعالي. فقد نظر الى الموضوع باعتباره لعب أولاد".

في الوقت الذي دفعت فيه المواجهات أغلبية اليهود في الجليل الى الإنغلاق وقطع العلاقات، المحدودة اصلا، التي كانت تربطهم مع الجمهور العربي، دفعت هذه الهزة غولدين الى الإتجاه الآخر، بالذات. الخطوة الأولى التي كان شريكاً فيها كانت اقامة خيمة سلام للحوار بين ابناء الشعبين. ايامًا طويلة قضاها في الخيمة يتحاور، منذ الصباح وحتى المساء، مع جيرانه القريبين - البعيدين، ويتعلم. "اكتشفت ان كل التعايش المشترك المشهور ليس الا وهم كبير. توجد هنا حضارتان لكل منهما منظومة حياتية مستقلة ولا تلتقيان الا في الأطراف، في التجارة، في الحمّص (يقصد توجه اليهود الى المطاعم العربية لتناول وجبات الحمص - المترجم) أو في علاقات العمل. ليس هنالك تعارف متبادل، ولا اختلاط. حيز النشاط بالنسبة لليهود هو في داخل بلداتهم، او في اماكن العمل التي هي، عادة، خارج المنطقة، في حيفا او في خليجها. ومن الجهة الأخرى، قد يبلغ الولد في سخنين سن الثامنة عشرة دون ان يلتقي ولو حتى يهودياً واحداً، وان يتعلم اللغة العبرية كما تعلمنا نحن اللغة الإنجليزية في المدارس. ولاحقًا ايضًا، في الجامعة او في العمل، يكاد احتمال نشوء علاقة حقيقية يؤول الى الصفر".

الظروف الجديدة دفعت غولدين الى تأجيل مشاريعه بشأن الحياة الوادعة في أحضان الطبيعة: "اتخذت قرارًا بأن اخصص كل الوقت الذي كنت انوي تمضيته بالعمل في الحديقة، لدفع وتعزيز التعاون بين اليهود والعرب". سوية مع بضع مئات من الجليليين الآخرين، اليهود والعرب، شارك في اقامة مجموعة عمل اسموها "صوت آخر في الجليل" (هجرها، لاحقاً) ومجموعة اخرى أسموها "جيران".

"جيران" تضم بضع عشرات من المخططين في مجالات شتى - الهنسة، فن العمارة، وتخطيط المدن - توصلوا الى قناعة بأن انعدام المساواة والإجحاف يبدآن في اماكن بعيدة عن الأعين، أي في لجان التخطيط والبناء القطرية، في الخرائط الهيكلية، وفي المؤسسات التي يتم فيها إقرار وتوزيع الموارد، والأراضي والميزانيات. غولدين: "أدركت اننا ازاء قضية تاريخية من مصادرة الأراضي. ادركت ان قضية تهويد الجليل برمتها خلفت رواسب عميقة لدى العرب، لكنني لم ادرك حجم واقع التمييز والضائقة، ولا احساس العرب بأن دولة اسرائيل لا تريدهم. وخلافًا لاعتقاد الكثيرين من اليهود، فهم يرغبون جدًا في ان يكونوا جزءاً من الدولة".

الوالدان يتنصلان من المسؤولية

غولدين ليس بحاجة الى الذهاب بعيدًا لكي يلمس الاجحاف. انه يغوص فيه كل صباح: في مدخل سخنين، الشارع العريض، والجميل والمعبد جيداً، يتحول فجأة الى عجينة من الأوحال والعديد من حفر الماء العميقة. شبكة التصريف البلدية عاجزة عن تصريف مياه الأمطار، والاسفلت مليء بالحفر، وعبور الشارع مشيًا على الأقدام مهمة مستحيلة. كذلك السفر بالسيارة ليس سهلاً، وكل هذا بالقرب من مبنى البلدية.

هذا الواقع هو ما قرر غولدين وزملاؤه المخططون محاولة تغييره، بالعمل في مجالات تخصصهم. غولدين: "انعدام الثقة ومشاكل الاتصال خلقت وضعاً يتحرك فيه الطرفان انطلاقاً من الشعور بأنك يمكن ان تستفيد فقط اذا جعلت الآخر يخسر. انا مقتنع بأن واحدًا ووحداً يمكن ان يكونا ثلاثة، وليس واحدًا ونصف. مهمتنا ان نخلق وضعًا يستفيد فيه الجميع. نقاط التماس بين منطقتي نفوذ بلدتين تشكل، باستمرار، مصدرًا للمشاكل. ولكن بدلاً من اجتهاد كل طرف لإفشال مبادرات الطرف الآخر، يمكن المبادرة الى مشروع مشترك يستفيد منه الطرفان".

لكن غولدين وزملاءه سرعان ما واجهوا احدى القضايا الأكثر حساسية في الجليل: العلاقات بين المجلس الاقليمي "مسجاف" وبين المدينة المتاخمة لمنطقة نفوذه، سخنين. يبدو ان هذه القضية تطوي في داخلها الصراع كله، بإيجاز. بلدات مسجاف اقيمت في بداية الثمانينات في اطار مبادرة لـ " تهويد الجليل". فقد كانت الحكومات الاسرائيلية قلقة من التواصل (الجغرافي) العربي الكبير في المنطقة، فقررت دق سلسلة طويلة من الأسافين - بلدات يهودية صغيرة تطل من قمم الجبل وتحد من انتسار وتوسع العرب الطبيعيين.

غالبية اليهود الذين استقروا هنا (يضم مجلس مسجاف الإقليمي اليوم 36 بلدة يسكن فيها 16 ألف مواطن) لم يعتبروا انفسهم جنودًا في جيش الاستيطان او مبعوثين لمهمة قومية. كل ما ارادوه هو الهروب من المدينة والإستمتاع بالهدوء الجليلي المشهور. في نظر العرب، بالطبع، كان ذلك أقل براءة بكثير: البلدات اليهودية حصلت على امتيازات وتفضيلات واضحة في الميزانيات وخطط التطوير، وحدّت - بالأساس - من امكانيات التطور والتوسع الجغرافي بين العرب. فسخنين، مثلا، هي مدينة مكتظة يعيش فيها 25 ألف مواطن وتخنقها من الجهات الأربع كلها بلدات يهودية. رئيس البلدية مصطفى ابو ريا، وصف مدينته ذات مرة بأنها "طنجرة ضغط قد تنفجر في أية لحظة".

قبل لحظة من الانفجار، نجح غولدين وزملاؤه في جمع ابو ريا ورئيس مجلس مسجاف، ايرز كرايزلر، حول طاولة واحدة وتحصيل موافقتهما على تعيين غولدين مخطط مشاريع مشتركاً، يحاول التوصل الى تسوية شاملة في جملة من نقاط الخلاف بين السلطتين المحليتين. اما "جوهرة التاج" فكان يفترض ان تكون اقامة منطقة صناعية مشتركة لـ مسجاف وسخنين. في الظاهر، تبدو هذه وكأنها مهمة تخطيط بلدي عادية، لكنها في الحقيقة مبادرة تمس جوهر الصراع اليهودي - العربي: الأرض.

من اجل اقامة المنطقة الصناعية ينبغي على الطرفين تقديم تنازلات موجعة. اليهود، مثلا، سيتوجب عليهم التنازل عن حوالي 300 دونم لصالح جيرانهم العرب. لكن اليهود، الذين اعتادوا، طوال السنين، على اتخاذ القرارات من فوق رؤوس العرب ودون التعامل معهم كشركاء متساوي الحقوق، يجدون من الصعب المخاطرة بهذه الفكرة. غولدين: "في البداية كنت متفائلاً جدًا، لكنني حتى الآن لا ارى مخرجاً من هذا المأزق. القضية تبدأ من مشكلة في الحوار، في الاتصال. اية كلمة تقال في جلسة ما تعطى لها، لاحقًا، تفسيرات معاكسة تمامًا لما قصد القائل قوله. كما ينبغي التغلب، ايضاً، على معوقات عاطفية، ومخاوف، وتعارض مصالح وغيرها. هذه ليست مفاوضات تجارية عادية. الصراع كله يختبىء خلف هذا الموضوع. ثمة اهمية وتأثير للخلفية وللرواسب التي تطفو في كل المداولات".

ويقول غولدين انه من الصعب ان يكون متفائلاً لأن مهمته، ايضاً، انتهت من ناحية رسمية. من أجل المشروع، توجهت بلدية سخنين ومجلس مسجاف الى وزارة الصناعة والتجارة بطلب تخصيص ميزانية لمخطط المشاريع. الوزيرة داليه ايتسيك صادقت على ميزانية كهذه لمدة نصف سنة. إستأجر الطرفان مكتبا لغولدين بجوار بلدية سخنين وبدأ يعمل هناك. بانتهاء الأشهر الستة، طلب تمديد الفترة فحصل على ستة اشهر اضافية. وحين انقضت هذه ايضاً، اعلنت الحكومة عن سحب يدها من الموضوع.

غولدين غاضب: "انها السلطة السيادية العليا وتتصرف كأن الأمر لا يعنيها. ثمة هنا حالة معقدة، ليست المشكلة اننا تقاعسنا ولم يتوجه الي احد بادعاء انني لا أدير المشروع بطريقة جيدة. الأمر، ببساطة، يتطلب وقتاً، الكثير من الوقت. فحين يتشاجر شقيقان لا يقوم الوالدان بطردهما من البيت، بل يتدخلان، بما اوتيا من قوة وتأثير، لاصلاح ذات البين واحلال السلام بينهما. اما هنا فالوالدان، أي الدولة، يتنصلان من المسؤولية. قالوا لنا {عندما تتوصلون الى اتفاق، تعالوا الينا مع التفاصيل}. كأنهم مراقبون حياديون. حدث هذا حين بدأنا، آخر الأمر، بالحديث عن الجوهر، عن التفاصيل الصغيرة والمؤلمة حقًا".

ـ قد لا يكون الجميع في الجليل آسفين على تنصل الحكومة، ليس جميعهم يباركون نشاطك هذا.

"هذا صحيح. ثمة من يعتقدون بأننا نحن اسياد البلاد وأصحابها وينبغي تنغيص الحياة على العرب لكي ينصرفوا من هنا، لكنهم أقلية. لدى الموظفين في أجهزة السلطة جدول أعمال خاص بهم، مصالح تنظيمية يحاولون خدمتها ودفعها الى امام، وكل من يأتي بجدول أعمال للتعاون فهو، في كثير من الأحيان، يزعجهم ويشوش عليهم".

يواصل غولدين، اذن، الحضور الى المكتب في سخنين تطوعاً، وتطبيق رؤيا الجيرة الحسنة، بجسده: جاراه في الرواق، مستشار ضرائب ومحام، يطلان بين الفينة والأخرى، للسؤال عن حاله. على الطاولة صحن صغير فيه حلويات عربية وعلى النار غلاية قهوة سمراء، بروح المكان. هاتفه النقال لا يتوقف عن الرنين. أكثر المحادثات من زملاء او شركاء عرب في الأطر العديدة التي ينشط فيها. المكتب لطيف، لكن البناية مهملة جداً، جزء منها غير مكتمل البناء والإسمنت العاري يبث برودة مثيرة للكآبة والانقباض. "هذا بسبب الوضع الاقتصادي. يبنون جزءًا، يؤجرون المكاتب ثم ينتظرون توفر المال لمواصلة البناء".

غولدين راض عن نفسه، لكن بعض شركائه يشككون في مجرد بقائهم في الجليل. مارسيلو سفيرسكي، مدرس في مدرسة ثانوية في حيفا ويسكن بجوار غولدين في "أفيف"، قال لمراسل "هآرتس" قبل سنة: "يجب ان نفهم اننا نحن أنفسنا جزء من المشكلة. نحن متعاونون مع حركة الاستيطان الصهيونية في الجليل. توطننا هنا شبيه بالاستيطان في المناطق (الفلسطينية)، وأنا لا أنام الليالي قرير العين. السؤال هو ما العمل بهذا الشأن. كيف ننفض عن أنفسنا هذه الرسالة الأيديولوجية التي لم نتماثل معها يوماً، ونبين اننا غير مستعدين للتعاون مع هذه البديهية الصهيونية".

ـ ألست قلقا من حقيقة كونك تطبق، بجسدك، مشروع شارون وشركائه الاستيطاني الكبير؟

غولدين: "أنام الليالي جيدًا جدًا. انا صهيوني، وهذه البلاد، بالنسبة لي، هي بيت قومي للشعب اليهودي ويحق لنا السكن فيها. القضية هي ان علينا ان نتذكر اننا لسنا وحدنا اصحاب هذه البلاد، بل ان اولئك الذين سكنوا فيها منذ القدم هم اصحابها ايضا. ولذلك يجب ان تكون بيننا وبينهم مساواة مدنية تامة ومطلقة. يجب الإعتراف بأنه وقع اجحاف وغبن في الماضي، الإعتراف وعدم الإنكار. لكن ليس من الممكن اصلاح غبن الماضي بغبن جديد. علينا ان نجد الطريق، بواسطة حلول جيدة للجميع، وليس فقط ما هو جيد لليهود. اذا كانوا قد اهتموا كل الوقت، خلال السنوات العشرين الماضية، بتطوير مسجاف فقط، فينبغي البدء بالاهتمام، منذ الآن، بتطوير الجليل".

انقضاض الجار على جاره

فيما كان غولدين يحاول تغيير نواميس الحياة، نزلت عليه ذات صباح قائظ في اول آب، ضربة قاتلة - موت ابنه. يوم الجمعة خرج عومري من الجيش الى عطلة. مر بالبيت، أخذ السيارة وسافر الى يفنه، كعادته في نهاية كل اسبوع. في السنوات الأخيرة خصص كل لحظة فراغ لديه للفرقة الموسيقية التي كان هو مغنيها.

في يوم الجمعة المذكور، اقامت الفرقة حفلاً في نادٍ ليلي في تل أبيب حضرها العشرات من الشبان المتحمسين. كان الحفل ناجحًا جداً، وفي ختامه قال عومري لأحد اصدقائه، تومر جونس:

"كان هذا أسعد أيام حياتي". بعد الحفل سافر الى يفنه للمبيت لدى احدى صديقاته - غالبية اصدقائه في "يفنه" منذ مرحلة الدراسة الثانوية - وفي الغداة سافر شمالاً لقضاء يوم السبت مع عائلته. وفي يوم الأحد صباحاً، صعد سوية مع جارته وصديقته المقربة أفيف رون الى حافلة الركاب متوجهاً الى معسكر قيادة المنطقة العسكرية الشمالية في مدينة صفد. وفي مرحلة معينة صعد جهاد حمادة الى الحافلة. بعد دقائق معدودة فجر الحمولة التي كانت على جسده. عومري قتل على الفور. أفيف اصيبت بجراح بالغة.

عومري، مما قيل وكتب ونشر عنه بعد موته، كان شاباً مؤثراً ووسيماً، استطاع احتواء مزيج شبه مستحيل: الإمتياز في الخدمة العسكرية والعضوية في فرقة موسيقية. كلما كبر ازدادت لديه الحاجة الى التعبير عن رأيه بما يجري في الدولة. إحدى الأغنيات في القرص المدمج الذي اصدرته الفرقة عنوانها "يوم خراب الدولة"، ومنها الأسطر التالية: "جثث محروقة في كل مكان / النار المشتعلة طوقت الناس ... الأرض اصطبغت فجأة بالأحمر/ لم يتوقع احد هذا اليوم الفظيع".

والده، أميرام غولدين، يقول انه بعد سبعة اشهر لا يزال الأمر يزداد صعوبة: "عومري يرافقني كل الوقت، في كل مكان. انه حاضر بلا انقطاع. انني اتمالك نفسي بقوة لأداء مهام عملي، ان أطرد هذا ولا أفكر. كلما مر وقت أطول، كلما ازداد الشوق والحنين، لأنك توقن انك لن تراه الى الأبد. هل شاهدت ذات مرة دجاجة يقطعون رأسها؟ انها تواصل الغرغرة بضع دقائق بعد ذلك. حالنا نحن كحالها. بعد اشهر على وفاته لا نزال ننتظر، كل الوقت، ان يفتح الباب ويعود. رويدًا رويدًا تستوعب ان هذا لن يحدث بعد الآن، أبداً.

"كل شيء صغير يذكرني به. أي شيء يقوله أي انسان عفو الخاطر، حين امر بالمفرق الذي كنت آخذه منه كل يوم تقريبًا بعد الجيش، او حين امر بنقطة كنت فيها اتصل به من الهاتف الخلوي. لا يمكن الهروب من هذا كله. الناس يميلون الى الإعتقاد بأن الأمور عندي بقيت كما كانت من قبل، ويتفوهون بكلام ناب وحاد دون قصد سيء، لكنني ما عدت كما كنت. ليست لدي القدرة نفسها على مواجهة الأمور، احتاج الى وقت اكبر لمعالجتها والتغلب على عواصف النفس. قالت لي سيدة حكيمة فقدت ابنها في "حرب الغفران" (تشرين اول 1973)، ان هذا اشبه بجرح مفتوح، وعليه طبقة دقيقة جدًا من الجلد وكل لمسة لها تثير الألم. مع الوقت اصبح أكثر حساسية وأقل قابلية للمسّ. لا استطيع مشاهدة كوارث او مناظر حزينة في التلفزيون. هذا يصيبني بالشلل".

جنازة عومري كانت حدثاً جماهيرياً. نحو عشرة آلاف شخص شارك فيها، بينهم الآلاف من العرب اصدقاء اميرام وزملاؤه. "هنالك من قال لي ان رؤيانا تحققت في الجنازة، بمعنى ما. تعايش وسير مشترك، وكان هنالك حقًا شعور قوي جدًا بالوحدة"، يقول، لكنه لا يجد في ذلك عزاءً حقيقيًا. "عومري لم يكن نشيطاً سياسيًا، لكنه قبل بطريقي كأنه مفهوم ضمناً، تقريباً، لأن أي انسان، بالنسبة اليه، هو انسان يتفق معه او يختلف دونما علاقة بأصله او هويته، اطلاقاً. حين اقترحت عليه الانضمام اليّ لتعلم اللغة العربية، انضم دون تردد فكان يأتي الى المكتب هنا في ايام الثلاثاء فنجلس سوية مع المعلم. بعد ايام الحداد السبعة استأنفت تعلم العربية. فتحت الدفاتر فوقعت عيناي مباشرة على الكلمات الأخيرة التي تعلمناها معاً. لم أقو على الاستمرار. انتقلنا الى طرق جديدة للتعليم".

الضربة الثانية حلت بعد الحادث بفترة قصيرة: فقد تبين ان الشاب المنتحر حصل على مساعدة نشطة، نشطة جدًا، من اسرائيليين من الجليل. وبموجب لائحة الإتهام، قام ياسين وابراهيم بكري بمساعدة جهاد حمادة في تحديد الباص الذي يسافر فيه عدد كبير من الجنود في منطقة كرمئيل، ونصحاه بالتنكر كسائح، بل اصطحباه ايضًا للمبيت في منزل والدي ابراهيم من غير ان يطلعاهما على برامجه. يوم الرابع من آب، في الساعة السادسة والنصف صباحاً، توجه ياسين وابراهيم الى محطة الباصات المركزية في كرمئيل، وتفحصا جدول مواعيد الباصات وقررا تنفيذ العملية في الباص رقم 361 ثم عادا الى البعنة، واصطحبا حمادة وأعطياه ثياباً اضافية للتبديل. بعد ذلك اوصلاه الى نقطة قريبة من بلدة "شزور" وأرشداه بما سيقول للسائق.

"هذه خيانة"، يقول غولدين. "لم يكن هذا مخرباً انتحارياً أتى من مجتمع يائس ومضروب، وانما اناس اشاركهم انا الحياة هنا. انه "انقضاض الانسان على جاره". اني غاضب عليهم اكثر بكثير من غضب شخص يميني عليهم. فاليميني اصلاً يعتبر العرب جميعاً اعداءً، وليست لديه اي توقعات منهم. انا اعتبرهم شركاء. في اعقاب القتل، وحين تصدرت الصحف عناوين كبيرة تقول "عائلة القتل" عبرت عن معارضتي لهذا. انه شيء فظيع، فقد دمغوا اكثر من الف انسان ـ تعداد عائلة بكري ـ وهي عائلة معروفة بجذور الشراكة اليهودية ـ العربية في الجليل".

وعلى الرغم من ذلك، فحين شاهد محمد بكري يتحدث في وسائل الاعلام باسم العائلة، ينفي ويتهم، تجرحت مسامعه. "شرعي ان يدافع عن عائلته، خاصة وانه لم يصدق انهما فعلا أي شيء، لكنني اعتقدت انه يتوجب عليه قول شيء ما للعائلات الثكلى التي نسيها".

على عتبة حرب أهلية

بعد الحادث بشهرين، نظم اجتماع شعبي يهودي ـ عربي مشترك في ذكرى مرور عام على احداث اكتوبر 2000. في البرنامج: إحياء ذكرى الشهداء العرب، وعرض فيلم "جنين جنين" الذي أخرجه محمد بكري، وكان مخططًا ان يليه نقاش. اتصلوا لدعوة غولدين للمشاركة في النقاش. كان ذلك مبالغًا فيه قليلاً. "ليس لديّ أي اعتراض على عرض الفيلم، رغم اعتقادي بضرورة الفصل بين الأحداث التي وقعت هنا وبين ما حدث هناك. لكن بالنسبة لي، وفي تلك المرحلة بالذات، كان من الصعب عليّ الجلوس على منصة واحدة مع ابن عائلة قاتلي ابني".

خلال الوقت الذي انقضى منذ ذلك الحين، قام محمد بكري بجس النبض لدى غولدين، بواسطة اصدقاء مشتركين، إن كانت الظروف قد نضجت للقيام بزيارة للتعزية. غولدين كان يرفض، لكنه كان يتمنى في سره ان يتجاهل بكري الرفض ويحضر لزيارته، رغم ذلك. "لم أكن لأطرده بالطبع". الفصل التالي من هذه الرواية دار في المحكمة وفي المقالة التي ارسلها الى "هآرتس" عقب ذلك.

"الرسالة الأهم بالنسبة لي كانت اننا على عتبة حرب أهلية"، يقول غولدين. "انها سيرورة أرانا نخطو نحوها منذ زمن، لكن في المحكمة ادركت انه يحدث بسرعة لم أتخيلها. الموجة تقترب والحاح المشاكل التي تتطلب المعالجة كبير جدًا. الحالة البوسنية تظل ماثلة امام عيني، اذ هناك ايضاً بدأت حين أخذ مسلمون ومسيحيون كانوا يسكنون في البناية نفسها يقتلون بعضهم البعض. اليوم جيران، غداً أعداء. أعرف هذه الحالة عن قرب، لأن والدَي زوجتي جاءا من سراييفو".

الرد لأكثر أهمية على مقالته تلقاه غولدين من على صفحات الصحيفة، من محمد بكري، ونشر بعد المقالة بثلاثة ايام في زاوية رسائل القراء. "أخي أميرام غولدين"، كتب محمد بكري، "قلت لك آنذاك، كما أقول لك اليوم، انني استنكر أي عمل ضد مواطنين أبرياء، ولا استطيع تفهم او تبرير مثل هذه الأعمال... القليل الذي استطيع عمله، اذا أذنت لي، هو ضمك الى صدري مثل أخ، والنظر الى عينيك مباشرة لأقول لك: أنا آسف".

ـ ما الذي خطر ببالك حين قرأت الرسالة؟

غولدين: "بعض الأصدقاء اتصلوا بي متأثرين، بل ان والدًا ثاكلاً قال لي انه قرأ الرسالة اربع مرات وبكى. انا لم أتحمس الى هذه الدرجة. لقد رأى هؤلاء ما كان في الرسالة، ولا شك انها تضمنت اشياء مؤثرة. اما انا فقد رأيت اكثر ما لم يكن فيها ـ التطرق العيني للعمل المحدد الذي قام به قريباه".

رغم ذلك، وحين جرت محادثة هاتفية بينهما اتفق غولدين وبكري، اخيرًا، على الالتقاء. غولدين لا يخفي تأثره: "قلت له ما أفكر به. كان لي حساب عند هذه العائلة. لم يجادلني. شعرت انه غير قادر على الفهم كيف حل هذا به. فهذا الولد، ياسين، نشأ وترعرع عنده في بيته وكان يرافقه الى صيد السمك في أيام السبت. لم يكن متدينًا، ولا ناشطاً سياسياً، ولم يتخيل أحد ان يقدم على مثل هذا العمل، ولا احد يفهم سبب اقدامه عليه. وفي نهاية الأمر، كلانا يعتبر مستقبلنا هنا مشتركاً. هو يتحدث عن الحب وانا عن السلام. من ناحيتي، لسنا ملزمين بأن نحب، لكننا مجبرون على العيش معاً. قد أكون اقل عاطفية. الحب شيء شخصي، انا غير ملزم بأن أحب كل العالم".

(أفيف لافي، ملحق هآرتس الاسبوعي، 28/3، الترجمة العربية: "مـدار")

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات