المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بات من "الأسرار المفضوحة" أن الحكومة الإسرائيلية اليمينية الحالية تستقوي بإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من أجل الدفع قدماً بسياستها لا فيما يخص الفلسطينيين فحسب، إنما أيضاً فيما يرتبط بكل من يخالفها الرأي في الحلبة السياسية الداخلية.

 

ويُشكّل المقال الخاص بقلم المدير العام لمنظمة "بتسيلم" الإسرائيلية لحقوق الإنسان حجاي إلعاد، الذي ننشره في هذا العدد من "المشهد الإسرائيلي"، بمثابة برهان آخر على حقيقة هذا الاستقواء، إلى ناحية الإقدام على مزيد من إجراءات تضييق الخناق حول الحيّز المدنيّ داخل إسرائيل، والتي تحت وطأتها أصبح من العاديّ جدّاً في إسرائيل الحاليّة، وصف المنظمات غير الحكومية التي تعارض الاحتلال بالخيانة والعمالة لجهات أجنبيّة مشبوهة، من طرف رئيس الحكومة فنازلاً. وكما يقول إلعاد، في هذا الواقع أصبحت الممارسة الدائمة قوامها خليط من الترهيب والانتهاك وسنّ القوانين، محدّدة بذلك معيار "العاديّ الجديد". كذلك نُحّيت جانباً الحاجة إلى الحفاظ على ممارسات تنسجم ظاهريّاً مع معايير الديمقراطيّة، واستُبدلت بشهيّة سياسيّة مفتوحة لهتاف جمهور مُعجب بحكومته التي تلاحق الطابور الخامس.

ويورد الكاتب مثالاً على ذلك "قانون الجمعيات" الذي جرى في البداية تسويقه تحت غطاء "تعزيز الشفافية" من جانب تلك المنظمات غير الحكومية، لكن الشفافية لم تكن أبداً هي المسألة الأساسية، نظراً إلى أنّه ومنذ إقراره يُستخدم هذا القانون منصّة انطلاق إلى تشريعات أبعد مدى وخطورة، لا تمتّ إلى "الشفافية" بصِلة سوى أنّها تستهدف بشفافية ووضوح منظمات حقوق الإنسان عبر التضييق عليها بالقيود الإدارية والتشهير بها.

ويلفت إلعاد إلى أن "قانون الشفافية" لا يقيّد الوصول إلى التمويل الأجنبي. لكن في حزيران 2017، أكّد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو علناً أنّه أوعز إلى الوزير ياريف ليفين بصياغة قانون جديد من شأنه أن يسدّ أبواب تمويل الحكومات الأجنبية للجمعيات الإسرائيلية، وهو مسعًى يستهدف صراحة منظّمات حقوق الإنسان التي تعارض الاحتلال في أراضي 1967. وبصدد موضوع الاستقواء بإدارة ترامب، يكتب أنه في سياق مقابلة مع صحيفة "هآرتس" شرح الوزير ليفين خلفيّة التحوّل في موقف الحكومة، من سنّ قانون قبل عام لم يقيّد التمويل المقدّم من حكومات أجنبية، إلى السعي لتشريع قانون جديد يقيّد مثل هذا التمويل. وجاهر ليفين بأنّ ما أتاح إمكان حدوث ذلك هو صعود إدارة جديدة إلى سدّة الحكم في الولايات المتحدة، قائلاً: "لم يكن تحقيق ذلك ممكناً في عهد إدارة باراك أوباما. فلقد كانوا ممتعضين من مشروع القانون، بينما الإدارة الأميركية الحاليّة لا مشكلة لديها في هذه المسألة بتاتاً".

وقد سبق لليفين نفسه، في إطار مقابلة أخرى أدلى بها في نهاية العام الفائت إلى صحيفة يمينية إسرائيلية ("مكور ريشون")، أن حدّد الوجهة التي ينوي اليمين في إسرائيل أن يغذّ السير فيها في المستقبل المنظور، وخصوصاً على المستوى الداخلي، في ظل هذه الأوضاع الخارجية.

ومما قاله ليفين إن إسرائيل تشهد تدهوراً خطراً في كل ما يتعلق بمنح مزيد من الصلاحيات إلى المحكمة العليا والجهاز القضائي، فهذه المحكمة تدوس برأيه الحكومة والبرلمان وتنصّب نفسها كحاكم مطلق وتتبنى أجندة ما بعد صهيونية. وأشار إلى أن مجموعة من القضاة تختار نفسها بنفسها داخل غرف مغلقة، تفرض وجهة نظرها على الجمهور العريض برمته. وجزم بأنه لا يجوز قبول هذا الوضع، ولا بُدّ من إجراء تغيير جذري بهذا الشأن.

ولدى الدخول في التفاصيل أكد ليفين أنه لا يُعوّل على إمكان تغيير الجهاز القضائي والمحكمة العليا من الداخل، كما تسعى وزيرة العدل الحالية من حزب "البيت اليهودي"، أييلت شاكيد، بل يجب فرض تغيير كهذا يتماشى مع أجندة اليمين من الخارج، أي بالقوة. وسارع إلى شرح أن هذا يبدأ من طريق خفض جيل خروج القضاة إلى التقاعد، ومن ثمّ تغيير تركيبة اللجنة الخاصة التي تختار هؤلاء القضاة، وإقرار أمر يقضي بأن تخضع جميع قوانين الأساس التي تحلّ مكان الدستور ولم يتم سنّها بأغلبية 61 عضو من أعضاء البرلمان الإسرائيلي الـ120، إلى إجراءات تشريع متجدّدة بما يتيح إلغاءها في حال عدم حصولها على هذه الأغلبية. وسدّد مهدافه على وجه التخصيص صوب قانون أساس "كرامة الإنسان وحريته" لافتاً إلى أن البرلمان صادق على هذا القانون في العام 1992 بأغلبية أقل من ثلث أعضائه المذكورين، وبذا منح المحكمة العليا ذخيرة من فائض الصلاحيات في مقابل السلطتين التنفيذية والتشريعية.

لا يُعتبر مشروع ليفين هذا المصوغ بأوضح العبارات، والساعي بالأساس لتقييد صلاحيات المحكمة العليا، جديداً إنما متجدّد وهو يشكل جزءاً مكمّلاً من حرب تشريعية متواصلة يثابر اليمين الإسرائيلي في شنها على مدار الأعوام الأخيرة. لكنه هجوم يأخذ منحى أكثر منهجية وتصميماً مما سبق، وبالتأكيد سوف تترتب عليه أبعاد ترتبط بكل ما يمكن إدراجه في نطاق حقوق الإنسان. فقانون أساس "كرامة الإنسان وحريته" الذي توقف عنده، حسبما نوهنا مراراً وتكراراً، يعتبر في واقع إسرائيل القانوني والقضائي، بمثابة "ميثاق حقوق الإنسان" غير المُكتمل. كما أن المحكمة العليا ليست سوى مُجرّد عنوان ظاهريّ، بينما الهدف المقصود فعلاً هو حقوق الإنسان. وفي آخر تقرير صادر عن جمعية حقوق المواطن الإسرائيلية وتطرقنا إليه في السابق، ورد في مقدمته أن القيم التي ظنّ البعض أنّها أصبحت بمرور الأعوام مفهومة ضمناً، كالحقّ في المساواة وحرّية التعبير، تبيّن أنّها ما زالت تحتاج إلى حماية. وحتّى الخصائص الأساسية للديمقراطية يتهدّدها الخطر، مثل سلطة القانون، فصل السلطات، صَوْن حقوق الإنسان وحماية حقوق الأقلّية من دكتاتورية الأغلبية.

ما يقوله إلعاد بوضوح وصدق إن القادم حتى بعد هذا كله، قد يكون أشدّ وأدهى.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات