لا يخفي اليمين الإسرائيلي الجديد منذ أكثر من عقد أن المحكمة العليا، بالإضافة إلى المؤسسة الأكاديمية ووسائل الإعلام وكبار الموظفين الحكوميين، موجودون في أولى درجات مهدافه، وذلك في سياق مسعاه المنهجي لتكريس هيمنته على الحلبة السياسية والتي بدأت في العام 1977. وبلغ استهداف المحكمة العليا من طرف هذا اليمين ذروته هذه الأيام في ما يعرف باسم "خطة الإصلاح القضائي" التي طرحتها الحكومة الحالية وترى فيها المعارضة البرلمانية بالإضافة إلى جهات أخرى أنها بمثابة انقلاب على السلطة القضائية بهدف إخضاعها إلى السلطة التنفيذية مثلما جرى إخضاع السلطة التشريعية.
وجرى تسويغ استهداف المحكمة العليا بحجة أنها "تخون" القيم اليهودية، وتتعامل مع إسرائيل بأنها دولة يهودية وديمقراطية، ولا تعطي الأولوية لواقع أنها دولة يهودية قبل أي شيء، بغض النظر عما إذا كانت هذه الحجة ذات صلة أو ليست ذات صلة بهذه "الخيانة" فعلاً (في هذا العدد من "المشهد الإسرائيلي" تطالعون القسم الأول من تحقيق نشره موقع صحافي استقصائي إسرائيلي مستقل حول عقيدة رئيس حزب "الصهيونية الدينية"، الوزير بتسلئيل سموتريتش، أشار فيه من ضمن أمور أخرى إلى أنه قال في العام 2019، في مقابلة مع الإذاعة الرسمية العبرية: "إن إسرائيل بعون الربّ ستعود إلى الاحتكام مثلما كانت في أيام الملك داود والملك سليمان، وفقاً لشريعة التوراة، طبعاً بما يتماشى مع هذه الأيام (...) وهذا ما ينبغي أن يكون، فهذه دولة يهودية... إن شرائع التوراة أفضل بكثير من دولة الشرائع التي ابتدعها أهارون باراك [الرئيس السابق للمحكمة العليا] هنا").
وكما نوهنا، مرات كثيرة، لم يُثر وزير عدل إسرائيلي من النقاش ومن الصراع والمساجلات في تاريخ السلطة القضائيّة، ما أثاره وزير العدل الحاليّ من الليكود ياريف ليفين منذ نهاية العقد الأول من القرن الحالي، ليس فقط لأنه أوقف نشاطه كله لهذا الغرض تحديداً، وإنما أيضاً لأن مواقفه كانت تثير ذلك بالمواجهة أكثر من النقد والسجال.
وفي الوقت الحالي الذي تستمر فيه حملة إضعاف السلطة القضائية الإسرائيلية، كشف رئيس "قسم المجتمع المدني" في "فوروم كوهيلت"، عدي أربيل، في إطار مقال نشره في صحيفة "مكور ريشون" اليمينية الأسبوع الفائت، أن الهجس بخطة استهداف المحكمة العليا والتي تبلورت بصورة نهائيّة من طرف الحكومة الحالية، بدأ بعد أن قررت هذه المحكمة مناقشة طلبات التماس قدمت إليها ضد "قانون القومية" الإسرائيلي الذي سنّه الكنيست في العام 2018 كقانون أساس (دستوريّ) وينص على تعريف إسرائيل بأنها "الدولة القومية للشعب اليهودي" (معروف أن "فوروم كوهيلت" يعرّف نفسه بأنه "معهد أبحاث مستقل يعمل من القدس من أجل ضمان مستقبل إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي، وتعزيز الديمقراطية التمثيلية، وتوسيع الحريّات الفرديّة، وتعميق مبادئ السوق الحرّة").
وبرأي أربيل، بدلاً من أن تقوم المحكمة العليا برفض طلبات الالتماس هذه جملة وتفصيلاً والإقرار بأنه ليس من صلاحية هذه المحكمة مناقشة قوانين أساس يسنها الكنيست، فإنها تسببت بسابقة تجيز لها صلاحية مثل هذه المناقشة. ومن ناحية عملية، يمنح هذا الإقرار المحكمة العليا إمكان قبول أو رفض دستور لإسرائيل في حال سنّه، من خلال التغاضي الفظّ عن دور الكنيست كسلطة تأسيسية موكلة بكتابة دستور كهذا.
ويؤكد أربيل كذلك أن المحكمة العليا تعاملت باستهتار مع "قانون القومية"، ما استلزم بلورة "خطة الإصلاح القضائي" التي تهدف من بين أشياء كثيرة إضافية إلى أن تكبح ما يصفها بأنها سيادة السلطة القضائية على السلطة التشريعية. وبكلمات أخرى تتغيّا هذه الخطة استعادة السلطتين التنفيذية والتشريعية لقوتهما مما ينعت بأنه سيطرة المحكمة العليا ونفوذها المبسوط على السياسة وغيرها، من خلال التنكّر لحقيقة أن إسرائيل دولة يهودية أولاً وقبل أي شيء.
من ناحية أخرى كشف أربيل في الوقت عينه عن دوافع سنّ "قانون القومية" في حينه، وهو ما قد يحتاج إلى وقفة أخرى.
عند هذا الحدّ ينبغي أن نعيد تذكير جمهور القراء بأن المحكمة الإسرائيلية العليا رفضت يوم 8 تموز 2021 إلغاء القانون الذي ينص على أن إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي المعروف بـ "قانون القومية" الذي أقره الكنيست يوم 19 تموز 2018 كقانون أساس. وجاء قرار المحكمة العليا هذا بعد نظرها في طلبات التماس قدمتها جمعيات حقوقية ضد "قانون القومية" بهيئة موسعة مؤلفة من 11 قاضياً، ونصّ على رفض إلغاء القانون ورفض إجراء أي تعديل على بنوده، وذلك بأغلبية 10 قضاة في مقابل قاض واحد هو القاضي العربي جورج القرا من مدينة يافا، الذي أكد أن القانون يمس جوهر الهوية الديمقراطية للدولة، ويهز أركان بنيتها الدستورية.
وقالت رئيسة المحكمة العليا، القاضية إستير حيوت، في قرارها إن "قانون القومية" لا يلغي الطابع الديمقراطي للدولة، بل يهدف إلى ترسيخ هوية الدولة باعتبارها دولة يهودية من دون الانتقاص من الهوية الديمقراطية الراسخة في قوانين الأساس والمبادئ الدستورية الأخرى التي تنطبق على النظام القانوني في إسرائيل.
وكانت جمعيات حقوقية إسرائيلية وعربية قدمت 15 طلب التماس لإلغاء هذا القانون الأساس الذي يكرس إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي، ويمنح أفضلية للغة العبرية على العربية، وللاستيطان اليهودي، ويمنح اليهود فقط حصرية حق تقرير المصير في إسرائيل، ويعتبر القدس الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل.
وتعقيباً على قرار المحكمة العليا هذا، قال مركز "عدالة"، وهو إحدى المنظمات غير الحكومية التي قدمت طلب التماس ضد القانون، في بيان صادر عنه: "إن تحديد الهوية الدستورية لدولة إسرائيل كدولة يهودية وإقصاء السكان الأصلانيين للبلد، الذين لا ينتمون إلى المجموعة المهيمنة، غير شرعي ويقع ضمن المحظورات المطلقة بموجب القانون الدولي". وأكد البيان أن قرار المحكمة العليا يشكل إثباتاً إضافياً على أن هذه المحكمة لا تدافع عن حقوق الفلسطينيين أمام أحد القوانين الأكثر عنصرية في العالم، وذلك منذ الحرب العالمية الثانية، ومنذ سقوط نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا.