خلصت صحيفة "هآرتس" من وقائع محضر الجلسة التي عقدتها الحكومة الإسرائيلية قبل 30 عاماً، وتحديداً في يوم 30 آب 1993، وصادقت خلالها على اتفاقية أوسلو التي وقّعتها مع منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن يوم 13 أيلول من العام نفسه وحملت الاسم الرسمي "إعلان المبادئ"، والذي كشف عنه النقاب الأرشيف الرسمي لدولة إسرائيل الأسبوع الماضي، أن إسرائيل لم تنظر إلى هذه الاتفاقية باعتبارها نقطة انطلاق نحو التخلّي عن الاحتلال في أراضي 1967، ونحو منح الفلسطينيين الحق في الحرية وتقرير المصير والاستقلال.
ومما كتبته "هآرتس" في سياق افتتاحية أنشأتها غداة كشف النقاب عن المحضر السالف: إن المحضر مثير للغاية بما غاب عنه وربما أكثر مما ورد فيه، فقد تم تجنّب التطرّق إلى الاحتلال الإسرائيلي أو إلى حق الفلسطينيين في الحرية والاستقلال. وأضافت: واضح من المحضر أن إسرائيل، حتى عندما كانت تتسلم مقاليد الحكم فيها الحكومة الأكثر يسارية في تاريخها، لم تكن تنوي الانسحاب من أراضي 1967 وأن تقيم فيها دولة فلسطينية. كما أن إسحق رابين (رئيس الحكومة الإسرائيلية إبان توقيع اتفاقية أوسلو) عارض أي نقاش حول القدس، وشدّد وزراء حكومته على أهمية استمرار السيطرة على "الأراضي العامة" أو "أراضي الدولة" في الضفة الغربية (والتي تمت تسميتها في وقت لاحق بـ "مناطق ج")، وذلك بهدف الاحتفاظ باحتياطي أراضٍ في سبيل توسعة المستوطنات. ووعد رابين بإقامة سلطة فلسطينية تعمل (من وجهة نظره) كمقاول ثانوي أمني لدى الجيش الإسرائيلي وتحاول كبح صعود حركة "حماس"، ولا شيء أكثر من ذلك ("هآرتس"، 1/9/2023).
ويُعدّ كشف النقاب عن محضر جلسة الحكومة الإسرائيلية التي صادقت على اتفاقية أوسلو جزءاً يسيراً من مواد يصعب حصرها ترى النور هذه الأيام في إسرائيل في مناسبة ذكرى مرور ثلاثة عقود على توقيع تلك الاتفاقية.
ومما اشتملت عليه هذه المواد سنتطرق بإيجاز إلى مسألتين:
الأولى، تأكيد عدد من الناطقين المفوّهين بلسان اليمين الإسرائيلي أن الغاية الجوهرية بعيدة المدى، التي تطلعت إسرائيل إلى تحقيقها عبر التسوية التي كان من المُفترض أن تنجم عن تلك الاتفاقية، هي "نهاية الصراع"، وهو المُصطلح الذي يُقصد به إسرائيلياً، على وجه الدقّـة، وضع حدّ لأيّ مطالب فلسطينية. وشدّد هؤلاء أيضاً على أن سبب فشل هذه الاتفاقية يعود، قبل أي شيء، إلى رفض الفلسطينيين التجاوب مع هذه الغاية الإسرائيلية المُحدّدة. ونوّه بأن هذا الرفض ظهر جلياً، على نحو خاص، في وقائع القمة التي عقدت في كامب ديفيد (الولايات المتحدة) في العام 2000 بين رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق إيهود باراك، والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وانتهت بإخفاق تامّ. وما زلنا نذكر فعلاً أن مطلب باراك، في أثناء تلك القمة، بأن يوقّع الجانبان على "اتفاق سلام نهائي" يترافق مع إعلان فلسطيني بشأن "نهاية الصراع" مرة واحدة وأخيرة، شكّل من ضمن أمور أخرى نقطة تحوّل حاسمة فيها إلى ناحية انفجارها، ومن ثمّ تعثّرت عملية المفاوضات برمتها في الأعوام اللاحقة. ومنذ انعقاد هذه القمة استحال المطلب السالف إلى ما يشبه لازمة مُدجّجة بإجماع إسرائيلي، بحيث يُكرّر في كل مناسبة تتعلق بمسار أي جولة مفاوضات.
في واقع الأمر فإن هذا المفهوم الإسرائيلي فيما يتعلق بالغاية الجوهرية من وراء مسار أوسلو، غير منحصر في معسكر اليمين الإسرائيلي فقط، حيث سبق أن أكده أيضاً حاييم آسا، الذي شغل منصب المستشار الاستراتيجي لرئيس الحكومة السابق إسحق رابين، حين ذكر أن الهدف الأهم الذي كان موضوعاً نصب عينيّ هذا الأخير لدى توقيعه تلك الاتفاقية هو التأدية إلى تحسين حُظوظ إسرائيل في البقاء الماديّ على المدى البعيد، ولم تكن فيه أي اعتبارات نابعة من الفلسفة المرتبطة بـ"مقاربة الأخوة" لدى المهاتما غاندي. وشدّد بموازاة ذلك على أن أي تقييم مغاير في هذا الشأن، من قبيل القول إن رابين هو "فيلسوف سلام" لا شخصية إستراتيجية فذّة، سيكون بمثابة تشويـه لإرث هذا الرجل.
وأشار آسا إلى أن "عملية السلام"، التي أطلقها رابين في العام 1993، شكلت خطوة أولى (أوسلو) في مسار تضمن عدة خطوات، كجزء من عملية استراتيجية واسعة النطاق تهدف إلى استقرار علاقات إسرائيل مع كل دول الدائرة الأولى التي من حولها. وقد رأى رابين آنذاك حاجة إلى عملية كهذه كي يخفّض "حالة الاحتكاك العنيفة" بين إسرائيل والبلدان العربية المحاذية لها (سورية والأردن والفلسطينيون)، وبالتالي كي يسحب البساط من تحت أقدام دول الدائرة الثالثة (ولا سيما إيران وأيضاً العراق في ذلك الوقت) والتي شكلت منذئذ "تهديداً عنيفاً" لإسرائيل، وفقاً لقراءته. وبحسب رأيه كان من المفترض لهذه العملية أن تنتهي لاحقاً بتسوية سلمية مع سورية، تتسبب بنقلها إلى الجانب الغربي (الولايات المتحدة)، وكذلك بتجفيف منظمة حزب الله في لبنان، وبعزل إيران.
في ضوء ذلك يمكن القول إن الخلاف الحقيقي بين معسكري اليمين و"اليسار" في إسرائيل يتعلق برؤية كل منهما للمسار الذي يتعين إتباعه لتحقيق الغاية الجوهرية ذاتها، ولا يطاول بأي حال المنطلقات الصهيونية الأيديولوجية الثابتة إزاء القضية الفلسطينية وسائر المسائل الإقليمية، التي من السهل ملاحظة أنها ما زالت تشكل قاسماً مشتركاً لهما، أولاً ودائماً.
المسألة الثانية، فيما يتعلق بمسار أوسلو على وجه التحديد، اعترف الوزير وعضو الكنيست الإسرائيلي السابق يوسي بيلين، الذي كان بمثابة مهندس رئيس لاتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، بأن هذه الاتفاقية تبنّت إلى حدّ كبير مفهوم اليمين الإسرائيلي إزاء تسوية الصراع مع الفلسطينيين، وهو "مفهوم الخطوات المؤقتة". وأوضح أن هذا المفهوم أوجده رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق مناحيم بيغن في إطار اتفاقيات كامب ديفيد (مع مصر) في العام 1978، وتبناه خليفته إسحق شامير ضمن مؤتمر مدريد، الذي عُقد في العام 1991. ولفت إلى أن الاتفاقات المؤقتة لم تشكّل حتى مرحلة أوسلو جزءاً من رؤية من أسماه "معسكر السلام الإسرائيلي"، وإنما كانت صيغة ولدت في كنف الزعامة اليمينية في إسرائيل، ولجأ "معسكر السلام" إلى القبول بها.
وكان بيلين نفسه أشار سابقاً إلى أن اتفاق أوسلو "غيّر مجرى التاريخ" في منطقة الشرق الأوسط بأسرها، وأتاح إمكان عقد اتفاقية سلام لاحقة مع الأردن، وأوجد عنواناً جديداً لتمثيل الشعب الفلسطيني (يتمثل برأيه في السلطة الفلسطينية)، وأدى إلى ازدهار اقتصادي غير مسبوق في إسرائيل، وحسّن صورة دولة الاحتلال في نادي الأسرة الدولية، وفتح أمامها مجالاً كبيراً لإقامة علاقات دبلوماسية مع دول كثيرة، بما في ذلك دول عربية، وأدى إلى نشوء خريطة سياسية- حزبية جديدة في إسرائيل (من أبرز مظاهرها تعزّز ما أسماه "تيار الوسط")، غير أنه بالرغم من ذلك كله أخفق في تحقيق غاية إحراز سلام إسرائيلي- فلسطيني دائم.
ولعل أهم ما تشي به أقوال بيلين هذه كامن في حقيقة أخرى ليست غائبة عن الأذهان، هي أن اتفاقية أوسلو لم تكن اتفاقية سلام إسرائيلية- فلسطينية على الإطلاق، وإنما مجرّد اتفاق بشأن مبادئ عامة تتعلق بهذا السلام الدائم، وذلك في إثر بدء أول مفاوضات غير مباشرة بين الجانبين استمرت أقل من سبعة أشهر (في إطار مفاوضات مؤتمر مدريد للسلام) من دون أن تسفر عن أي نتائج ملموسة، وتمثل الهدف الأساس منه- على الأقل من وجهة نظر إسرائيل- في إجراء محادثات مباشرة من وراء الكواليس، كي يكون في إمكان عملية مدريد أن تستمر بعد أن وصلت إلى ما يشبه الطريق المسدود. وهذا يعني، في أقل تعديل، أن إحراز السلام الدائم ظلّ رهن المحادثات، التي استمرت عقب أوسلو، والتي لا تزال إلى الآن عالقة وعاجزة عن تحقيق أي اختراق حقيقي، فيه ما يشذّ عن المواقف التقليدية لدولة الاحتلال.
وثمة واقعة أخرى في أقوال بيلين تحيل إلى "الظروف الخاصة" التي مهّدت لأول اتفاقية مباشرة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. مهما تكن هذه الظروف لا بُدّ من أن نشير إلى أن رئيس الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت إسحق رابين سعى لأن ينجز تفاهمات مع السوريين والفلسطينيين من شأنها أن تضمن تحييدهمـا في سياق مواجهة بدأت تلوح في الأفق مع كل من العراق وإيران، عبر الاستفادة القصوى من انهيار الاتحاد السوفياتي واستفراد الولايات المتحدة بزعامة الحلبة الدولية، ومن عزلة منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات في ضوء تأييدهما نظام صدام حسين خلال حرب الخليج الأولى في العام 1991. مع ذلك، فإن المظاهر الاحتفالية التي رافقت توقيع اتفاقية أوسلو في حدائق البيت الأبيض الأميركي كوّنت انطباعاً وهمياً قوياً بأنها اتفاقية سلام، بينما لم تكن أكثر من خطوة أولى، بسيطة للغاية، في طريق التوصل إلى هكذا اتفاقية!
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, هآرتس, باراك, مؤتمر مدريد, معسكر السلام, الكنيست, رئيس الحكومة