جرت العادة أن تتسابق الدول والجيوش على عقد صفقات لشراء واقتناء الأسلحة والمعدّات العسكرية أو إلغاء عقد بعضها في أعقاب الحروب والمواجهات العسكرية، حيث تُختبر هذه الأنظمة والأسلحة بشكلٍ حقيقي بعيداً عن الاختبارات التجريبية. وقد أشرنا في مساهمة سابقة حول منظومة الدفاع الخاصة بالدبابات الإسرائيلية- "معطف الريح"[1] - إلى أن التقنيات العسكرية والأمنية الإسرائيلية شكّلت على مدار العقود الأخيرة "ذخراً لإسرائيل"، التي استطاعت بسببها أن تتقدّم الصفوف في قائمة الدول المصنّعة للأسلحة والتقنيات العسكرية والأمنية، كما أشرنا إلى أنها تنفرد- دون غيرها- في القدرة على اختبار وتجربة وتطوير الأسلحة، والتقنيات (الأمنية على وجه الخصوص كالتجسّس والتنصّت والمراقبة) إلى جانب التقنيات الدفاعية من التهديدات الصاروخية (التي سنتناول إحداها) بسبب طبيعتها العسكريتارية واستمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية والسيطرة على الجزء الأكبر من الشعب الفلسطيني في حدود فلسطين الانتدابية بشروط مختلفة.
ما زال من المبكر، جداً ربما، رصد التداعيات المتتالية لما حصل في ما يصفه الإسرائيليون بـ"يوم السبت الأسود"، السابع من تشرين الأول الأخير، ثم الحرب الانتقامية التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، والتغيرات التي ستحملها تلك التداعيات على المجتمع الإسرائيلي في المجالات المختلفة، وفي مقدمتها السياسية والأمنية بشكل خاص، لكن أيضاً الاجتماعية (على صعيد مستقبل العلاقات بين اليهود والعرب في داخل إسرائيل تحديداً). إلاّ أن استطلاعات الرأي العام التي أجريت وتُجرى في إسرائيل منذ ذلك اليوم قد تشكل مؤشراً إلى إرهاصات هذه التغييرات وبداية التراكم الكمي الذي سيقود إلى إحداث التغيير النوعي في مرحلة لاحقة ما، بصرف النظر عن مضمون هذا التغيير، جوهره واتجاهاته، سواء على مستوى الشخوص أو على مستوى السياسات.
أحد التحولات التي طاولت المجتمع الإسرائيلي في أعقاب هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 يتعلق بالجيل الشاب لدى الطوائف اليهودية الحريدية، والذي توافد أبناؤه بأعداد متصاعدة للالتحاق بصفوف الجيش الإسرائيلي والمشاركة في الحرب. أثار الأمر انتقادات لدى دافيد كوهين، أحد كبار الحاخامات الحريديين، بحيث اعتبر أن هؤلاء الشبان لا يعلمون حقاً ما هي "توراة إسرائيل، وروح إسرائيل، وما هي المدارس الدينية" التي من المفترض أن يكرسوا كل حياتهم بين جدرانها يتعلمون التوراة والشريعة. هذه المقالة تنظر في التحولات داخل مجتمع الحريديم خلال الحرب الحاليّة.
حملت الحرب على قطاع غزة تداعيات على العلاقات الإسرائيلية مع دول إقليمية ودولية، مثل روسيا، الصين، تركيا وغيرها. لكن كان اللافت هو التداعيات على علاقات إسرائيل مع كل من روسيا وتركيا. لذلك ستركز الورقة الحالية على تداعيات الحرب وتأثيرها على العلاقات مع هاتين الدولتين، ومستقبلها بعد الحرب. بحيث يكون السؤال المركزي الذي ستحاول الورقة الإجابة عليه هو: هل ستحدث الحرب تغيرات جوهرية بعيدة المدى في علاقة إسرائيل مع كل من تركيا وروسيا؟ أم أن العلاقات المتأثرة بالحرب ستكون طارئة وتعود إلى حالها كما كانت قبل الحرب؟
لا شك في أن الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو على اطلاع بأنه لا "حسيب ولا رقيب" في الزمن الحالي على ما يجري في مناطق الضفة الغربية، وبأن رئيس "مجلس المستوطنات" صار له نفوذ أكبر من الجيش الإسرائيلي والإدارة المدنية. وفي ظل اتجاه أنظار المجتمع الدولي نحو ما يجري في قطاع غزة، تشهد الضفة الغربية حاليا أوسع حملة اعتداءات من قبل المستوطنين، بالإضافة إلى توسع جغرافي استيطاني، وتلعب مجالس المستوطنات دورا "ريادياً" في ذلك. هذه المقالة تسلط الضوء على ما يحصل في الضفة الغربية في وقت الحرب.
لطالما شكلت التقنيات العسكرية والأمنية الإسرائيلية مصدر ذخر لإسرائيل على مدار العقود الماضية، فبفضلها انتقلت إلى مصاف الدول الرائدة في صناعة وتطوير التقنيات الأمنية والعسكرية عالمياً، كما تمكّنت من أن تحجز لها مكاناً متقدّماً في قائمة الدول المصدّرة للتقنيات الأمنية والعسكرية ومنظومات الرقابة والتجسّس حول العالم، ويعود السبب في ذلك لامتلاكها "ميزة" تُكسبها أفضلية وتجعلها أكثر قابلية من العديد من الدول في تسجيل نجاحات في هذا المجال؛ فقد شكّل استمرار الاحتلال للأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967 (وبطبيعة الحال النظام الرقابي الأمني المفروض على الفلسطينيين في الداخل)، يُضاف إلى ذلك الحروب المختلفة التي شنّتها على الفلسطينيين والدول العربية طيلة العقود الثمانية الماضية، ساحة اختبار وتجربة لهذه التقنيات والمنظومات، وهي ساحة متاحة على مدار الساعة لاختبار وتجربة هذه التقنيات والتأكد من فعاليتها استناداً لمبدأ التجربة والخطأ. لكن من ناحية أخرى، شكّلت بعض الحروب انتكاسة لإسرائيل في هذا المجال وأثّرت بشكلٍ كبير على قدرتها في تسويق هذه التقنيات أو بعض منتجات الصناعة العسكرية الإسرائيلية بالتعاون مع الشركات ذات الصلة.
الصفحة 39 من 324