من الصعب في هذا المقام حصر التوصيفات التي صدرت في إسرائيل و تراوحت بين "تاريخيّ" و"كارثيّ" لوصف قرار الحكم القضائي الذي صدر عن المحكمة الإسرائيلية العليا أخيراً بشأن الاعتراف بالتهويد حسب منهج التيارين الإصلاحي والمحافظ في الديانة اليهودية، كما أنه من غير الممكن الإحاطة بكل تفاصيل وتشعبات العاصفة الكبيرة التي أثارها هذا القرار، الذي يضع على المحكّ وفي الامتحان موضوع العلاقة الرسمية بين الدين والدولة في إسرائيل، بما ينطوي عليه هذا من وضع المحكمة ذاتها، ثم السلطة التشريعية (الكنيست)، على سكة تصادميّة مباشرة مع المؤسسة الدينية الرسمية، الموسومة بالتزمت والتشدد إجمالاً والمهيمنة رسمياً، ليس في القضايا الدينية فحسب، وإنما في مفاصل سياسية مؤسساتية عديدة، والتي تفوق قوتها في مواضع وأحيان كثيرة قوة الحكومة والجيش، بل قوة القانون نفسه أيضاً، وهو ما قد انعكس، على الفور، في تهديد الجناح الديني الأرثوذكسي المتشدد في الخارطة السياسية ـ الحزبية الإسرائيلية بأنه يشترط انضمامه إلى أي ائتلاف حكومي قادم بعد الانتخابات الوشيكة (في 23 الجاري) بتعهد مسبق منذ الآن بإلغاء قرار الحكم القضائي هذا بواسطة تشريع قانوني خاص يسنه الكنيست الجديد فور انتخابه وبدء دورته الجديدة. وقد كان لهذ التهديد/ الاشتراط أثره الفوري الذي تجسد في بيانات متسارعة صدرت عن حزب الليكود وأحزاب اليمين الأخرى تضمنت هجوماً على المحكمة العليا وقرارها وتعهداً بإلغائه، مقابل بيانات الدفاع عن المحكمة وامتداح قرارها من جانب أحزاب "الوسط ـ يسار"، خصوصاً. وستكون لهذا القرار تداعياته على سلوك الحريديم وحزبيهما السياسيين (يهدوت هتوراة وشاس)، إضافة إلى أحزاب "التيار الديني الوطني" الصهيونية اليمينية، في كل ما يتعلق بالتحالفات والائتلاف الحكومي المستقبلي في إسرائيل وما يترتب على ذلك بشأن قدرة اليمين بشكل عام على تشكيل حكومة جديدة تكون قادرة على الثبات والاستمرار.
مع ذلك، سنحاول في هذه المقالة توضيح خلفيات هذا القرار، دلالاته وإسقاطاته وماهية الخلاف اليهودي ـ اليهودي بشأنه، مع التأكيد على الحقيقة الأولية التي تفيد بأن هذا الموقف ـ الذي احتاجت المحكمة العليا إلى خمسة عشر عاماً لكي تبتّ في التماسات مقدمة إليها بشأنه فتتوصل إليه وتصوغه في حكم قضائيّ! ـ لم يكن سوى نتيجةٍ حتمية لمسيرة التسويف التي اختارتها الهيئات السياسية الإسرائيلية (اليهودية) المنتخبة، بحكم التوازنات السياسية ـ الائتلافية الداخلية، وتعبيرٍ مستحق عن عجز هذه الهيئات ومنتخَبي الجمهور الذين يشكلونها عن التوافق والحسم في شأنٍ خلافيّ لا يزال مطروحاً على جدول أعمال الدولة اليهودية وعلاقتها مع اليهود في العالم منذ السنوات الأولى لإنشائها. وكما حصل في أمور سياسية وقانونية أخرى مختلفة، كذلك حصل الأمر ذاته هنا أيضاً ـ تجنب السلطتين التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (الكنيست) البتّ في قضايا خلافية، سياسية أو قانونية، باختلاف درجة جوهريتها، نظراً لاعتبارات ومصالح حزبية ـ ائتلافية متغيرة، والتغاضي عن تدحرج كرة هذه القضايا إلى قاعات الجهاز القضائي (المحكمة العليا، بشكل خاص) الذي يجد نفسه مضطراً إلى البتّ بها في لحظة ما، مهما طال الزمن كما حصل هنا، مما يجعله عرضة لهجوم كاسح من جانب القوى والشخصيات السياسية ـ الحزبية في الحكومة والكنيست التي تنهال عليه تنديداً وتذنيباً بأنه "يتدخل، تدخلاً فظاً، في أمور ينبغي أن يكون الحسم فيها سياسياً، لا قانونياً قضائياً"!! وهذا، رغم أن قرار المحكمة الأخير هذا، في محصلته النهائية، ليس ذا أهمية كبيرة من حيث نتائجه الفعلية على أرض الواقع، بل تكمن أهميته الأساس والكبرى في الجانب الرمزي بكونه خطوة أخرى، هامة جداً، نحو إسباغ الشرعية على التيارات الأخرى في اليهودية، غير التيار الأرثوذكسي (التقليدي) المتشدد المهيمن في إسرائيل، وفي مقدمتها بالطبع التياران "الإصلاحي" و"المحافظ" اللذان يعتبران ثانويين في إسرائيل من حيث عدد أتباعهما وقوتهما السياسية، بينما تنتمي إليهما الغالبية العظمى من اليهود في الولايات المتحدة، بكل ما ينطوي عليه ذلك من تأثير عميق وجوهري على علاقة هؤلاء اليهود بدولة إسرائيل.
التهويد، خلفيات القرار ومضمونه
التهويد هو عملية تغيير ديانة شخص ما وإتْباعِه إلى الديانة اليهودية. بموجب الشريعة اليهودية، اليهودي هو مَن ولد لأمٍّ يهودية أو تهوّدت أو تهوّد هو بنفسه. وقد بلغ الأمر بقادة التيار الأرثوذكسي المهيمن في اليهودية، وخصوصاً في إسرائيل، أن وضعوا عراقيل وعثرات كثيرة أمام الراغبين في الانتساب إلى الديانة اليهودية، علماً بأنّ المتحوّل من ديانة أخرى إلى اليهودية يسمى، حسب الشريعة اليهودية، "مُتهوِّداً"/ "متهوِّدة".
جرّاء الصعوبات والعراقيل التي يواجهها من يرغب في اعتناق اليهودية، تأسست هيئات ومؤسسات وجمعيات خاصة في أنحاء مختلفة من إسرائيل، لا سيما في أعقاب ازدياد وتيرة موجات الهجرات اليهودية من أوروبا ومناطق أخرى في العالم إلى إسرائيل بعد العام 1948. فقد ضمت تلك الهجرات حالات كثيرة من الزواج المختلط، ما دفع كهنة اليهودية إلى السعي نحو التخفيف من تشدد الشرائع اليهودية في هذا المجال وإتاحة المجال أمام المهاجرين من غير اليهود لدخول اليهودية والتحول إلى إسرائيليين يسهُل عليهم الاندماج في المجتمع الإسرائيلي.
تنص المادة الأولى من "قانون العودة" للعام 1950 (أي، بعد قيام دولة إسرائيل بأقل من سنتين اثنتين فقط) على أنّ "من حق كل يهودي أن يهاجر إلى البلاد" (إلى إسرائيل). وقد كان لهذا النص المبهَم أن أثار السؤال الجوهري التالي: من هو اليهودي؟ وهو السؤال الذي أشغل وما زال يشغل اليهود، بل يطاردهم يمكن القول، منذ عقود وعلى امتدادها، وسط إثارته خلافات سياسية حادة. فقد أيّد دافيد بن غوريون، على سبيل المثال، هجرة أزواج غير يهود وأحفادهم إلى إسرائيل، وخصوصاً من دول أوروبا الشرقية، رافضاً أي تهويد لهم معللاً ذلك بأن "التعاطف القومي والإقامة في الدولة هما اللذان يجعلان الشخص يهودياً، وعلى الدولة أن تحذر التدخل في الشؤون الدينية". وكان السؤال الجوهري المذكور سبباً للأزمة الائتلافية الحادة التي نشبت في الحكومة الإسرائيلية العام 1958، والتي قرر بن غوريون في إثرها إجراء "استفتاء" حول الأمر بين من أسماهم "حكماء إسرائيل" الذين تشكلوا من خمسين مثقفاً ومفكراً يهودياً من مجالات علمية مختلفة. من بين الستة وأربعين شخصاً الذين أجابوا على سؤال الاستفتاء، قال سبعة وثلاثون إنه يجب الإبقاء على تعريف اليهودي على حاله "كما ورد في الشريعة اليهودية"، أي وفق منهج "التيار الأرثوذكسي"؛ وهو ما قرر بن غوريون تبنيه مُصدراً تعليماته إلى "دائرة تسجيل السكان" باعتبار اليهودي كل "مَن وُلد لأمٍّ يهودية وليس منتمياً إلى ديانة أخرى، أو مَن تهوّد حسب الشريعة اليهودية".
في العام 1970، أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية قرارها القضائي النهائي في التماس تقدم به إليها مواطن يهودي إسرائيلي متزوج من سيدة غير يهودية طالب فيه المحكمة بإصدار أمر إلى وزارة الداخلية يلزمها بتسجيل أولادهما "يهوداً". وقد قبلت المحكمة العليا الالتماس بأغلبية قضاة هيئتها (خمسة مقابل معارضة أربعة)، الأمر الذي اضطر الكنيست إلى تعديل "قانون العودة" لينص، في المادة 4ب منه، على أن "اليهودي هو من وُلد لأمٍّ يهودية أو تهوَّد وليس منتمياً لديانة أخرى". لكنّ التعديل القانوني الذي أقرّ الكنيست إدخاله تعمّد، بصورة واضحة، عدم التطرق بتاتاً إلى طريقة التهويد التي ينبغي أن تكون مقبولة ومعتمدة، وهو ما طرح سؤالاً مركزياً وأبقاه مسألة خلافية جوهرية هو: من هو المتهوِّد؟
قضت "التسوية التاريخية" التي توصل إليها دافيد بن غوريون والتيار الأرثوذكسي بوضع قضايا الدين والهوية اليهودية ضمن سلطات وصلاحيات "الحاخامية الرئيسية"، التي يهيمن عليها هذا التيار، مقابل قبول الأخير بإعلان قيام إسرائيل (بمرجعيتها الصهيونية) وعدم نزع الشرعية الدينية عن اليهود الصهيونيين وعدم اعتبارهم "خارجين عن الدين اليهودي".
في أعقاب ازدياد قوة هذا التيار الديني (بشقيه المركزيين: الحريديم والصهيونيون المتدينون الوطنيون)، والذي انعكس بازدياد تمثيله السياسي ـ الحزبي في الكنيست، تعالت أصوات نادت بتنظيم عملية التهويد "وفق الشريعة اليهودية"، إلا أن معارضي هذا المطلب ادعوا بأنّ قبول مثل هذا التوجه "سيؤدي حتما إلى قطيعة قوية وعميقة بين يهود العالم وإسرائيل". ولهذا، جرى التوصل إلى اتفاق توافقيّ توفيقيّ بين التيارات المختلفة قضى بالإقرار بشرعية يهودية من يتهوّد خارج إسرائيل، مقابل اشتراط أن يكون التهويد في داخل إسرائيل وفق منهج التيار الأرثوذكسي فقط.
غير أن هذه التسوية التوفيقية لم تدم فترة طويلة، إذ شهد العقدان الأخيران من القرن الماضي تفجّر الجدل من جديد حيال هجرة اليهود الواسعة من دول الاتحاد السوفييتي السابق في مطلع التسعينيات، والتي شملت هجرة أكثر من مليون شخص إلى إسرائيل. وقد تبيّن لاحقاً أن نحو 400 ألف شخص من هؤلاء، على الأقلّ، ليسوا يهوداً وفق المعايير الرسمية المعتمدة في إسرائيل، لأنهم متزوجون من يهوديات أو لأنّ آباءهم ليسوا يهوداً. وتكشّف لاحقاً أن "المؤسسة الدينية الأرثوذكسية" وضعت "قوائم سوداء" لهم ولأبنائهم، تحت عنوان "الممنوعون من الزواج وفق طقوس يهودية توراتية". وحتى الآن، لا يُعتبر هؤلاء يهوداً طبقاً لأحكام الشريعة اليهودية التي يعتمدها التيار الأرثوذكسي، رغم أنهم إسرائيليون في كل شيء، يتجندون في صفوف الجيش الإسرائيلي ويتوزعون في مختلف المرافق المهنية والصناعات.
على هذه الخلفية، نشبت خلافات وصراعات حادة للغاية بين التيارات المختلفة في اليهودية، نجح التيار الإصلاحي في خضمّها في استصدار قرار من المحكمة العليا الإسرائيلية في العام 2002 يُلزم الدولة بالاعتراف بالتهويد وفق التيارين الإصلاحي والمحافظ، أيضاً، وليس بالتهويد وفق التيار الأرثوذكسي فقط.
يتيح التهويد على طريقة الإصلاحيين، التي تتميز بالمرونة والتسامح الفائقين نسبياً، تهوّد أي شخص حتى لو تكن ثمة أية علاقة لأي من عائلته باليهودية تاريخياً، وإنما يرغب هو في اعتناقها والانضمام إليها. وهي طريقة ميسّرة غير متشددة وسهلة جداً، نسبياً، مقارنة بالتهويد على طريقة التيار الأرثوذكسي. ويعلن التيار الإصلاحي على موقعه على شبكة الانترنت: "اليهودية الإصلاحية تستقبل، بالترحاب وبأذرع مفتوحة، كل من يريد الانضمام إلى شعب إسرائيل بصورة صادقة وحقيقية، بغية مساعدته على الاندماج التام في المجتمع الإسرائيلي وفي الشعب اليهودي".
منذ العام 2002، يحظى التهويد على طريقة الإصلاحيين بالاعتراف لأغراض التسجيل في سجلّ السكان في داخل إسرائيل، إذ يتم تسجيل المتهوّدين في المحاكم الدينية التابعة للتيار الإصلاحي يهوداً في خانتيّ "الديانة" و"القومية" في سجل السكان. لكنّ مسألة الاعتراف بالتهويد على هذه الطريقة في سياق "قانون العودة" ولغرض التمتع بما يمنحه هذه القانون من حق الهجرة غير المشروطة إلى إسرائيل وحق الحصول التلقائي الفوري على المواطنة الإسرائيلية بموجب هذا القانون بقيت معلقةً، غير محسومة، بما يعني أن التهّود على الطريقة الإصلاحية لم يكن يضمن هذين الحقّين (الهجرة والمواطنة). وهو ما فاقم أزمة العلاقة بين إسرائيل ويهود العالم عامة، ويهود الولايات المتحدة خاصة، الذين تنتمي غالبيتهم الساحقة إلى التيارات اليهودية الأخرى، غير التيار الأرثوذكسي، وخصوصاً التيار الإصلاحي والتيار المحافظ. وينبغي التنويه هنا بأن التهويد على المنهجين الإصلاحي والمحافظ لم يكن معترفاً به ليس عند إجرائه في إسرائيل فقط، بل كذلك عند إجرائه في دول العالم المختلفة.
الجديد في قرار المحكمة العليا الإسرائيلية الأخير، إذن، هو الاعتراف بالتهويد الذي يجرى في داخل إسرائيل وفق منهج التيارين الإصلاحي والمحافظ أيضاً، وليس وفق منهج التيار الأرثوذكسي فقط. وهو اعتراف في سياق "قانون العودة" فقط، ينبغي التأكيد وكما أوضحنا آنفاً. هذا القرار، الذي جاء بعد مماطلة وتأجيل مستمرين استمرا 15 عاماً كما ذكرنا، شكّل قبولاً من طرف المحكمة (بأغلبية 8 قضاة ومعارضة قاضٍ واحد) لأحد عشر التماساً قدمها إليها في العام 2005 عدد من اليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل من دول مختلفة في أنحاء العالم، تهوّدوا في داخل إسرائيل على طريقتيّ التيارين الإصلاحي والمحافظ، لكن الدولة رفضت رسمياً الاعتراف بهم يهوداً بموجب "قانون العودة".
خوف الأرثوذكس من كرة الثلج
صحيح أن قضاة المحكمة العليا أصدروا، مُرغَمين يمكن القول، قراراً قضائياً يلزم الدولة بالاعتراف بشرعية التهويد حسب منهج التيارين الإصلاحي والمحافظ لغايات "قانون العودة"، كما أوضحناها أعلاه، لكنّ هذا القرار لن يغير واقع الحال الفعلي في إسرائيل في هذا المجال، وخصوصاً بالنظر إلى حقيقة أن عدد أتباع هذين التيارين في إسرائيل لا يتجاوز بضعة آلاف قليلة، وإنما تكمن قوته وأهميته الأساسيتان في الجانب الرمزي المتمثل في مدّ جسور التقارب بين دولة إسرائيل ويهود العالم عامة، ويهود الولايات المتحدة خاصة، المنتمين في أغلبيتهم الساحقة إلى هذين التيارين، والإصلاحي منهما على وجه التحديد. ذلك أن المحكمة لم تناقش سؤال "من هو اليهودي" والخلاف العميق بشأنه فأبقته على حاله، الأمر الذي يبقي الصلاحية في قضايا الزواج أساساً بين يديّ المؤسسة الدينية المهيمنة في إسرائيل، سواء كانت من خلال "الحاخامية الرئيسية" أو من خلال "المحاكم الدينية اليهودية"، واللتين يسيطر عليهما التيار الأرثوذكسي بالكامل وبصورة مطلقة، ليس على صعيد القضايا الدينية فحسب، وإنما على صعيد جوانبها وأبعادها السياسية أيضاً. ولئن كان قرار المحكمة يزيل من طريق التقارب هذا أحد الألغام الرئيسة، إلا أنّ ألغاماً أخرى تبقى قائمة على حالها بكل قوة تترتب على سؤال تعريف "من هو اليهودي"، في مقدمتها قضية الزواج حسب الشريعة الدينية وقضية الصلاة في منطقة "حائط المبكى" (حائط البراق) وقضية "الحلال" (كاشير) وغيرها. وبما أن قرار المحكمة الجديد ينحصر في "التهويد" لضرورات "قانون العودة" فقط، فهو لن يكون سارياً على أنظمة الحاخامية الرئيسية، التي لن تعترف بيهودية المتهوّدين بواسطة التيارين الإصلاحي والمحافظ في قضايا الزواج، الأمر الذي سيرغمهم على الزواج بعقود زواج مدني تُبرم في خارج البلاد، ولن يكون معترفاً بيهودية أبنائهم.
ينبغي في الأبعاد السياسية انتظار ردّ السلطتين التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (الكنيست) على هذا القرار القضائي في ما بعد الانتخابات البرلمانية القريبة وما يتمخض عنها من اصطفاف سياسي ـ حزبي: هل ستقويان على إجراء تعديلات قانونية في هذه القضايا التي تشكل صُلب العلاقة بين الدين والدولة، بما ينزع فتائل حروب دينية ـ سياسية جديدة؟ وإلى أي منحى ستتجه هذه التعديلات، إن حصلت أصلاً؟ هل ستبقي على الجسر الذي فُتح مع يهود العالم، بتياريهما الإصلاحي والمحافظ، على حساب العلاقة مع التيار الأرثوذكسي المهيمن في داخل إسرائيل، أم العكس؟ وحتى لو حصلت هذه التعديلات فعلاً، فسيبقى موضوع تعريف اليهودي (من هو اليهودي) مطروحاً في كل الأحوال على خيوط العلاقة بين دولة إسرائيل وبين اليهود في العالم عموماً، وبينها وبين المهاجرين إليها خصوصاً.
لم ينبع هذا الفزع الذي أثاره قرار المحكمة العليا لدى قادة "التيار الأرثوذكسي" (الذي يسمي نفسه: "اليهودية الصحيحة") من الخوف على طابع الدولة أو من أن يجتاز ملايين الأشخاص تهويداً غير شرعي منذ الآن ليستحقوا الهجرة إلى إسرائيل والحصول على المواطنة الإسرائيلية، وإنما هو نابع بالأساس من الخوف من انهيار الوضع القائم ومن احتمال أن يكون هذا القرار بمثابة الحركة الأولى في كرة ثلجية قد تكبر إلى درجة أن تفلت من بين أيديهم صلاحية التهويد وما تنطوي عليه من قوة سياسي ومصالح اقتصادية سياسية فينتهي احتكارهم لتعريف وتحديد "من هو اليهودي" ويصبح هذا من صلاحية الكهنة من التيارين الآخرين، وهم الذين يعتبرهم هؤلاء (الأرثوذكس) "مشعوذين ومعادين لليهودية"!