كشفت المعارك الثلاث الأخيرة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة عن أهمية دمج التكنولوجيا المتطورة في إدارة معارك طويلة الأمد نسبيا، قد تمتد لأسابيع، وتستخدم فيها قطاعات عسكرية من مختلف تشكيلات الجيش، وأنها تحتاج بجانب استخدام أدوات القوة التقليدية والمباشرة، إلى الانتباه إلى الساحة الموازية التي تزداد أهمية في ظل المساحة الواسعة التي تحتلها شبكات التواصل الاجتماعي، وهي ساحة الوعي.
وأعد معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي بحثا تفصيليا حول هذه الساحة المستجدة تحت عنوان (حروب إسرائيل على الوعي في غزة: بداية العهد الرقمي كساحة قتال) بهدف تسليط الضوء على تجربة المعارك الثلاث الأخيرة والمتغيرات التي طرأت، وما يمكن تعلمه واستخلاصه من هذه التجارب، تحديدا في كيفية إدارة معركة الوعي في العهد الرقمي وعصر شبكات التواصل الاجتماعي شديدة التأثير، كونها محلية وعابرة للحدود في ذات الوقت.
يركز البحث الذي نلخصه ونجري قراءة حوله هنا، على التغيرات التي أدخلتها إسرائيل على أساليبها القتالية الموجهة ضد حركة حماس التي تسيطر وتدير من خلال سيطرتها على قطاع غزة المحتل منذ العام 1967 من قبل جيش الاحتلال الذي انسحب منه عسكريا في العام 2005 ولكنه لا يزال يسيطر على كافة معابره وحدوده وأجوائه ويتحكم بمصير سكانه، صراعا متعدد الأوجه مع إسرائيل، وهو ما يستدعي اللجوء إلى عمليات عسكرية واسعة وطويلة نسبيا وخوض معركة متوازية على الوعي في منطقة (قطاع غزة) لا تزيد مساحتها عن 365 كيلومترا مربعا، ويعيش فيه أكثر من مليوني فلسطيني، ويعد أحد أكثر المناطق ازدحاما في العالم.
شكلت حركة حماس، بطابعها السياسي والديني، وبالاستناد إلى جناحها العسكري، والحافز القوي لديها "للمس بإسرائيل" تحديا مستمرا لإسرائيل، وهو ما تطلب، بموجب البحث، خوض معارك طويلة وعنيفة وإستراتيجية من الصعب الانتصار بها، وما حتم على إسرائيل البحث الدائم عن آفاق جديدة تخفف عبء القتال المباشر، حيث تعتبر حرب المعلومات واحدة من هذه الأدوات وركيزة أساسية في السياسة الإسرائيلية تجاه القطاع أثناء وما بعد جولات القتال.
إطار مفاهيمي
بخلاف دول أخرى، يعتبر فيها مصطلح "الإعلام الإستراتيجي" مصطلحا مفهوما ضمنا ومعرفا، وعلى ضوئه تعمل جهات متعددة من داخل المجال الأمني وخارجه، بتناغم متبادل، فإن من الصعب الحديث عن مصطلح شبيه ذي قدرة تعبيرية واضحة في الحالة الإسرائيلية، وهو ما يمكن الاستعاضة عنه بمصطلحات أخرى لها علاقة بفترات زمنية مختلفة هي: الحرب على الوعي، الدعاية الموجهة أو ما يعرف إسرائيليا بـ"الهسباراه"، والدبلوماسية العامة.
الحرب على الوعي هو مصطلح نشأ في المؤسسة الأمنية، واللغة العملية السائدة فيها مع بداية الألفية الثالثة، وهو يصف ويختزل العمليات التي تستهدف تغيير النظرة والمشاعر والسلوك تجاه الواقع من قبل الجمهور المستهدف، وهو بذلك يعتبر مصطلحا فضفاضا يشمل أنماط عمل سرية وعلنية، وهو المصطلح الذي نشأ منه مفهوم الدعاية الموجهة "هسباراه" التي عبر عنها وجسدها مؤسسيا الناطق باسم الجيش، وكذلك مصطلح الحرب النفسية الذي ساد في أوساط الأجهزة الاستخبارية والذي هدف إلى تغيير وجهة نظر إسرائيل وقادتها من خلال تكتيكات تضليلية، وممارسة الحيل الموجهة ضد قواتها على أرض المعركة وفي ميدان القتال، بالتناغم مع حركة الجيش وخطواته الميدانية.
الهسباراه هو مصطلح خاص بإسرائيل ونابع من خصوصية وضعها، وهو يصف الآلية التي تتم بها عملية نقل الرسائل من إسرائيل إلى العالم وإقناعه بالرواية الإسرائيلية وتحديدا في القضايا السياسية. هذا المصطلح لا ينحصر في أروقة أجهزة الأمن والمنظومة الأمنية، بل تنصب مهمة نقله على كاهل وسائل الإعلام، والتي ترمي إلى تبرير السياسة الإسرائيلية، وصد الهجمات السياسية والإعلامية ومحاولات المس بصورة إسرائيل أمام الرأي العام الدولي، وهو مصطلح تبلور في سنوات السبعينيات من خلال الافتراض بأنه من الصعب إقناع العالم المكون من قطبين، وفي ظل الصعود الكبير لمنظمة التحرير الفلسطينية والثورات العالمية، بالرواية الإسرائيلية ومن الأفضل بدل ذلك تخفيف حدة النقد الموجه لإسرائيل وبث شعور بالثقة حيال كل ما تقوم به.
واجه هذا المصطلح انتقادات واسعة بسبب لا جدواه وعدم قدرته على إحداث التغيير المطلوب، حيث تم استبداله في بداية الألفية الثانية بمصطلح جديد أكثر تركيزا وهو الدبلوماسية الجماهيرية أو العامة.
الدبلوماسية العامة التي لجأت إليها وزارة الخارجية، هي حصيلة كافة النشاطات التي تهدف إلى خدمة السياسة الإسرائيلية من خلال ضخ المعلومات والأفكار والتأثير على الجمهور المستهدف على المدى البعيد، من خلال التوجه إليه بشكل مباشر وبأبعاد وأنماط مرنة ومتعددة، لبناء القوة "الناعمة" الإسرائيلية على حساب خصومها.
أصبحت القوة "الناعمة" الناجمة عن الدبلوماسية العامة أو الجماهيرية والتي تنشأ بفعل التواصل المباشر وغير الرسمي، وبعيدا عن الحكومات، متاحة، لا بل وتمثل استجابة للعصر الرقمي وهيمنة شبكات التواصل، والتي تتيح التفاعل مع الجمهور المستهدف بدل ضخ المعلومات كما في حالة (الهسباراه) واستبدال ذلك بحملات وبناء مواقع إلكترونية ونشاطات ثقافية ومحاضرات وهكذا.
أهداف معركة الوعي على غزة
يشير البحث إلى أهداف ثابتة حاولت إسرائيل أن تحققها من خلال حروبها على قطاع غزة في الحملات الثلاث ما بين الأعوام 2008-2014 والتي دمجت فيها ما بين القوة العسكرية المباشرة والعنيفة وما بين نشر رسائل ومحاولة زرع أفكار.
الهدف الأول الذي أرادت تحقيقه هو الردع خاصة لدى فصائل المقاومة، سواء في فترات التهدئة من أجل منعها من الإقدام على خطوات تصعيد مستقبلية، وإطالة أمد الهدوء بين جولات التصعيد، أو في فترات الطوارئ والتصعيد من أجل تقصير أمدها قدر الإمكان. الجمهور المستهدف في معركة الوعي هو بالأساس قادة فصائل المقاومة ونشطائها في الميدان، وبشكل غير مباشر الجمهور في غزة الذي يستطيع بشكل نظري أن يؤثر على حركة حماس.
وظيفة الردع هي التلويح باستخدام القوة العسكرية وإلحاق ضرر بالغ بالجهات المستهدفة، وتقليل حوافزها للإقدام على عمل قد يلحق بها خسائر فادحة. ثانيا: إظهار أن إسرائيل تتجنب المس بالمدنيين والبنى التحتية والمناطق المأهولة بالسكان. ثالثا: محاولة التمتع بدعم دولي وشرعنة هجماتها العسكرية، وقطع الطريق على فصائل المقاومة التي تسعى لإظهار الجمهور الفلسطيني على أنه ضحية عدوان إسرائيلي عنيف لا يميز بين المدنيين، وتجنيد الرأي العام الدولي ضد إسرائيل، لذا فإن مصلحة إسرائيل هي إظهار حماس كحركة إرهابية خطيرة تعرض الجمهور للخطر وأنها، أي إسرائيل، تلتزم بالقانون والمعايير الدولية المتعارف عليها في فترات الحروب التي تضطر لخوضها مكرهة. رابعا: تسعى إسرائيل إلى إضعاف فصائل المقاومة من خلال الدفع نحو تآكل شعبيتها في أوساط حاضنتها الجماهيرية المحلية التي تعتبر مصدرا رئيسيا يرفدها بالمقاتلين الجدد وتمويلها والتستر على نشاطاتها ومساعدتها.
تسعى إسرائيل من خلال المعركة على الوعي، إلى جانب هذه الأهداف الإستراتيجية، إلى ضرب المعنويات لدى المقاتلين وتثبيط عزيمتهم ورغبتهم في القتال، وإظهار التفوق الاستخباراتي وتضليل الخصم. والدعاية الإسرائيلية غير موجهة إلى حماس ومقاتليها والمجتمع الدولي فقط، بل أيضا، وخاصة في فترات القتال، توجه إلى الجمهور الإسرائيلي والجنود، من أجل ضمان تأييدهم للحرب، واحتمال نتائجها والخسائر التي قد تترتب عليها بشريا واقتصاديا، وأيضا ضمان الالتزام بالتعليمات التي تمنع وقوع خسائر قد تنعكس سلبا على معنويات الجمهور الإسرائيلي وتخدم الطرف الآخر.
الجهات التي تولت إدارة معركة الوعي حتى 2008
الجهة الأساسية التي تولت إدارة معركة الوعي تجاه غزة هي الجيش من خلال الناطقين باسمه، والمنسق والأذرع الاستخباراتية إلى جانب وزارة الخارجية ومكتب رئيس الحكومة.
مؤسسة الناطق باسم جيش الاحتلال هي الجهة التي تتولى تنظيم العلاقة بين الجيش ووسائل الإعلام المحلية والدولية، وقد سعت هذه المؤسسة في العقدين الأخيرين إلى تبني سياسة أكثر فاعلية، والترويج باللغة العربية من أجل التواصل ونقل الرسائل إلى متحدثي اللغة العربية بشكل مباشر، خاصة في الحرب على لبنان في عام 2006 التي نظر لها الإسرائيليون على أنها فشل كبير.
إلى جانب مؤسسة الناطق باسم الجيش هناك جسم آخر، هو مركز عمليات المعلومات الذي تأسس في 2005 من أجل تركيز المعلومات ونشر الوعي، داخل صفوف الجيش وإعداد خطط وحملات تضليل، إلا أنه وبسبب من تبعيته للاستخبارات العسكرية بقي نشاطه سريا، وعرف عن دوره في الحرب على لبنان بأنه قام بالكشف عن أسماء عسكريين أصيبوا من بين قوات حزب الله، وتوزيع بيانات باللغة العربية داخل لبنان، والسيطرة على وسائل إعلام تابعة للحزب. وإلى جانبه وجانب الناطق باسم الجيش تنشط في هذا المضمار وزارة الخارجية التي وإن كانت لعبت دورا بارزا على الساحة الدولية وبأدواتها الدبلوماسية التقليدية في الحرب على لبنان، إلا أن دورها وصف بالضعيف والأقرب إلى الفشل.
جاءت الحملة العسكرية التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة في العام 2008 والتي أطلقت عليها اسم "الرصاص المصبوب" في أجواء من التأييد الدولي وبعد حملات مكثفة ضد الصواريخ التي تطلق من غزة، وكان يتوقع لها أن تنهي أزمة غزة والصواريخ التي تطلقها حركة حماس بشكل جذري، إلا أنها انتهت بعد 22 يوما من القصف المكثف بوقف إطلاق نار أحادي الجانب من قبل إسرائيل وتحقيق ردع جزئي.
وضعت الحملة لنفسها ثلاثة أهداف هي تغيير قواعد اللعبة بتوجيه ضربة موجعة ضد أي عمل تقوم به حماس وخلق حالة دائمة من الردع، والضغط على حماس بشكل متواصل لدفها للقبول بتسوية تفرضها إسرائيل، وفرض تسوية دولية تقوض قوة الحركة في القطاع.
اختارت إسرائيل لتحقيق الهدف الأول المتمثل بالردع أن تبدأ هجومها بشكل مفاجئ من خلال استهداف قوة شرطة أثناء حفل تخريج كانت تجريه في أحد المقرات الحكومية، وهو ما خلق حالة من الصدمة، تبعتها حملة منظمة إعلامية تمثلت بإلقاء بيانات وبث أشرطة فيديو ورسائل مسجلة تكذب رواية حماس، واتصالات هاتفية للمنازل تحذر السكان من التعاون مع الحركة، ومنع محطات البث التابعة لحماس من البث والتشويش عليها إلى جانب محاولات الناطق باسم الجيش الوصول إلى المؤثرين في شبكات التواصل وإيصال رسائل من خلالهم وتضخيم الأصوات النقدية التي كانت تصدر من غزة.
وقامت إسرائيل بحملات دولية دبلوماسية وإعلامية بهدف مواجهة التحدي الرئيس المتمثل في الضائقة الإنسانية التي يعيشها سكان القطاع بفعل الحرب، حيث أعدت مسبقا مواد دعائية جندت ناطقين بمعظم اللغات من أجل بثها على مستوى العالم.
الإعلام الجديد في خدمة المعركة
برز بشكل لافت استخدام الجيش الإسرائيلي لوسائل التواصل الجديدة مثل تويتر خلال الحرب على غزة في 2008 حيث دشن موقعه الرسمي باللغة الإنكليزية قبل نهاية الحملة، بهدف التواصل مع الجمهور في العالم، كما قام الناطق باسم الجيش في ذات الفترة بفتح قناة على "يوتيوب" لنشر مقاطع مصورة من الميدان ومن كاميرات الجنود، كما أنه قام بالتواصل مع 50 ناشطا من المدونين وتزويدهم بالمعلومات.
أديرت حرب 2008 على جبهتين، واقعية وافتراضية وبرز فيها دور وسائل التواصل، وهو ما جعل الحملات العسكرية التي تبعتها في عامي 2012 و2014 والتي جاءت لتعزز القناعة أن مفهوم الانتصار الميداني والردع ضد تنظيم يعمل وينشط في وسط مدني وفي مكان مزدحم مثل قطاع غزة أمرا غير محسوم، وهو ما عزز القناعة بأهمية الساحة الرقمية ومعركة الوعي.
خلاصة
برز في حروب إسرائيل الأخيرة ضد حماس في قطاع غزة البعد المتعلق بالوعي بشكل كبير، وقد شهدت المنظومة الإسرائيلية تغيرات في آلية التفكير والأهداف المتعلقة بمعركة الوعي، كما برزت الحاجة إلى كسب الدعم الجماهيري خاصة بعد الحرب على لبنان التي اعتبرت حربا فاشلة.
إذا كان عنصر الردع هو العنصر الأهم الذي حكم السياسة العسكرية الإسرائيلية في حروبها السابقة، إلا أنه لا يخلق وعيا ويتحقق فقط من خلال العمل العسكري المباشر، وهو ما يعني أن المس بقدرات حماس وشعبيتها ومعنوياتها وحافزها للقتال والدعم الدولي الذي تتلقاه، يتمثل في معركة على الوعي وبأدوات جديدة.
تغير الجمهور المستهدف مع مرور الزمن والقدرة على التواصل معه مباشرة أصبحت أكبر من خلال شبكات التواصل الاجتماعي والتي لا تقتصر على جمهور غزة، بل جماهير من دول عربية، وكل هذا يعظم دور عامل الوعي، والذي لا يجب أن يتوقف سواء في فترات التصعيد العسكري أو فترات الهدوء، وهي ميزة تجعله نافذا وقادرا على التأثير في فترات الهدوء، خاصة بهدف تحسين وإعادة ترميم صورة إسرائيل في العالم.
ووفقا للبحث الذي عرضنا له، فإن معركة من هذا النوع تتطلب دمج كل مركبات وعناصر الوعي وتحديدا الدبلوماسية منها، وبناء الأطر المناسبة خاصة في فترات الهدوء، وتجهيز الخطط والتنسيق بين الأذرع المختلفة، وتبني خطة إعلامية بعيدة المدى تتضمن بلورة رؤية واضحة وجمهور الهدف والرواية المتفق عليها، وكل ذلك بهدف أسمى، وهو تحقيق مصالح إسرائيل وتحسين مكانتها وصورتها في العالم.