المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

وصل والدي، الذي ينحدر من خلفية شرقية ضعيفة ونشأ في بيئة فقيرة، إلى رتبة ملازم أول في وحدة الأرصدة في الجيش الإسرائيلي. ودرس أبي في منتصف الأربعينات من عمره في قسم التاريخ في جامعة تل أبيب، وحصل على درجة البكالوريوس بالتعاون مع قاعدة تدريب الضباط. كنت في نهاية المدرسة الثانوية آنذاك، وقد تأثرت إلى حد كبير برؤيته جالسا في المنزل منكبا على الدراسة ليل نهار، وبسماعه يتحدث عن أساتذته وعن المواضيع التي يتعلمها بحماس كبير. وكانت هذه التجربة أحد الأسباب الرئيسية لاختياري التوجه لجامعة تل أبيب وللعلوم الإنسانية بالذات بعد إنهاء خدمتي العسكرية. ولقد ساعدني ذلك لأشرح لنفسي ولمن حولي عن السبب الذي جعلني أختار العلوم الإنسانية بدل الدراسات العملية.

حتى هذا اليوم، يحرجني أبي أمام كل شخص يراه في الشارع ليخبره أن ابنته دكتور ومحاضِرة خارج البلاد. وأعتقد أن والدي – الذي يتمتع بحب الاستطلاع وبموهبة طبيعية للكتابة – لم يكن ليكتفي بالبكالوريوس فقط، الذي كان بمثابة لحظة تطور شخصية مهمة في طريقه إلى المواطنة وفي نفس الوقت كان خاليا من كل وزن وأهمية في فصل حياته هذا، لو انخرط في الدراسة في ظروف أخرى. إن تجربة وصعوبات الانخراط في التعليم العالي في مرحلة متأخرة في الحياة، تحت وطأة عبء إعالة العائلة وغيرها من المتاعب، هي أحد مميزات الفئة التي نطلق عليها اسم الجيل الأول للتعليم العالي والذي نلتزم بتمكينه.

في سياق برنامج التفوق العسكري- الأكاديمي "حَفَتسلوت" التابع لوحدة الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي الذي سيبدأ تطبيقه في الجامعة العبرية بدءاً من شهر تشرين الأول المقبل على السنوات الخمس المقبلة، والذي سيؤهل جنودا في الجامعة العبرية، قالت الجامعة إنها تخدم المجتمع من خلال هذا البرنامج. وأود أن أتطرق إلى فهمنا لدور الجامعة الاجتماعي وأن أفهم طبيعة الخدمة الاجتماعية هنا.

تستقطب برامج الامتياز العسكرية التي تتنافس عليها الجامعات، مثل "حفتسلوت"، أقوى السكان في إسرائيل القادمين من خلفيات اجتماعية واقتصادية عالية، ولا جدال على قدرتهم على الحصول على تعليم عال. إذن يسأل السؤال: أي جانب اجتماعي هذا عندما يحصل هؤلاء الأقوياء على شروط تفضيلية من الجامعة مثل الأولوية في التسجيل للمساقات، الإقامة في مساكن الحرم الجامعي، وما إلى ذلك؟ أم أنها سياسة تخصص الموارد العامة لتعزيز مزايا الفئات القوية، وهي سياسة ليست اجتماعية على أي وجه.

صحيح أن الجامعة لم تخترع عدم المساواة هذا، بل هو حالة مزمنة تلازم جهاز التربية من الصف الأول وحتى قاعة المحاضرات في الجامعة. صحيح أن "حفتسلوت" هو ليس البرنامج العسكري الوحيد المدمج في الأكاديميا، وأن الجامعة العبرية ليست أكثر أو أقل اجتماعية من مؤسسات أخرى؛ ولكن ادعاء هذا هو الموجود، لماذا تهاجموننا؟ في سياق "حفتسلوت" هو ادعاء ضعيف وفارغ من أي معنى. من الواضح أن الجامعة تختار أن تخدم الأقوياء وأن تستمر بتجاهل الضعفاء. وإذا كان يمكننا التحدث عن دور اجتماعي للجامعة، فهو الاستثمار في تقليل الفجوات بين الطبقات الاجتماعية، سواء من خلال تسهيل الوصول للتعليم العالي، أو دمج الفئات السكانية المبعدة عن الأكاديميا مثل الأثيوبيين، اليهود الشرقيين، الفلسطينيين، والحريديم، بالإضافة إلى الحرص على ظروف عمل عادلة لجميع الموظفين. يمكننا أن نطلق على ذلك اسم "العقد الأهلي أو الاجتماعي للأكاديميا".

نحن مدركون أن الجامعة العبرية تبذل جهودا كثيرة مناسبة وفي الاتجاه الصحيح لكن يبدو أن هذه الجهود تتضاءل أمام الالتزام بالحكم أولاً وقبل كل شيء، على حساب المدنيين والضعفاء. وهذا ما يوضحه برنامج "حفتسلوت". كذلك فشلت سلطات الجامعة حتى الآن في دعم رفضها للاحتجاجات العامة على برنامج "حفتسلوت"، عن طريق تجاهل ممنهج للمعلومات التي تم نشرها والتي أشارت لها الجامعة بأنها أكاذيب. ما نعرفه اليوم عن شروط المناقصة هو أن الضباط العسكريين سيكونون مخولين بالتدخل في العلاقات بين الطلاب وبين المحاضرين، وحتى في مضامين المحاضرات وحرية المحاضرين الأكاديمية، حيث سيطلَب منهم أن يمرروا برامج التعليم للجيش مسبقا. ندرك أنه بفضل الضغوط الداخلية والخارجية، تم التوصل إلى اتفاقات غير رسمية تخفف الانطباع الأول، ولكن من الواضح أن القبول بشروط الجيش يعتبر تخليا عن المعايير الأكاديمية الحرة والمستقلة، وهي مناسبة أخرى للتحدث عن تعامل الجامعة المتساوي تجاه جميع طلابها ومحاضريها.

تمثل منظمتنا، "أكاديميا من أجل المساواة"، جمهوراً أكاديمياً كبيراً في إسرائيل والخارج، قلق ورافض لأي إشراف أو تدخل عسكريين في الحياة الأكاديمية. إنها مصادرة للحيز الأكاديمي ونقله لسيطرة عسكرية تتعارض مبادئها الهرمية مع مبادئ إدارة الحيز الأكاديمي تماما. مثلا، في مساكن الجنود التي أقيمت داخل الحرم الجامعي، سيكون هناك إشراف عسكري على الداخلين إلى المجمع بغرض تقديم خدمات مختلفة. هذا الإشراف هو تمييز أكاديمي وفقاً للمتطلبات العسكرية. يستطيع الجيش، على حد علمنا، منع دخول عمال لأسباب قومية أو أمنية. معدات المراقبة العسكرية تنتهك خصوصية القادمين لبوابات الحرم الجامعي وأعضاء هيئة التدريس، الذين ستجمع تفاصيلهم أو تقدم للسلطات العسكرية من قبل الجامعة. هذه معايير غير مقبولة في المؤسسات الأكاديمية الحرة وهي تلقي بظلالها الثقيلة على الجامعة. ليست الجامعة قاعدة عسكرية أو مدرسة داخلية عسكرية أو منشأة تدريب عسكري، وحتى رغبة الجامعة في قبول جنود لصفوفها لا يمكنها أن تقوم بذلك عن طريق تغيير نظامها الداخلي.

لقد تحدثنا مع زملائنا في جامعة حيفا الذين أخبرونا أن برنامج "حفتسلوت" روفق لديهم بالفعل بانتهاكات شديدة للظروف الأكاديمية الأساسية ومبادئ الحيز المدني. ما الذي يؤكد لنا أن هذا لن يحدث في الجامعة العبرية أيضا؟ في جامعة حيفا، أقصت مجموعات كبيرة من الطلاب الجنود الطلاب الآخرين من التسجيل للمساقات ما خلق شروط تسجيل غير متكافئة، كذلك تسبب وجود مجموعة كبيرة ومسيطرة من الجنود في هذه المساقات في تغيير تجربة الدراسة وفي فقدان إمكانية التعبير الحر والناقد خلالها. كانت هناك حالات ظهر فيها ضابط البرنامج للإشراف ومراقبة ما يحدث بشكل غير رسمي. هذا في الواقع إضعاف بالغ لاستقلالية الأكاديميا الإسرائيلية وكذلك تهديد حقيقي للطلاب الفلسطينيين.

البلدان السويّة تحترم استقلالية جهاز التعليم العالي

أما بالنسبة لمروجي الادعاء النيوليبرالي القائل إن على الجامعة أن تتحول من مؤسسة عامة إلى مؤسسة خاصة إذا كانت ترغب في الحفاظ على استقلاليتها، فنود تذكيرهم أنه في البلدان السويّة، حتى تلك التي تدعم نظام التعليم بالكامل، يتم الحفاظ على استقلالية جهاز التعليم العالي. إن تدخل الحكومة والجيش في الأوساط الأكاديمية وفقاً لمطالبهما وتفضيلاتهما مألوف لنا من الأنظمة المظلمة. لأننا، في "أكاديميا من أجل المساواة"، تعلمنا جيداً وعن كثب تدخل النظام التركي في الأكاديميا، ويمكننا أن نخمن أن مطالب الجيش باستيعاب "حفتسلوت" قد تتقدم بنا خطوة أخرى نحو "اللحظة التركية" في الأكاديميا الإسرائيلية. كما ادعى نقاد آخرون، فإن للجيش ما يكفي من التسهيلات والموارد التي يمكنه من خلالها تنمية جنوده في المواقع العسكرية. وهذا الاختراق للحيز المدني غير ضروري، فاسد وخطير.

في الختام، سأتطرق إلى ما وراء الكواليس لهذه القضية، التي تعد علامة فارقة في ظاهرة إسكات الأصوات الناقدة، والتي قد تكون أكثر أهمية من قضية "حفتسلوت" نفسها. الإسكات هو ظاهرة خطيرة للغاية. ساعد الضغط العام بلا شك في مناقشة الآثار الخطيرة للظروف التي تفرضها الخطة وكشفها على الملأ، ولكن سيكون من الصعب للغاية إصلاح الأضرار التي ألحقت فيما يتعلق بالمناخ المسيطر والمعادي للنقد، القائم على التخويف والتهديدات. تشعر هيئة التدريس في الجامعة بالقلق الشديد بشأن كيفية تنفيذ البرنامج، تأثيره على مكانته وطبيعة الدراسة في المساقات. ونحن في "أكاديميا من أجل المساواة" قلقون أيضاً من أن الجامعة لن تصبح معسكراً فحسب، بل أيضاً سيقل عدد الذين سيتجرأون على النقد.

تفتخر "أكاديميا من أجل المساواة" بأن تكون المنظمة الجامعية الوحيدة التي دعمت الهيئة التدريسية والمساقات ذات الصلة التي عارضت شروط البرنامج بشدة. أما إجابات الجامعة لجهات قلقة خارج البلاد فكانت مخزية وفظة.

ستدخل قضية "حفتسلوت" أرشيف الأكاديميا الإسرائيلية ليس فقط ضمن فئة تعاون هذه الأكاديميا مع حكم يحافظ على الاحتلال والقمع، بل في فئة الإسكات الذي نوثق فيه محاولة خفض الأصوات الناقدة. وكلنا أمل أن ينجح المجتمع الأكاديمي الإسرائيلي في منع الانتهاكات المتوقعة للحرية الأكاديمية ومنع الظروف غير الطبيعية داخل الجامعة. لكن إذا استمر المناخ العدائي في تعريض أعضاء هيئة التدريس للخطر وإذا أصبح حقيقة واقعة وروتينية، ستكون لذلك آثار بعيدة المدى على مكانة الأكاديميا الإسرائيلية في العالم. نأمل ألا يكون الوقت قد فات لتصحيح هذا الأمر، وندعو المجتمع الأكاديمي في إسرائيل لأن يصحو ويعارض شروط البرنامج وثقافة الإسكات، بكل الوسائل المتاحة له.
_____________________
(*) هيلا دايان محاضرة في جامعة أمستردام، وعضو مجموعة "أكاديميا من أجل المساواة"، التي أقامها أكاديميون إسرائيليون وتنشط أيضاً ضد عسكرة المجال الأكاديمي في إسرائيل. ألقيت الكلمة أعلاه في أمسية عقدت في "معهد فان لير" في القدس حول دخول برنامج "حفتسلوت" العسكري إلى الجامعة العبرية بدءاً من العام الدراسي القريب. المصدر: موقع "هعوكتس" الإلكتروني.

 

المصطلحات المستخدمة:

معهد فان لير

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات