المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

ما هي العلاقة بين تعميق وتشديد السياسات النيو ليبرالية في إسرائيل خلال العقدين الأخيرين وبين الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني؟ سؤال قد يبدو، للوهلة الأولى، عبثياً، غير ذي معنى وغير ذي أهمية، لكنّ المقالة العلمية التي نشرها الباحث الإسرائيلي د. أرييه كرامبف تقدم تحليلا يخلص في استنتاجه الأخير إلى إجابة مثيرة على السؤال المذكور تقترح زاوية أخرى، جديدة ومغايرة، للنظر إلى مسألة تبني السياسة النيو ليبرالية، ثم تكريسها وتوسيعها في إسرائيل: تسعى دولة

إسرائيل، بقيادة الحكومات اليمينية خلال السنوات الأخيرة، إلى تقليص مدى اعتمادها الاقتصادي على الدول الغربية عامة، والولايات المتحدة خاصة، وإلى تعزيز قدراتها الذاتية على مواجهة الضغوط السياسية الدولية المترتبة على معارضة الاحتلال الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية! ويؤكد كرامبف أن التحليلات والتفسيرات الشائعة لمنحى تعميق وتشديد السياسات النيو الليبرالية في إسرائيل خلال العقدين الأخيرين (منذ مطلع سنوات الألفين) "تتجاهل هذا الجانب الهام جداً".

يذكر أن كرامبف هو أستاذ في "الكلية الأكاديمية تل أبيب ـ يافا" متخصص في مجال الاقتصاد السياسي، في الحوكمة المالية العالمية وفي تاريخ الاقتصاد الإسرائيلي، وأن هذه المقالة تستند إلى كتابه الأخير الذي صدر باللغة الإنكليزية حديثا بعنوان "المسار الإسرائيلي نحو النيو ليبرالية: الدولة، الاستمرارية والتغيير"، وكان قد أصدر من قبل كتابا باللغة العبرية عن "الرأسمالية الإسرائيلية".

كما يذكر أن هذه المقالة نشرت (بعنوان "العلاقة المسكوت عنها بين النيو ليبرالية الإسرائيلية والصراع") في العدد الأخير (آب 2018) من مجلة "هزمان هزيه" (هذا الزمن) وهي مجلة رقمية جديدة تعنى بالقضايا الفكرية والجدل الجماهيري العام تصدر عن "معهد فان لير" في القدس.

بدايات النيو ليبرالية الإسرائيلية

يستهل الكاتب مقالته بالتذكير بالأزمة الحادة التي عصفت بالاقتصاد الإسرائيلي في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي والتي كان من أبرز نتائجها حصول تغيير عميق في النظام الاقتصادي الإسرائيلي وُصف، آنذاك، بـ "التحول النيو ليبرالي" وتميز، أساساً، بالتخلي عن سياسة التدخل الحكومي المباشر في الأنشطة الاقتصادية لصالح الخصخصة ولبرلة الأسواق.

رغم أن هذا المنحى كان عالميا وأن تحولا مماثلا قد حصل في اقتصادات العديد من الدول، إلا أن مميزات هذا التحول في إسرائيل، ابتداء من مطلع سنوات الألفين، كانت أكثر حدة وتطرفا بشكل واضح. فتطبيق النظام النيو ليبرالي، الذي ظهرت بوادره الأولى خلال حكومة بنيامين نتنياهو الأولى في العام 1996، اتخذ شكلا حادا بعيد الأثر وأدى، منذ مراحله الأولى، إلى ارتفاع حاد في معدلات الفقر واللامساواة بصورة غير مسبوقة حتى أصبحت من بين الأعلى على الإطلاق في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). وقد تجسدت تلك السياسات، في تلك الفترة، في تقليص "دولة الرفاه" بصورة حادة وفي تعزيز قطاع الهايتك وقطاعات التصدير الأخرى، على حساب القطاعات الاقتصادية الأخرى، بما حقق منافع وأرباحا هائلة لصالح مجموعة صغيرة من أصحاب رؤوس الأموال مقابل إلحاق أضرار بالغة بجمهور العاملين عامة وبمستوى حياة السواد الأعظم من السكان. وشكلت "حملة الاحتجاج الشعبية" الواسعة التي شهدتها إسرائيل في صيف العام 2011 ردة فعل مدنية قوية على هذا التحول، لكنها سرعان ما خفتت وتلاشت.

محاولات تفسير ومصالح محلية

كيف يمكن، إذن، تفسير هذا التطرف الحاد في تطبيق النيو ليبرالية في إسرائيل، على نحو أعمق بكثير مما حصل في دول أخرى؟

يورد الكاتب هنا بعض التفسيرات لهذا التطور، يقول أحدها إن إسرائيل استدخلت قواعد ومعايير كانت معتمدة في الدول المتطورة ومستندة إلى النظريات الاقتصادية السائدة. غير أن هذا التفسير، كما يوضح الكاتب، يتناسب مع العقد الأول فقط من التحول النيو ليبرالي في إسرائيل ـ ابتداء من العام 1985 وحتى منتصف الثمانينيات. وقد تجندت مجموعة كبيرة من علماء الاقتصاد، في تلك الفترة، خلف واضعي السياسات ووفرت لهم دعما تاما وغير مشروط استمر حتى بداية الثمانينيات، حيث تبدل الخطاب الاقتصادي العام في البلاد وأصبح الخلاف هو السمة الأبرز بين علماء الاقتصاد في الأكاديميا، بل وبين علماء الاقتصاد العاملين في القطاع العام أيضا.

ثمة تفسير آخر يقول إن النظام الاقتصادي السائد في إسرائيل هو حصيلة تبني أفكار النيو ليبرالية وأفكار المحافظين الجدد، التي "استوردتها" من الولايات المتحدة جهات إسرائيلية متنفذة، سواء في وزارة المالية أو في المنظومة السياسية الأوسع. ويشير الكاتب إلى أن ثمة أساسا تاريخيا للادعاء بأن التأثيرات الأميركية هي التي أملت اعتماد سياسة الطوارئ في إسرائيل في العام 1985 في محاولة لضبط الاقتصاد وإعادة استقراره، والتي شكلت أبرز المؤشرات على التحول النيو ليبرالي. غير أن السنوات التالية ـ بدءا من مطلع التسعينيات عموما، وابتداء من مطلع سنوات الألفين بوجه أساسي ـ تميزت بالدور النشط جدا الذي لعبه بنيامين نتنياهو شخصيا ـ كوزير للمالية أولاً، ثم كرئيس للحكومة لاحقا ـ في تطبيق المشروع النيو ليبرالي الأكثر تطرفا في إسرائيل، بهدي إيديولوجية المحافظين الجدد الأميركيين وتحت تأثيرهم المباشر. ومع ذلك، يتساءل الكاتب: هل في وسع هذه الصيغة المتطرفة من هذه الإيديولوجية المستوردة ـ التي كان عدد وكلائها في إسرائيل قليلا جدا آنذاك ـ تقديم تفسير شاف للتغيرات العميقة وبعيدة الأثر التي شهدها الاقتصاد الإسرائيلي خلال السنوات الأخيرة؟ والجواب القاطع الذي يقدمه الكاتب على هذا التساؤل هو: حتى لو كان من الواضح تماما أن أفكار المحافظين الجدد قد لعبت دورا حاسما في تصميم وتشكيل النظام الاقتصادي الإسرائيلي المحلي، إلا أن تجذرها في إسرائيل، على هذا النحو من السرعة والعمق، يستوجب البحث عن المصالح الإسرائيلية المحلية التي حرّكت هذه السيرورة ومكّنتها من تحقيق هذا النجاح.

يثير تفسير آخر (ثالث) لتبني النموذج النيو ليبرالي المتطرف في إسرائيل مسألة مصالح القطاع الخاص والقوة الاقتصادية الكبيرة التي يتمتع بها: العلاقة بين رأس المال والسلطة. ويقول هذا التفسير إن القطاع الخاص كان الرابح الأكبر من عمليات الخصخصة والعولمة التي أُخضع لها الاقتصاد الإسرائيلي، ولذا فقد تجند لدعم هذا التغيير بكامل قوته. لكن هذا التفسير أيضا يبقى ناقصا، كما يرى الكاتب. ذلك أن التاريخ الاقتصادي الإسرائيلي يبين أن التغييرات البنيوية التي طرأت على الاقتصاد الإسرائيلي كانت، بالأساس، ثمرة مبادرات حكومية انضم إليها لاحقا لاعبون من القطاع الخاص. وهذا، علاوة على حقيقة أن القطاع الخاص ليس كيانا واحدا منسجما، بل تتفاعل فيه وتتصارع مصالح مختلفة ومتناقضة: فبينما يستفيد قطاع الهايتك والمصدرون من النظام الاقتصادي الحالي، تكبدت القطاعات الصناعية والخدماتية أضرارا كبيرة جراءه وتسعى إلى تغييره.

ليس ثمة شك في أن التفسيرات المختلفة التي ذُكرت هنا تلقي ضوءا مكثفا على عملية تطبيق النموذج النيو ليبرالي المتطرف في إسرائيل. لكن ثمة حاجة إلى التطرق إلى عامل إضافي آخر أهملته الدراسات الأكاديمية والسجالات الجماهيرية العامة ولم تتطرق إليه إلا نادرا جدا، حتى الآن، وهو: العلاقة بين السياسة الخارجية الصقرية التي تعتمدها الحكومات الإسرائيلية خلال العقدين الأخيرين تقريبا وبين التطرف النيو ليبرالي خلال الفترة نفسها. فقد وفرت هذه السياسة الصقرية المتشددة التي اعتمدتها الحكومات اليمينية في إسرائيل حافزا إضافيا آخر لتبني صيغة أكثر تطرفا من النظام النيو ليبرالي، ترتبت عنه معدلات مرتفعة جدا من الفقر واللامساواة.

لهذا الحافز جانبان: الجانب الأول ـ المعروف والمتداول في السجال الجماهيري العام ـ هو أن تبني نموذج أكثر تطرفا من النيو ليبرالية يُعتبر وسيلة لتلافي ومواجهة الهزات الاقتصادية والأمنية، يُرتجى منها تحسين ورفع مستوى المناعة الاقتصادية الإسرائيلية، الاستقرار الاقتصادي وقدرته على الصمود في فترات الأزمات والحروب. وبكلمات أخرى، فإن شعار "هنا ليس أوروبا" هو ليس مجرد كلام خال من أي مضمون، بل يعكس ـ إلى حد ما ـ مجموعة الظروف والملابسات المختلفة التي تحيط بواضعي السياسات الاقتصادية الإسرائيلية والتي يعملون في إطارها ومن خلالها.

الجانب الثاني، المكمل، هو الذي تتغاضى عنه وتهمله حتى الآن، إطلاقا تقريبا، الدراسات والأبحاث والسجالات الجماهيرية العامة، وهو أن النموذج النيو ليبرالي المتطرف، الذي اعتمدته وكرسته الحكومات اليمينية بالأساس خلال العقدين الأخيرين بشكل خاص، كان يرمي إلى تقليص اعتماد هذه الحكومات الاقتصادي على أطراف خارجية ـ في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية ثم الدول الأوروبية ـ لأسباب وغايات سياسية. ذلك أن عدم رغبة الحكومات الإسرائيلية ـ وخاصة حكومات اليمين منهاـ أو عدم قدرتها على الدفع نحو حل سياسي للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني يحتم عليها تبني موقف متصلب في الحلبة السياسية الدولية. ومن هنا، فإن تقليص الاعتماد الاقتصادي الإسرائيلي على المعونات والمساعدات الخارجية من شأنه أن يقلص أيضا، ولو بصورة جزئية وضئيلة، قدرة الحكومات الأجنبية على التأثير على القرارات والإجراءات السياسية الإسرائيلية في كل ما يتصل بأمور المفاوضات السياسية والبناء الاستيطاني في المناطق الفلسطينية.

قرار سياسي

في ضوء التحليل الذي يعرضه كرامبف، يمكن التساؤل: هل كان فرض النيو ليبرالية الانعزالية على إسرائيل بمثابة ردة فعل على حالة انعدام الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وانعدام الاستقرار الاقتصادي في العالم عامة؟ لا شك في أن للظروف الجيو سياسية المحيطة بإسرائيل والتي تعمل إسرائيل من خلالها تأثيرا كبيرا على اعتبارات واضعي السياسات فيها. ومن هنا، ثمة قدر من الصدق في الادعاء/ الشعار الشائع في إسرائيل بأن "هنا ليس أوروبا". ولكن، مع ذلك، سيكون من الخطأ الفادح الافتراض بأن الظروف القائمة ـ الجيو سياسية أو الاقتصادية ـ هي التي تملي السياسات الاقتصادية.

تبني النظام النيو ليبرالي الانعزالي هو، في المقام الأول والأساسي، قرار سياسي يجسد، ضمن ما يجسده، سلم الأولويات القومي. وعليه، فثمة له بديل آخر يجسد سلم أولويات مغايراً تماما، وهو ـ الدفع نحو تحقيق تسوية سياسية للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني. ونظرا لأن دولة إسرائيل لا تسعى إلى تحيق مثل هذه التسوية، بل توظف جهودها، كلها تقريبا، من أجل المحافظة على "الوضع القائم" وإدامته، فإن الأمر يعرّضها لمستويات مختلفة ومتغيرة من الضغوط الدولية. غير أن مواجهة هذه الضغوط والصمود أمامها يستلزمان تحقيق استقلال اقتصادي واسع ومتين، وهو ما تتحمل القسط الأكبر من أعبائه وأثمانه قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي، تتكبد أضرارا جسيمة جدا في مستوى المعيشة، الرفاه والمساواة.

ويؤكد كرامبف، في ختام مقالته: حتى لو لم يكن من المتوقع حصول أي تغيرات جوهرية في الوضع الجيو سياسي خلال السنوات المقبلة، يبقى من الواجب والضروري التساؤل: ألم يحن الوقت لإعادة النظر في سلم الأولويات الاقتصادي ولتبني سياسة اقتصادية أكثر توازناً، تمنح وزنا أكبر لتطوير الخدمات والصناعات "التقليدية"، لتبني سياسات استثمارية أقل تركيزاً ولتوسيع شبكة الأمان الاجتماعي؟ ثم يجيب على هذا التساؤل ببساطة تامة: "الجواب على هذا إيجابي، في تقديري"!

نموذجان من النيو ليبرالية والخيار الإسرائيلي!

ما هي العلاقة، إذن، بين التطرف في تطبيق النيو ليبرالية، من جهة، وبين محاولات الحكومات الإسرائيلية خلال السنوات الأخيرة التحرر من التبعية الاقتصادية والسياسية، من جهة أخرى؟

تشير دراسات مختلفة إلى أن ثمة نوعين/ نموذجين اثنين، على الأقل، من النظام النيو ليبرالي: النموذج الكوسموبوليتي الأوروبي، الذي تبلور في معرض عملية الاندماج والتكامل في الاتحاد الأوروبي إبان الثمانينيات والتسعينيات على قاعدة النموذج الاقتصادي الألماني، والنموذج الانعزالي الأنجلو ـ أميركي، الذي تبلور إبان حكم مارغريت تاتشر في بريطانيا ورونالد ريغان في الولايات المتحدة خلال الثمانينيات.

النموذج النيو ليبرالي الكوسموبوليتي مشتق من توجه نيو ليبرالي يولي أهمية كبيرة لسيرورات لبرلة الأسواق، لكنه أكثر "لطفا" من الناحية الاجتماعية من النموذج الانعزالي المتشدد. وإلى جانب التشديد على أهمية لبرلة الاقتصاد المحلي ولحركة رؤوس الأموال كشرط للاستقرار الاقتصادي والنمو، يولي النموذج الكوسموبوليتي الأوروبي أهمية كبيرة، أيضا، للمنظومات الإدارية ويسمح بانتهاج سياسات رفاه وضمان حد أدنى من حقوق العمال. وعلى المستوى الدولي، تتطلع النيو ليبرالية الكوسموبوليتية إلى تحقيق اتفاقيات تجارية دولية متعددة الأطراف، أو إقليمية، تقوم على التعاون الدولي. وينعكس الطابع الكوسموبوليتي لهذا النموذج في تشديده على الأرباح المشتركة الكامنة في التعاون الدولي وعلى الانعكاسات والآثار السياسية المترتبة على التعاون الاقتصادي.

أما النموذج النيو ليبرالي الانعزالي الأنجلو ـ أميركي فيشدد، في المقابل، على الإصلاحات التي اعتمدها كل من مارغريت تاتشر ورونالد ريغان في السبعينيات والثمانينيات. وهي الإصلاحات التي قامت على مفهوم "السياسة الودية تجاه الأعمال"، الذي يأتي على حساب دولة الرفاه وبثمن المس بصورة حادة بقوة العمال ومكانتهم. وعلى صعيد العلاقات الخارجية، يتميز النموذج النيو ليبرالي الأنجلو ـ أميركي بطابعه الانعزالي، أكثر بكثير من النموذج الأوروبي. ورغم أن ثمة تيارات نيو ليبرالية كوسموبوليتية في الولايات المتحدة أيضا، إلا أن ثمة توجها آخر يبدي تشككا في كل ما يتعلق بالتعاون الدولي، وخاصة بين أوساط اليمين الجمهوري والمحافظين الجدد. هؤلاء الأخيرون لم يعارضوا العولمة، لكنهم اقترحوا رؤية بديلة على الولايات المتحدة، بموجبها، استغلال قدرتها على المساومة بغية الدفع بتسويات تنسجم مع مصالحها وتخدمها. وتمثلت الفكرة الاقتصادية التي بررت هذا الموقف في أنه إذا ما تبنت كل دولة السياسة الاقتصادية الصحيحة ـ أي، النيو ليبرالية ـ في الداخل، فعندئذ تنتفي الحاجة إلى التعاون الدولي.

ويؤكد الكاتب أن لكلا النموذجين المذكورين من النيو ليبرالية الاقتصادية إسقاطات سلبية عميقة على دولة الرفاه وعلى العاملين، لكن إسقاطات النموذج الانعزالي، الأنجلو ـ أميركي هي أكثر ضررا بصورة كبيرة جدا. وقد كانت إسرائيل في عداد الدول الكثيرة التي تأثرت بهذين النموذجين من النيو ليبرالية، حتى وإن لم تسارع إلى تبنيهما تبنياً أعمى. لكن إسرائيل اختارت، بقرار واعٍ، تركيز اعتمادها أكثر على النموذج الانعزالي، الأنجلو ـ أميركي بصورة واضحة.

بين التبعية والاستقلال

تساعد المميزات الأساسية الأبرز لكل من النموذجين المذكورين، كما أشير إليها آنفا، في تحديد ملامح فترتين اثنتين في عصر النيو ليبرالية الإسرائيلية ـ النيو ليبرالية الكوسموبوليتية، أو "النيو ليبرالية الحمائمية"، التي ميزت إسرائيل بين العامين 1985 و 1995؛ ثم النيو ليبرالية الانعزالية، أو "النيو ليبرالية الصقرية"، التي تميز إسرائيل منذ العام 1996 وحتى اليوم.

لفهم التحول الذي أقدمت عليه إسرائيل، منذ مطلع سنوات الألفين بصورة أساسية، من النيو ليبرالية الكوسموبوليتية إلى النيو ليبرالية الانعزالية، لا يكفي تحليل أفضليات وسلبيات كل من هذين النموذجين بشكل عام، بل ينبغي أيضا البحث في كيفية تأثير مميزات كل من النموذجين على الحافز المحلي لتبني مثل هذه النماذج، أو أحدها بوجه خاص. وبكلمات أخرى: الحكومات التي تنتهج سياسات خارجية صقرية متشددة، أو التي تتميز سياساتها الخارجية بعدم الاستقرار، بما يعني تعرضها لضغوط دولية مختلفة أو تورطها في صراعات دولة مختلفة، قد ينشأ لديها حافز قوي وواضح لتبني نهج نيو ليبرالي متشدد يساعد على تحسين قدرة الشركات المحلية على التنافس في الأسواق الدولية. ومن شأن مثل هذه الانعزالية أن تؤدي إلى تقليص قدرة الأطراف الخارجية على التأثير على عمليات صنع القرارات المحلية، من خلال تقليص الديون الخارجية وزيادة الأرصدة المحلية من العملات الأجنبية، التي تشكل صندوق طوارئ لأوقات الأزمات.

هذا ما حصل في إسرائيل أيضا. فقد أدت ظروفها الاقتصادية والجيو سياسية إلى اعتبار الاستقلال الاقتصادي أمرا في غاية الأهمية، في نظر جميع الحكومات المتعاقبة منذ قيام الدولة وحتى اليوم. إلا أن وزن هذا الهدف (الاستقلال الاقتصادي)، قياسا بالأهداف الأخرى، شهد تغيرات أملتها الظروف، كما تغيرت التكلفة الاجتماعية من حين إلى آخر أيضا.

في امتحان النتيجة الاقتصادية، يتجسد النجاح الأساسي لنظام النيو ليبرالية الانعزالية في إسرائيل في المتغيرات الاقتصادية ذات الصلة بعلاقات إسرائيل مع دول العالم المختلفة. وتثبت المعطيات بالأرقام أن إسرائيل نجحت في تحقيق استقلال واستقرار اقتصاديين غير مسبوقين. ويبدو، ظاهريا، أن الحديث هنا عن نجاح اقتصادي باهر، غير أن النموذج الانعزالي كلف ثمنا اجتماعيا باهظا وحادا جدا تحملت أعباءه قطاعات واسعة جدا من المواطنين في إسرائيل.

النتيجة السياسية، الحزبية ـ الداخلية والدولية ـ الخارجية، للسياسات النيو ليبرالية الانعزالية، على أفضلياتها ونواقصها الاجتماعية ـ الاقتصادية، تتمثل أساسا في أن إسرائيل أصبحت قادرة اليوم على الصمود في وجه هزات سياسية أو اقتصادية من دون الحاجة إلى تلقي معونات اقتصادية من أية دولة أخرى أو منظمة دولية. وفي إطار ذلك، تستطيع إسرائيل دفع مصالحها الدولتية في الحلبة الدولية وتقليص احتمالات تعرضها للضغوط الدولية.

أحد النجاحات الأبرز التي حققها النظام النيو ليبرالي في إسرائيل يتمثل في التقليص الحاد الذي تحقق في درجة الاعتماد الإسرائيلي المباشر، اقتصاديا، على المعونات الخارجية الأميركية. صحيح أن اعتماد إسرائيل على الولايات المتحدة لا يقتصر على المعونات المالية فقط، وإنما يتعداه إلى الدعم السياسي في المحافل الدولية المختلفة، مثل الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة وغيرها، لكن تقليص الاعتماد على المعونات المالية يكتسب ، في حد ذاته، أهمية كبرى بكونه وسيلة سهلة، فورية وناجعة لممارسة التأثير على عملية صنع القرارات في إسرائيل.

فور تسلمه منصب رئيس الحكومة، في حكومته الأولى، صرح بنيامين نتنياهو في خطاب ألقاه في الكونغرس الأميركي، بأن إسرائيل تسعى إلى تحقيق استقلال اقتصادي يسمح لها بالتخلي عن المعونات الاقتصادية التي تقدمها لها الولايات المتحدة. وبالفعل، تراجع حجم الدعم المدني الأميركي المقدم لإسرائيل باستمرار من العام 1997، حيث بلغ آنذاك 2ر1 مليار دولار، حتى إلغائه تماما في العام 2008. لكن إسرائيل لم تتخل عن المساعدات الأمنية التي ازدادت خلال كل تلك السنوات وبلغ حجمها الآن نحو 3 مليارات دولار سنويا ومن المتوقع أن يرتفع إلى 8ر3 مليار دولار في السنة ابتداء من العام القريب، 2019، بموجب الاتفاق الذي تم التوقيع عليه بين نتنياهو والرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما.

في مثل هذه الظروف، ليس مستغربا اتساع وتعالي الأصوات في الحلبة السياسية الإسرائيلية وخارجها ـ وخاصة من بعض وسائل الإعلام، معاهد الأبحاث ونشطاء اليمين السياسي ـ التي تدعو إلى التخلي تماما وفوراً عن المعونات الأميركية لتجنب أي ضغوط سياسية قد تمارسها الولايات المتحدة على إسرائيل. ذلك أن أفضليات النموذج النيو ليبرالي الانعزالي قادرة على التعويض عن الخطر الكامن في احتمال التعرض لضغوط سياسية خارجية، وبضمنها من جانب "حركة المقاطعة، العقوبات وسحب الاستثمارات" (BDS) وغيرها، كما أن من شأنها جعل هذا النموذج أكثر انسجاما مع التطلعات السياسية وخدمة لها.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات