فاجأت كتلة تحالف أحزاب المستوطنين "البيت اليهودي" بقرار قادتها، أمس الاثنين، عدم الانسحاب من حكومة بنيامين نتنياهو، ومنح فرصة للحكومة، ولرئيسها بصفته وزيرا للدفاع لاتباع استراتيجية جديدة تجاه قطاع غزة، ما يعني أن حكومة بنيامين نتنياهو عادت لترتكز على أغلبية ضيقة من 61 نائبا. وليس أمام هذه الحكومة ما يجعلها أمام خطر بسبب الأغلبية الضيقة، بعد أن أقرت في وقت مبكر ميزانية العام المقبل. ورغم ذلك فمن الصعب رؤية احتمال تبدد كلي لغيمة الانتخابات المبكرة، التي قد تظهر بشكل مفاجئ مرّة أخرى في غضون وقت قريب.
وهناك الكثير من التفسيرات المفترضة لقرار كتلة "البيت اليهودي"، التي ظهرت قبل أيام حازمة جدا في موقفها، الداعي لتولي حقيبة الدفاع خلفا للوزير المستقبل أفيغدور ليبرمان، ومن بينها:
*تنفيس البالون الذي نفخه ليبرمان لدى أوساط اليمين الاستيطاني، وكأنه الأشد تطرفا في الموقف من شكل مواجهة قطاع غزة، ومنح فرصة إما لإثبات وجود هدوء على القطاع، تعزوه إسرائيل لنفسها، أو تصعيد كبير، يشمل اجتياحا واسع النطاق لقطاع غزة.
*منح فرصة لتمرير قوانين يسعى لها اليمين الاستيطاني، تتعلق بأنظمة في الحكم، منها السماح للوزراء بتعيين المستشارين القانونيين للوزارات. وسن قانون آخر يسمح بسن قوانين نقضتها المحكمة العليا، بأغلبية أكبر. وسن قانون خصم ميزانيات ثقافية من مؤسسات لها نشاطات تتعارض مع سياسات الحكومة وغيرها. ففي قوانين كهذه ترتكز الحكومة على أكثر من 61 نائبا، كون أن حزب "إسرائيل بيتنا" بزعامة ليبرمان لا يستطيع الاعتراض على قوانين كهذه، كان من الداعين لها.
وقد جاءت المفاجأة، بعد أن ظهر نتنياهو، مساء الأحد، كمن يغلق الباب في وجه "البيت اليهودي" حينما أعلن قراره النهائي بتولي حقيبة الدفاع وألقى بمسؤولية حل الحكومة على شركائه، مدعيا أنهم يغامرون بالتفريط بحكومة اليمين، محذرا من أن هذا قد يقود لصعود حكومة بقيادة من يسميهم نتنياهو "يسارا"، رغم أن كل استطلاعات الرأي التي تظهر تباعا تستبعد كليا هذا الاحتمال.
لكن يبدو أن "البيت اليهودي" تركت مؤشرات لاحتمال تراجعها يوم الأحد، دون أن ينتبه الكثيرون، حينما طالبت الكتلة بإبقاء النائب إيلي بن دهان نائبا لوزير الدفاع. فقد أنهى دهان منصبه تلقائيا صباح الأحد، بموجب القانون القاضي بإنهاء منصب نائب وزير، في حال استقال الوزير في ذات الوزارة، وفي هذه الحالة أفيغدور ليبرمان. وقد وافق نتنياهو ضمنا على إبقاء دهان في الوزارة.
ويبقى السؤال الآن هو لأي مدى ممكن أن تتماسك هذه الحكومة، وقد دخلت بشكل جدي في عام الانتخابات البرلمانية، التي موعدها القانوني هو نهاية تشرين الثاني من العام المقبل 2019؟ فقد علمت تجربة عشرات السنين أنه حينما تتضعضع القاعدة الائتلافية، في أجواء انتخابات، فإن من الصعب الحفاظ على الحكومة، وكل اجراء يُتخذ يسقط سريعا.
مثال على هذا، هو ما جرى في شهر أيار 2012، حينما كانت الهيئة العامة للكنيست تعقد جلستها للتصويت على قانون حل الكنيست. فبعد أن تم التصويت على القانون بالقراءة الأولى، وانعقدت جلسة للجنة البرلمانية لبلورة الصيغة النهائية، توقفت الجلسة بعد وقت قصير، ليعلن نتنياهو عن ضم حزب "كديما" بزعامة شاؤول موفاز في حينه. إلا أن الحكومة الموسعة لم تصمد لأكثر من شهرين، وجرى حل الكنيست، وجرت الانتخابات في الشهر الأول من العام 2013.
وما جرى منذ ظهر يوم الأربعاء، 14 تشرين الثاني الجاري، بعد اعلان أفيغدور ليبرمان استقالته من منصبه، أن المشهد الحاصل بين كتل الائتلاف، أشبه باستعراض "عضلات" لأن منطقهم يقول: إن من يعترض على انتخابات مبكرة، ولا يطالب بها، هو إشارة إلى كونه خائفا منها. أما بنيامين نتنياهو، فقد اتخذ لنفسه طابع "القائد المسؤول، الحريص على استقرار الحكم". وحتى أنه زعم، كما ذكر، أن تفكيك حكومة اليمين سيؤدي إلى تولي ما أسماه "اليسار" الحكم، وهذا ما لا أساس له، وفق نتائج كل استطلاعات الرأي.
وقد سعى نتنياهو لانتخابات مبكرة منذ أشهر طويلة، في محاولة لتجاوز التحقيقات معه بقضايا الفساد، واستباقا لاحتمال تعمقها، واتخاذ قرارات بتقديم لوائح اتهام ضده. إلا أنه لمس بشكل واضح أن الجمهور لا يلتفت إلى القضايا التي تلاحقه، بمعنى أنه لا يأخذها على محمل الجد، خلافا لحالات أخرى مع رؤساء حكومات سابقين. وهذا لعدة عوامل، أهمها أن القضايا المنسوبة له حسب ما ينشر، ليس فيها اتهام بتلقي مبالغ ضخمة، وإنما الحديث عن "هدايا" دسمة، مقابل امتيازات ضريبية وتسهيل أعمال. وكما يبدو أن هذا مستوى فساد مقبول على الجمهور الإسرائيلي.
وأمام هذا، سعى نتنياهو لاستثمار المكاسب السياسية التي حققها له البيت الأبيض، خاصة على صعيد القضية الفلسطينية، ولكن أيضا في القضايا الإقليمية. وأيضا ما يظهر وكأن مكانة إسرائيل على الساحة الدولية والإقليمية تتعزز. وكل هذا يأتي في ظل ظروف اقتصادية جيدة بشكل خاص للجمهور اليهودي، الذي لا يعاني من أي نسبة بطالة تذكر، فيما نسب الفقر لديه مماثلة لنسب أوروبية، باستثناء المتدينين المتزمتين الحريديم، الذين يعيشون حياة تقشفية إرادية. وكان طبيعيا أن يستثمر نتنياهو كل هذا للتوجه إلى انتخابات مبكرة، تتعزز فيها قوة حزبه البرلمانية، ويضمن بذلك قيادته للحكومة المقبلة.
إلا أن نتنياهو لا يستطيع التوجه إلى انتخابات مبكرة، دون مبرر واضح، فحكومته كانت متماسكة. ولكنه اعتقد أن الأزمة مع كتلتي الحريديم: يهدوت هتوراة بالذات، وأيضا شاس ستتعزز، حول قانون تجنيد شبان الحريديم، ويكفي خروج يهدوت هتوراة من الحكومة ليحل الائتلاف والكنيست ويتجه إلى انتخابات. إلا أن الزعامة الروحية لتحالف يهدوت هتوراة، قررت الاعتراض على القانون والبقاء في الحكومة. وهذا سحب البساط من تحت نوايا نتنياهو بانتخابات مبكرة.
الأحزاب تبحث عن مكانتها
لكن كل هذا لم يبدد غيمة الانتخابات المبكرة من الأجواء. فالكتل والأحزاب الأخرى كان لديها اعتقاد أن نتنياهو سيبحث عن مهرب جديد، يفاجئها بانتخابات مبكرة. ومنها من بحث عن مهرب، وكان أولهم أفيغدور ليبرمان، زعيم حزب "إسرائيل بيتنا"، الذي رأى منذ الانتخابات الماضية أن مكانته الشعبية تراوح مكانها في أحسن الأحوال، عند 6 مقاعد برلمانية، وفي فترات سابقة كان يحصل على أقل، مما يقربه إلى نسبة الحسم لدخول الكنيست، بمعنى في مجال الخطر.
ويعي ليبرمان أن اليمين الاستيطاني المتطرف يشهد منافسة شديدة جدا بين الليكود من جهة، وتحالف أحزاب المستوطنين من التيار الديني الصهيوني "البيت اليهودي"، من جهة أخرى. وهناك لاعب آخر: القائمة التي كانت على وشك الدخول إلى الكنيست، التي تضم اتباع حركة "كاخ" الإرهابية، الذين تحالفوا مع المنشق عن حركة شاس إيلي يشاي، فهذا تحالف اقتنص 125 ألف صوت، غالبيتها الساحقة من قطاع المستوطنين، وأيضا من الحريديم الشرقيين أساسا.
كما يعرف ليبرمان أن فرصه في هذا المعسكر ليست كبيرة، في حين أن فرصه لدى جمهور المهاجرين من دول الاتحاد السوفييتي السابق باتت تضيق في السنوات الأخيرة. ولهذا رأى في الجدل حول كيفية التعامل مع قطاع غزة فرصه للقفز على متن "سفينة إنقاذ" تنقله إلى "بر الأمان" في الانتخابات المقبلة خاصة وأن أوساطا يمينية، وليس وحدها، بدأت تحاسبه على تصريحاته التي سبقت دخوله إلى منصبه، بأنه سيوجه الضربة القاضية لحركة حماس ولم يفعل، كما يقولون.
وعلى خلفية هذا أعلن ليبرمان استقالته من منصبه، وكان هذا بمثابة طلقة البداية نحو معركته الانتخابية المقبلة، إلا أن استطلاعات الرأي لم تمنحه مزيدا من المقاعد، لأن هناك قناعة واسعة بخلفية استقالة ليبرمان.
في المقابل، فإن استقالة ليبرمان أججت المنافسة بين "البيت اليهودي" وبين حزب الليكود، بزعامة نتنياهو، الذي زاد في انتخابات 2015 قوته في المستوطنات والقدس بنسبة تزيد عن 30%، بينما بقي "البيت اليهودي" عند حجمه السابق، الذي حققه في 2013، في هذا القطاع. وأكثر من هذا، ظهر الليكود لاعبا أيضا لدى أوساط التيار الديني الصهيوني، رغم أن 60% من أصوات هذا الجمهور اتجهت أساسا لتحالف "البيت اليهودي".
وبالإمكان القول إنه على خلفية هذه المنافسة الشديدة، طرح "البيت اليهودي" شرطه للبقاء في الحكومة، بأن يتولى الوزير، الرائد احتياط نفتالي بينيت، حقيبة الدفاع، مرفقا ذلك بخطاب، بموجبه أن بينيت قادر على تغيير التوجهات في قيادة الجيش، لتكون أكثر حدة في التعامل مع قطاع غزة.
ويعرف بينيت، كمن سبقه في وزارة الدفاع، وفي كل الحكومات السابقة، أن الجيش يضع استراتيجياته، بناء على سلسلة من التقييمات المحلية والإقليمية والدولية، والاعتبار الأساس هو للمصالح العليا الاستراتيجية لإسرائيل، المرحلية وبعيدة المدى.
وعلى خلفية نوايا "البيت اليهودي"، كان الرفض الفوري من بنيامين نتنياهو ووزراء الليكود بأن يتولى بينيت حقيبة الدفاع رمز القوة في عام انتخابات، إن كانت مبكرة أو في موعدها القانوني، ولا يمكن أن يسلمه حقيبة من ضمن صلاحياتها التوقيع الأخير على الكثير من المشاريع الكبيرة والصغيرة في مجال الاستيطان في الضفة.
على ضوء ما تقدم، فإن احتمال التوقف الكلي لمسيرة التقدم نحو انتخابات برلمانية مبكرة يبقى ضعيفا. والمشهد المتوقع في الفترة الجديدة لحكومة نتنياهو هو كثرة التهديدات بين أطراف الائتلاف. وهذا يمكن لمسه في تصريح الوزير نفتالي بينيت، زعيم "البيت اليهودي"، بأنه وزملاءه سيراقبون كيف سيتعامل نتنياهو مع الأوضاع الأمنية المقبلة. ما يعني أنه من الصعب رؤية استمرار الحكومة الحالية حتى نهاية ولايتها القانونية، إلا إذا طرأ حدث كبير، بمعنى حرب، تلزم جميع الأطراف بسحب الحسابات الحزبية، تحت ذريعة "المسؤولية الوطنية".
والآن على الأغلب ستتجه الأنظار بقدر أقوى إلى المستشار القانوني للحكومة، بشأن قراره حول توصية الشرطة، منذ 9 أشهر، بتقديم نتنياهو للمحاكمة في قضيتي فساد. فيما من المحتمل أن تصدر الشرطة توصياتها بشأن ملف الفساد الثالث، المسمى "ملف 4000"، في غضون أسابيع قليلة.
نشير هنا إلى أن نتنياهو قاد في الأيام الأخيرة معركته على الائتلاف في ظل استطلاعات أجمعت كلها على أن معسكر الكتل الذي شكل حكومة نتنياهو، حتى استقالة ليبرمان، سيعزز قوته الإجمالية، من 66 مقعدا، إلى 70 وأكثر. وسيحافظ حزب الليكود على مقاعده الـ 30، كما أن تحالف "البيت اليهودي" قد يضيف لنفسه عدداً قليلاً لمقاعده الثمانية الحالية.
وحسب هذه الاستطلاعات، فإن الضربة القاصمة ستكون لتحالف "المعسكر الصهيوني"، الذي قد يخسر نصف مقاعده الـ 24 الحالية. وإذا ما تحقق هذا، فإن الخاسر الأكبر سيكون حزب العمل التاريخي.
المصطلحات المستخدمة:
المستشار القانوني للحكومة, قانون حل الكنيست, الكتلة, كاخ, كديما, الليكود, الكنيست, نائب وزير, بنيامين نتنياهو, نفتالي بينيت