المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

لا تبذل وزيرة العدل في الحكومة الإسرائيلية الحالية، أييلت شاكيد، ممثلة عن حزب "البيت اليهودي" اليميني المتدين، أي جهد في إخفاء أو طمس أو حتى تلطيف رفضها، بل عدائها، الإيديولوجي ـ السياسي لنهج المحكمة العليا بكونها الهيئة الأعلى في الجهاز القضائي ـ الذي تتولى شاكيد مسؤولية مباشرة عنه، بحكم منصبها هذا ـ في دولة تعتبر نفسها ديمقراطية تعتمد شرعة قوانين تضمن الحقوق الليبرالية.

ولا تفوّت هذه الوزيرة أية فرصة، منذ يومها الأول في منصبها هذا، لتأكيد هذا الخلاف/ العداء وتأجيجه، ثم للتوضيح بأنها مُصرّة على إنجاز ما تعتبره "تغييراً جوهرياً" ـ هو "الثورة المضادة"! ـ يتمثل في إحكام قبضة اليمين على الجهاز القضائي برمته، ليس فقط في تركيبة القضاة الشخصية في المحكمة العليا وإنما في منهجيات عملها أيضا، متذرعة بضرورة الحفاظ على مبدأ "الفصل بين السلطات" بما يضمن "القدرة على الحكم" (الحوكمة) للسلطتين التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (الكنيست) بكونهما "منتخبتين وتمثلان الشعب"، بعدما "استولت" السلطة القضائية (المحاكم عموما، والمحكمة العليا خصوصا)، غير المنتخبة وغير التمثيلية، على "مقاليد الحكم" من خلال "الثورة الدستورية" التي أحدثتها ابتداء من العام 1992، في إثر سن "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته" وما عمدت إليه المحكمة من تكريس للحقوق الفردية الليبرالية استنادا إلى هذا القانون وتفسيراتها القضائية له.

ليس من السهل الإشارة إلى تصريح واحد بعينه من جملة تصريحات كثيرة جدا أطلقتها شاكيد في سياق معركتها هذه وبهذا المعنى، منذ بدء توليها منصبها الوزاري الحالي. لكن، من أبرزها، مثلا، قولها إن "من يتحمل عبء المسؤولية وواجب تقديم التقارير (أي الحكومة والكنيست) هو الذي ينبغي أن يكون مخول الصلاحيات"!

ومؤخراً، أثارت شاكيد عاصفة جديدة أخرى من ردود الفعل الغاضبة حينما قالت إن "القضاة يواصلون، خطوة في إثر أخرى، فصل أنفسهم عن القوانين القائمة وأخذوا يعتبرون أنفسهم واضعي ومصممي القوانين المرغوب فيها. ومن كونها مسؤولة عن تفسير القانون، حولت المحكمة العليا نفسها إلى مسؤولة عن وضع وتصميم السياسات". ثم تطرقت شاكيد إلى احتمال اتخاذ المحكمة العليا قرارا يقضي بإلغاء "قانون القومية" الجديد، استجابة للالتماسات التي قدمت إليها ضده، فأطلقت تحذيراً قالت فيه: "إذا ما قررت المحكمة العليا أن قوانين الأساس أيضا هي قوانين غير محصنة من الرقابة القضائية، فسيكون ذلك بمثابة سلب الشعب حقه وقدرته على التأثير وإرساء القواعد الدستورية المناسبة، من خلال ممثليه المنتَخبين، في الكنيست والحكومة. وبهذا، سينهي الشعب مهمته ودوره في ما كان معروفا حتى اليوم بأنه نظام ديمقراطي في إسرائيل"!

وانتقدت شاكيد، في خطاب ألقته ضمن "مؤتمر القضاء" الذي عقدته نقابة المحامين في مطلع شهر أيلول الجاري، عدم اتخاذ المحكمة العليا قراراً فورياً يقضي برفض وشطب جميع الالتماسات المقدمة إليها ضد "قانون القومية"، لكونه "قانون أساس"، وقالت إن سلوك المحكمة العليا هذا "يجعل الشعب عديم الأهمية والجدوى ويُفقده أي دور في الهيكلية الدستورية الجديدة التي تصممها وتشكّلها المحكمة العليا"! واعتبرت شاكيد أن "العملية التي تتعرض لها دولة إسرائيل خلال العقود الأخيرة تحدث تغييرا جوهريا بعيد الأثر في بنية الحكم فيها. هذا النهج سيقودنا نحو الانتقال من سلطة الشعب إلى سلطة "مجلس حكماء القانون" (على غرار "مجلس حكماء التوراة"!)، ومن النظام الديمقراطي إلى حكم الفلاسفة"!

وخلصت شاكيد إلى إطلاق تحذير غير مسبوق في لهجته التهديدية الصريحة نحو المحكمة العليا وقضاتها، فقالت: "إن سلب الشعب صلاحيته في تحديد طابع دولته تحت مسميات مختلفة يهدم قاعدة العملية الديمقراطية. فمن شأن التضحية بالمبادئ والأسس القومية على مذبح القيم الكونية أن تنتهي إلى التضحية بالمبادئ والقيم والأسس الديمقراطية نفسها"! وأضافت: "إذا ما مارست المحكمة العليا الرقابة القضائية على قانون أساس (أي قانون القومية عينياً) فسيكون هذا بمثابة هزة أرضية، لا قضائية فحسب بل سياسية أيضا. إنه زلزال سيضرب مبنى الحكم وسيشعل حرباً بين السلطات المختلفة (التنفيذية والتشريعية والقضائية)"!!

هذه التصريحات، بما تضمنته من تحذيرات ولهجة تهديدية صريحة مباشرة تصدر عن وزيرة العدل المسؤولة المباشرة عن الجهاز القضائي والمحاكم، أثارت ـ كما ذكرنا ـ عاصفة من ردود الفعل الغاضبة والمنددة، لم تقتصر على خصومها السياسيين ـ الحزبيين في المعارضة البرلمانية فقط، بل تعدتها إلى عدد من أبرز الحقوقيين والقضائيين في إسرائيل، ممن رأوا فيها "إعلان حرب شعواء على المحكمة العليا والجهاز القضائي برمته، بل على النظام الديمقراطي كله في دولة إسرائيل".

فرئيسة المحكمة العليا السابقة والنائبة العامة للدولة سابقا، دوريت بينيش، وصفت هذه التصريحات بأنها "تجاوز لخطوط حمراء" لأنها تتضمن "أقوالاً خطيرة جداً، ومتطرفة لم أسمع مثيلا لها من قبل وهي لا تعكس واقع نظام الحكم الحقيقي في إسرائيل".

وقالت بينيش إن ما ورد في تصريحات الوزيرة شاكيد "هي تعابير ديماغوغية مستوحاة من أنظمة حكم أخرى، مختلفة، وتعبر عن قصور حاد في فهم ماهية الديمقراطية ومعانيها".

ورفضت بينيش ما وصفته بـ "الحديث الديماغوغي الرامي إلى بث التحريض" عن "هيمنة المحكمة العليا على الكنيست أو استيلاء المحكمة العليا على إرادة الشعب". وقالت: "ربما كانت كلمة تحريض كلمة حادة وخطيرة، لكن ما معنى هذه المحاولة لإحداث شرخ بين المحكمة وبين الشعب؟".

وقال قاضي المحكمة العليا المتقاعد والمستشار القانوني للحكومة سابقا، البروفسور إسحاق زامير، إن "إسرائيل لم تشهد هجوما فظا وخطيرا كهذا على المحكمة العليا من قبل". وتساءل: "من الذي سيدافع عن المحكمة والجهاز القضائي إذا كانت وزيرة العدل هي التي تقود هذا الهجوم الكاسح؟". ثم أضاف: "القضاة لا يعيقون الحوكمة. الوزير الذي يتصرف بحكمة وبصورة لائقة يكون قادرا على الحكم... إذا كانت الحوكمة تعني التسيب والانفلات فعندئذ نعم من واجب المحكمة العليا أن تقف في وجهها وتمنعها... على كل مواطن أن يعي أن لا صلاحيات لدى الحكومة سوى ما خولها القانون من صلاحيات وإلا فهي حالة من الفوضى أو من الدكتاتورية". وتساءل زامير: "هل يقرر الوزير شخصيا ما هي الصلاحيات التي يحددها له القانون؟ هذا ما يحصل في الأنظمة التوتاليتارية، لا في الأنظمة الديمقراطية".

وفي وقت سابق، هذا العام، كان رئيس المحكمة العليا السابق أهارون باراك ـ "المتهم" بأنه "قائد الثورة الدستورية"ـ قد تطرق في مقابلة صحافية إلى الحرب الإيديولوجية ـ السياسية المتواصلة التي يشنها اليمين الإسرائيلي وقادته، في الحكومة والكنيست وخارجهما، ضد الجهاز القضائي وفي مقدمته المحكمة العليا، مشيرا إلى أن "إسرائيل تشهد في الفترة الأخيرة توجها يبرز بصورة أساسية في أوساط القيادات السياسية يقوم على الاعتقاد بأن القوة تتفوق على الحاجة إلى فهم الآخرين وتفهمهم وعلى الحاجة إلى البحث عن نقاط الاتفاق والتوافق". وأضاف: "إن القيادة السياسية الحالية تسترشد بمبدأ حق القوة، لا قوة الحق. إنها قيادة عنيفة تفتعل صدامات وخلافات بين شرائح السكان المختلفة ـ بين اليهود والعرب، بين الحريديم وغير الحريديم".

وأكد باراك أن "المحكمة العليا الإسرائيلية تعتمد درجة عالية من ضبط النفس والرقابة الذاتية، لكن المشرّع (الكنيست) والمنفِّذ (الحكومة) أيضا ملزمان بضبط النفس وبالرقابة الذاتية. لا يجوز للمشرّع فعل كل ما يستطيع أن يفعل. عليه أن يفهم أنه يعيش في مجتمع مركب ومعقد، مجتمع أسباط كما وصفه رئيس الدولة، وعلى المشرع أيضا أن يبدي اهتماما واعتبارا كافيين ولائقين بالفرد، بالأقليات وبكل من لا يتفق معه". وأضاف: "للأسف الشديد، لا تتعامل سلطات الحكم لدينا ـ وخاصة السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية ـ مع الأقلية العربية بصورة لائقة مبنية على التفهم والاحترام".

ورأى باراك أن "استخدام القوة من جانب القيادة السياسية يشكل تعبيرا واضحا عن انعدام الثقة بالنفس، تعبيرا عن انعدام الثقة بقوتها وبقوة كلماتها وأفكارها. وتفتقر القيادة السياسية الحالية إلى الثقة بأنها قادرة على الإقناع، ولذا فبدلا من محاولة الإقناع، تلجأ إلى استخدام القوة. ليس في هذا سوى دليل على انعدام الثقة والإيمان بنفسك وبطريقك".

وعن التذرع بالحوكمة والقدرة على الحكم لشن هجوم تلو الآخر على المحكمة العليا وتعميق الإجراءات العملية لإحداث تغييرات جوهرية في بنيتها وأدائها، قال باراك إن "الحوكمة ليست إلا كلمة نظيفة تُستخدم للتغطية على أعمال وتصرفات مخالفة للقانون". وأضاف: "هذه ذريعة للتنصل من واجب الامتثال للقوانين والانصياع لقرارات قضائية تصدر عن المحاكم. لكن في اللحظة التي نصل فيها إلى عدم تنفيذ قرارات المحكمة العليا، فعندئذ نكون قد وصلنا إلى نهاية الديمقراطية. ليس إلى بداية نهايتها، وإنما إلى نهايتها الفعلية والحقيقية".

 

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, باراك

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات