أثيرت مجددا قضية مخزون المياه في إسرائيل، على ضوء التراجع الحاد في مخزون المياه الطبيعية، في ظل شح الأمطار في السنوات الأخيرة، وتزايد أعداد السكان.
وكانت إسرائيل قد تلمست أزمة المياه لديها منذ نهاية سنوات التسعين ولاحقا، وتلكأت كل الحكومات في اقرار مشاريع لإقامة محطات تحلية مياه، لمختلف الأسباب، منها ارتفاع الكلفة، أو الأضرار المتوقعة للطبيعة، نتيجة عمل هذه المحطات. وبعد جدل دام سنوات توجد حاليا خمس محطات تحلية لمياه البحر، ولكنها لم تعد تكفي للمستقبل القريب.
وكانت إسرائيل تعتمد حتى قبل ثلاثة عقود بدرجة كبيرة على مياه بحيرة طبريا، التي كانت تضمن ما بين 25% وحتى 30% من احتياجات المياه في البلاد كلها، لكن منذ مطلع سنوات التسعين بدأ مستوى المياه في البحيرة يتراجع بوتيرة عالية، وفي غالب سنوات العقود الثلاثة الأخيرة تكون البحيرة أقل من مستوى المياه المحدد لها، بما بين 3 أمتار وحتى ما يلامس 5 أمتار، ما يهدد البحيرة لاحقا بالجفاف، أو بارتفاع نسبة الملوحة فيها، رغم أنها تتميز بكونها بحيرة مياه عذبة. كذلك فإن مخزون المياه في الآبار الجوفية، إن كان في جبال الشمال ومنطقة القدس، أو الجبال القريبة من الساحل، تراجع هو أيضا في السنوات الأخيرة، وفي عدد منها توقف سحب المياه.
ويقول تقرير للمجلة الشهرية لصحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية، إن التراجع في مخزون مياه بحيرة طبريا ساهم فيه أيضا تراجع مستوى المياه في نهر الاردن، من منابعه في سورية ولبنان، ومن أبرز مسببات هذا شح كميات الثلوج السنوية على جبل الشيخ، الذي كانت ترتفع الثلوج على قمته في موسم الشتاء إلى 10 أمتار، وعند سفوحه إلى 5 أمتار، بينما في السنوات الأخيرة فإن كميات الثلوج أبعد بكثير مما ذكر.
وقد احتد الجدل بشكل خاص في سنوات التسعين، بعد مطالبات عدة بإقامة محطات تحلية. وفي أوج ذلك الجدل، جرى الحديث أيضا عن امكانية استيراد المياه من تركيا، إما عبر أنبوب ضخم تحت سطح البحر، أو حتى نقل المياه عبر سفن عملاقة. ولكن هذه المشاريع لم تخرج إلى حيز التنفيذ، وفي المقابل تزايدت في السنوات الأخيرة مشاريع تكرير المياه العادمة، وتحلية المياه المالحة من الآبار الجوفية، اضافة إلى خمسة مشاريع لتحلية مياه البحر. وحسب التقرير ذاته، فإن 26% من المياه هي من محطات تحلية مياه البحر، و23% من تكرير المياه العادمة، و14% من تحلية مياه مالحة، درجة ملوحتها أقل من مياه البحر، وهي عادة في آبار جوفية.
ويقول تقرير مجلة "ذي ماركر" إنه حسب توقعات سلطة المياه الإسرائيلية، فإنه حتى العام 2040، ستكون 70% من المياه المستهلكة في إسرائيل مياها "صناعية"، بمعنى ليست من مخزون المياه الطبيعي، وهذا بحد ذاته بدأ يطرح أسئلة جدية في دوائر الحكم ذات الشأن، وأيضا لدى مختصين. ومن بين أبرز الأسئلة المطروحة مدى تأثير هذا على صحة الجمهور، وعلى جودة البيئة، وصولا إلى سعر كلفة المياه.
وتضيف المجلة أنه على الرغم من أن هذه الأسئلة مطروحة منذ زمن، لم يجر حتى الآن بحث معمق لتقديم الأجوبة. كذلك وعلى الرغم من أن الجفاف بات يضرب فإن إسرائيل قادرة حتى الآن على سد الحاجة من الماء، ولكن ما هو ضروري الآن الاستعداد إلى ما هو أسوأ في المستقبل.
ويقول الباحث الرئيسي في سلطة المياه الإسرائيلية أوري شاني إن هناك ثلاثة أسباب تقود إلى ضرورة تطوير قطاع المياه "المصنّعة".
السبب الاول لا يحتاج إلى حكمة زائدة، كما يقول، وهو أن عدد السكان في تزايد دائم. ونشير هنا إلى أن أحد الأسباب المركزية التي سرّعت في كشف أزمة المياه، هو أنه بالتزامن مع تراجع كميات الأمطار السنوية في سنوات التسعين، تدفق على إسرائيل مليون مهاجر اضافي، شكلوا زيادة تتجاوز 20%، مقارنة مع ما كان عليه عدد السكان حتى نهاية العام 1989، اضافة إلى الزيادة الطبيعية للسكان في تلك المرحلة، بمعنى حوالي 2ر2%. بمعنى آخر فإن عدد السكان ارتفع خلال عقد واحد من الزمن بأكثر من 40%.
كما نشير أيضا إلى أن التقرير في "ذي ماركر" يتعامل مع عدد السكان داخل إسرائيل دون ذكر ملايين أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة وقطاع غزة، الذين يتوجب على الاحتلال ضمان تزويدهم الكامل بالمياه، أسوة بجوانب حياتيه أخرى، وذلك وفق القوانين والأعراف الدولية.
والسبب الثاني الذي يذكره شاني هو التغيرات المناخية، ويقول "إن البحر الأبيض المتوسط يجف، وكل المنطقة التي تحد المنطقة الصحراوية المحيطة تعاني هي أيضا من اتساع التصحّر، وبوتيرة عالية، وإسرائيل تتابع هذه الظاهرة بدقة. فإذا ما تتبعت تدفق كميات المياه في الوديان والأنهر التي لا يؤثر على تدفقها الانسان، ستجد أنها في حالة تراجع دائم منذ 30 عاما، بسبب تراجع كميات الأمطار السنوية".
وردا على مسألة تراجع كميات الأمطار، يقول مدير عام سلطة المياه غيورا شوحم، من الخبراء البارزين في مجال المياه، وفق تعريف المجلة له، إنه لا توجد في منطقة البحر الابيض المتوسط، وتيرة تغييرات مناخية واضحة، لذا ليس من المستبعد أن يكون ما يجري في السنوات الأخيرة، هو نتاج تأرجحات عابرة في المناخ، تتكرر كل عدة سنوات.
ويرى شوحم أن زيادة استهلاك المياه لا تعود فقط إلى ارتفاع عدد السكان بوتيرة عالية، وليس بسبب زيادة المناطق المزروعة، وإنما أيضا بسبب مشاريع تخزين المياه في سورية والأردن، مثل السدود على نهر اليرموك، فهذا ساهم في تقليل تدفق المياه في الوديان.
والسبب الثالث حسب شاني لاتساع الحاجة للمياه المصنّعة، هو عدم وجود ضوابط لاستهلاك المياه، في مختلف المستويات. ويقول: "كلهم يعرفون أننا نتجه نحو أزمة، وكلهم يفهمون أنه من دون قيود على قطاع المياه، فإننا سنصل إلى نقص في المياه المطلوبة، وما يجري هنا يجري في كل العالم، بما في ذلك العالم المتطور، إذ لا توجد إدارة ناجعة لقطاع المياه". ويضيف أن قطاع المياه يدار في كل العالم وفق مبدأ الكميات ودعم الأثمان، وإذا لم تكن للمياه أثمان لا يوجد سبب في العالم يدفع نحو النجاعة في استخدام المياه وفي إعادة تكريرها.
ارتفاع أسعار المياه بسبعة أضعاف
لكن ما يقوله شاني بشأن أسعار المياه لا يسري على إسرائيل، وهو يعترف بهذا بقوله إن العالم لم يعرف كيف يرفع أسعار المياه، ربما بسبب ضغوط سياسية، بينما إسرائيل بالذات عرفت كيف تفعل هذا. والقصد في كلام شاني هو أن حكومات إسرائيل في سنوات الألفين جعلت من المياه، هذه المادة الاساسية للحياة، سلعة ربحية.
وكان الزعم الأول هو محاربة الاستهلاك المفرط بالمياه. وبموجب سياسات وضعتها حكومة أريئيل شارون، منذ مطلع 2003 وحتى نهاية 2005، وتولى وزارة المالية فيها بنيامين نتنياهو، فقد جرى بداية رفع أسعار المياه باستمرار، ابتداء من العام 2005، وحتى نهاية العام 2009. وفي العام التالي 2010، جرى نقل صلاحيات إدارة شبكات المياه ومحاسبة المستهلكين من المجالس البلدية والقروية إلى شركات حكومية مناطقية، كل واحدة منها توجد فيها عدة مدن وبلدات، وكانت الذريعة تخفيف العبء عن الحكم المحلي، الذي بغالبه غارق في أزمات مالية، ولكن تاليا تبين أن هذه الخطوة أتاحت فرض ضريبة المشتريات (ضريبة القيمة المضافة) على أسعار المياه، ما جعل أسعارها تقفز بوتيرة عالية، وحتى هذه الأيام تضاعفت أسعار المياه قرابة سبع مرات عما كانت عليه حتى مطلع العام 2005. وهذا يتعلق فقط بالكمية الأساسية للعائلة، وهي 5ر3 كوب مياه شهريا لكل فرد في العائلة، وإذا زاد الاستهلاك عن الحد المسموح به فإن سعر كوب المياه يرتفع بنسبة 75% فورا.
ويرى كثيرون أن جزءا كبيرا من رفع الأسعار جاء لتمويل مصاريف الاتحادات التي أقيمت ابتداء من العام 2010، ولهذا بدأت تتزايد المطالبات بإغلاق هذه الشركات الحكومية أو تقليص عددها، من أجل تقليص أعداد موظفي الطواقم الإدارية.
الانتقال إلى تصنيع المياه
يقول شاني إنه على مدى سنوات طويلة عارضت وزارة المالية، ومعها المزارعون، اقامة محطات لتحلية المياه، أو لتكرير المياه العادمة لغرض الزراعة، تخوفا من ارتفاع كلفة المياه. وشرعت إسرائيل في السنوات الأخيرة في اقامة خمس محطات تحلية، والعديد من محطات تكرير المياه العادمة.
ويضيف شاني: "عمليا توقفنا عن الارتباط التام بالمناخ، وضمنا بذلك 100% من حاجتنا للمياه". ويقول إن إسرائيل دولة مميزة، لكون 80% من المياه العادمة يتم تكريرها، وتحل في المرتبة الثانية، وبعيدة جدا عنها بالنسبة المئوية، اسبانيا، التي تكرر 17% من المياه العادمة. ويقول إن العالم لا يوظف ميزانيات كافية وجهدا كافيا لتطوير شبكات المياه، وبحسبه فإن مدينة لندن تفقد 40% من كميات المياه المتدفقة على المدينة بسبب سوء البنية التحتية لشبكة المياه، بينما مدينة سيدني الاسترالية وظفت مليارات الدولارات من أجل تخفيض نسبة خسارة المياه من 25% إلى 15%. أما في إسرائيل و"بفضل شركات المياه الحكومية المذمومة، فإن نسبة خسارة المياه في إسرائيل هي 8%" بحسب تعبير شاني.
وكما ذكر، تعمل في إسرائيل حاليا خمس محطات لتحلية مياه البحر، وتنتج سنويا 600 مليون متر مكعب، بينما تخطيط المحطة السادسة في الشمال يتشوش، بسبب خلاف مع القرية التعاونية شومرات (كيبوتس)، إذ أن المحطة ستكون على الارض التي تسيطر عليها. ويقول مسؤول آخر في سلطة المياه، الكسندر كوشنير، إن التقديرات السابقة توقعت أن يكفي عمل هذه المحطات لـ 10 وحتى 15 عاما، حتى تكون هناك حاجة لمحطات جديدة. إلا أنه مع استمرار تراجع كميات الأمطار، باتت هناك حاجة لزيادة الطاقة الانتاجية لهذه المحطات، اضافة إلى انشاء محطات أخرى. وأشار إلى أن هناك عدة مخططات جاهزة، والمطلوب فقط سحبها من الأدراج ووضعها على الطاولة لغرض التنفيذ.
ويقول تقرير "ذي ماركر" إن كلفة انتاج متر مكعب واحد من التصنيع يتراوح ما بين 1ر2 إلى 1ر3 شيكل، في حين أن كلفة استخراج المياه من المخزون الطبيعي تتراوح ما بين 6ر1 إلى 2 شيكل للمتر المكعب الواحد. ونشير هنا إلى أن سعر المتر المكعب الواحد للمستهلك البيتي، وفق التسعيرة الأولى لكمية الحد الأدنى، تصل إلى 35ر8 شيكل للمتر المكعب، ويرتفع السعر إلى 4ر14 شيكل عن كل متر من الاستهلاك الزائد.