المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أظهر التقرير الدوري لمكتب الاحصاء المركزي الإسرائيلي، الصادر في مطلع الشهر الجاري تشرين الثاني، حول تدريج البلدات الاقتصادي الاجتماعي ككل، أن شريحة صغيرة جدا تعد من الشرائح الميسورة، في حين تزداد أوضاع المتدينين المتزمتين "الحريديم" سوءا، بفعل نسب التكاثر العالية ونمط حياتهم التقشفية، وباتوا "ينافسون" الفقراء العرب على قاع سلم التدريج.

ويظهر من التقرير أن غالبية البلدات العربية ارتفع تدريجها، ولكن نسبة جدية من هذه التغيرات تعود إلى ادراج بلدات "الحريديم" في المراتب الدنيا، اضافة إلى تراجع معدلات الولادة لدى العرب، وإلى تراجع نسبي في معدلات البطالة.

وأصدر مكتب الاحصاء التدريج بناء على معطيات العام 2013، وكان قد أصدر تقريرا مماثلا قبل خمس سنوات بناء على معطيات العام 2008، علما أنه في ما مضى كانت وتيرة التقارير أعلى. وأعلن المكتب أنه ابتداء من الآن، سيتم اصدار التقرير مرة كل عامين. ويشكّل هذا التدريج مرتكزا لسلسلة من السياسات، وبشكل خاص لتحديد شكل توزيع الميزانيات الاجتماعية، وميزانيات دعم البنى التحتية. إلا أنه على أرض الواقع فإن هذه القرارات تحكمها سياسات الحكومات المتعاقبة، وخاصة حكومات بنيامين نتنياهو الثلاث الأخيرة، بما فيها الحالية، وفي صلبها التمييز ضد العرب الذين هم أشد فقرا.

وعلى الرغم من أن البلدات الأفقر هي البلدات العربية، إلا أنه جرى استثناؤها من المناطق ذات الأفضلية، التي يتم تحديدها أيضا بناء على هذا التدريج. وحتى قرار المحكمة العليا في السنوات القليلة الماضية، الذي دعا الحكومة إلى ضم البلدات العربية، لم يحسّن الوضع في هذه البلدات العربية، إذ واصلت الحكومة اشتراط الميزانيات "التفضيلية"، بموجب شروط تبقي البلدات العربية عاجزة عن تحقيقها، بفعل سياسة الخنق والتمييز.

فعلى سبيل المثال، تكون البلدات العربية مطالبة بإعداد خرائط هيكلية، تتضمن مطالب تطوير مثل اقامة مناطق صناعية وعمل، ومساحات أراض لإقامة مبان ومرافق عامة، إلا أن الخرائط الهيكلية تبقى لسنوات طوال في وزارة الداخلية، وأقسام التنظيم، إلى درجة أن ما فيها لا يعود يفي بالغرض. كما أن ضيق مناطق النفوذ وقلة الأراضي، يمنع تنفيذ مشاريع بنيوية، وبالتالي فإن الميزانيات المخصصة لهذه المشاريع تبقى على الورق، ليتم شطبها بعد عام أو أكثر وتتحول إلى فائض في ميزانية الوزارة ذات الشأن.

ويستند التدريج إلى سلسلة من المعطيات في كل واحدة من البلدات، بدءا من العامل الديمغرافي، ونسب التكاثر، ومعدل الأفراد في العائلة الواحدة، ومعدل المدخول للفرد في عائلته، ونسب البطالة، ونسبة السكان الذين يعتمدون على مخصصات ضمان الدخل، ومخصصات اجتماعية أخرى، ويضاف إلى هذا حجم البنى التحتية وغيرها من العوامل في التجمع السكاني، التي تنعكس على المستوى المعيشي العام.

ملامح في التدريج

يتم تقسيم التدريج إلى عشر مراتب، بناء على الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية والعوامل السابق ذكرها. والدرجات الثلاث الأولى هي الأدنى، بحيث تكون الدرجة الأولى الأشد فقرا، والدرجة الثالثة "الأفضل وضعية" في دائرة الفقر. والدرجات من الرابعة وحتى السابعة هي مراتب الشرائح الوسطى، بحيث أن الرابعة هي الأدنى والسابعة هي الأعلى من الشريحة الوسطى. والشريحة الثامنة وحتى العاشرة تبقى للشرائح الميسورة والثرية. وحسب قراءة صحيفة "ذي ماركر" فإن 64% من السكان يعيشون في بلدات مستوى المعيشة فيها من المعدل المتوسط وما دون.

وفي قراءتنا للجداول، يظهر أن في الشريحة العاشرة الأكثر ثراء تتواجد بلدتان صغيرتان "سفيون" (3500 نسمة) وكفار شمارياهو (1700 نسمة) في منطقة تل أبيب، بمعنى أن عدد المواطنين الساكنين في أكثر البلدات ثراء بلغ 5200 نسمة. بينما في التدريج السابق من العام 2008 كانت هناك ثلاث بلدات، إذ تراجعت بلدة عومر في شمال النقب، وفيها قرابة 7300 نسمة.

أما المرتبة التاسعة، التي هي أيضا تعد من البلدات الأكثر ثراء، فكانت فيها بلدات ومدن، في غالبيتها الساحقة بلدات صغيرة، وأكبرها مدينة رمات هشارون، التي فيها أقل من 44 ألف نسمة، تليها بلدة شوهم التي فيها أقل من 20 ألف نسمة. ويسكن في هذه البلدات أكثر من 107 آلاف نسمة.

والمرتبة الثامنة، التي تعد الأولى "الدنيا" من البلدات الميسورة، فيها 38 بلدة ومدينة كلها يهودية، وغالبيتها الساحقة تقع في منطقة تل أبيب الكبرى، وتبدأ المرتبة بمدينة تل أبيب بحيث هي "الأضعف" في هذه المرتبة، ويسكنها أكثر من 417 ألف نسمة. ونجد أيضا مدينة هرتسليا في موقع متقدم، وفيها قرابة 90 ألف نسمة، وتسبقها مستوطنة "موديعين مكابيم ريعوت"، التي فيها أكثر من 85 ألف مستوطن، علما أن هذه المستوطنة التي تقع ثلث مساحتها في أراضي الضفة المحتلة منذ العام 1967، لا تعد مستوطنة في التعريفات الإسرائيلية. وبلغ عدد السكان في بلدات ومدن المرتبة الثامنة، مليون و18 ألف نسمة. من ضمنهم لا أكثر من 35 ألف عربي في مدينتي يافا أساسا وتل أبيب.

في المرتبة السابعة، التي تعد من حيث أوضاعها الاقتصادية الاجتماعية الأعلى في الشرائح الوسطى، نجد 32 بلدة كلها بلدات ومدن يهودية، وبضمنها مستوطنات في الضفة. وأبرز المدن في هذه المرتبة مدينة حيفا، وتضم المرتبة أيضا مدنا بارزة، اضافة إلى مستوطنات صغيرة في منطقة موديعين، ومستوطنتي "إلكانا" و"بيت آرييه"، وكلها في الضفة، ومستوطنة مفؤوت حرمون في الجولان السوري المحتل. ويبلغ عدد السكان في هذه المرتبة 272ر1 مليون نسمة، وباستثناء 35 ألف عربي تقريبا هم في حيفا فإن الباقي يهود.

وفي ملخص المراتب الأربع العليا الميسورة، نجد أن عدد المواطنين 4ر2 مليون نسمة، من بينهم 33ر2 مليون نسمة يهود، وهم يشكلون قرابة 40% من سائر اليهود، بموجب إحصاء العام 2013.

العرب والحريديم في قاع الفقر

كما ذكر، فإن الجديد في قاع الفقر هو تدهور جميع مدن وبلدات ومستوطنات المتدينين المتزمتين "الحريديم". ففي المرتبة الأولى "الدنيا" والأشد فقرا، نجد أكبر مستوطنتين في الضفة، مغلقتين على هذا الجمهور، وهما "موديعين عيليت" جنوب رام الله، التي كان فيها قبل ثلاث سنوات، أكثر بقليل من 60 ألف مستوطن، وحسب التقديرات، فإن عددهم حاليا أكثر من 72 ألف مستوطن. وتليها مستوطنة "بيتار عيليت"، غربي مدينة بيت لحم، وكان يستوطن فيها 45 ألف مستوطن عام 2013، واليوم قرابة 52 ألف مستوطن، نظرا للتكاثر "الطبيعي" الذي يصل إلى 8ر3%، الناجم عن معدل ولادات في حدود 7 ولادات للأم الواحدة، اضافة إلى التدفق على هذه المستوطنات من مناطق أخرى، خاصة من مدينة القدس، بفعل أسعار بيوت أقل، وامتيازات أكبر للمستوطنين، إلى جانب اغراء قرب المستوطنات هذه إلى مدينة القدس، مركز نشاطهم الديني الأساس.

ونجد أنه حيث تكون أعلى نسبة للحريديم في المدن والبلدات المختلطة، من حيث الشرائح اليهودية، فإن مدينتهم تكون أيضا في المراتب الدنيا، مثل مدينة بني براك، في منطقة تل أبيب الكبرى، وفيها قرابة 200 ألف نسمة غالبيتهم الساحقة من الحريديم، إذ أنها باتت في الدرجات الدنيا، في المرتبة الثانية الفقيرة.

وخلافا لأوضاع العرب، فإن الفقر لدى الحريديم نابع أساسا من عوامل ذاتية، وأولها نمط حياتهم التقشفي، وامتناع الغالبية الساحقة من رجالهم (60%) عن الانخراط في سوق العمل، من منطلقات دينية، وهم يعتاشون على المخصصات الاجتماعية الحكومية، وإلى جانب كل هذا، ارتفاع أعداد الأولاد القاصرين، دون سن 18 عاما في العائلة الواحدة.

ويشكل الحريديم اليوم نسبة ما بين 12% إلى 13% من إجمالي المواطنين، وحوالي 16% من إجمالي اليهود. وحسب التقديرات البحثية والرسمية، فإنهم قد يشكلون في العام 2035 ثلث اليهود الإسرائيليين، وهذا ما يقلق المؤسسة الإسرائيلية، نظرا لتكاثرهم السريع.

ورغم ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه في مجتمع الحريديم، المغلق بمعظمه على نفسه، يدور ما يسمى بـ "الاقتصاد الأسود"، بمعنى ميزانيات ضخمة تتدفق كتبرعات وتمويلات من الخارج عليهم، وهي بعيدة عن سجلات سلطة الضريبة، وهذه الأموال تدير مؤسسات تعليمية ودينية، يتقاضى فيها العاملون رواتب نقدية. وكون هذه المداخيل ليست مسجلة رسمية، فإنها لا تظهر في تقديرات القدرات المالية لعائلاتهم.

أما العرب فإن بلداتهم ما تزال تغوص في قاع مراتب الفقر، وهذا نابع أساسا من سياسة التمييز العنصري التي تطال جميع جوانب الحياة، وبشكل خاص في قضايا الأرض والمسكن، وفي جوانب التعليم والعمل، وبعد هذا سياسة تقسيم الموارد والميزانيات، التي يواجه فيها العرب غبنا كبيرا مستمرا منذ 7 عقود.

ففي المرتبة الأولى الأفقر 13 بلدة، اثنتان كما ذكر هي مستوطنتا الحريديم السابق ذكرهما، و11 بلدة عربية كلها في صحراء النقب، وبضمنها مجلس إقليمي يضم عدة قرى صغيرة. ويبلغ عدد العرب في تلك البلدات حوالي 162 ألف نسمة، حسب احصائيات العام 2013، وهؤلاء شكلوا في حينه أقل من 12% من إجمالي العرب في إسرائيل، من دون القدس المحتلة ومرتفعات الجولان السوري المحتل.

والمرتبة الثانية تبعد بفارق هامشي عن إجمالي الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية البائسة في المرتبة الأولى، وفيها 40 مدينة وبلدة ومجلسا اقليميا، من بينها 26 تجمعا عربيا، و3 مجالس اقليمية عربية تضم قرى صغيرة. كذلك هناك قريتان من مرتفعات الجولان السوري المحتل. ومجموع العرب في مرتبة القاع الثانية، حسب احصائيات 2013، بلغ ما يزيد عن 396 ألف نسمة، وشكلوا في ذلك العام 7ر28% من إجمالي العرب.

وفي المرتبة الثالثة، التي تبقى أفضل نوعا ما في دائرة الفقر من المرتبتين الأولى والثانية، نجد 36 تجمعا سكانيا، من بينها 24 تجمعا سكانيا عربيا، و8 تجمعات يهودية، في غالبيتها للحريديم، وقريتين سوريتين. وبلغ عدد العرب في تلك البلدات 438 ألف نسمة، وشكلوا في حينه 32% تقريبا من إجمالي العرب.

وما يراد قوله هنا إن 5ر72% من المواطنين العرب في إسرائيل، من دون القدس والجولان المحتلين، يعيشون في بلدات فقيرة، ومنها ما هو في فقر مدقع، في حين أن قرابة 40% من اليهود يعيشون في البلدات والمدن الأكثر ثراء. ولو تعاملنا مع الاحصائيات الإسرائيلية الرسمية، بمعنى ضم أهالي القدس والجولان إلى هذه الاحصائيات، لارتفعت نسبة العرب الذين يعيشون في دائرة بلدات الفقر.

والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فالنسبة المتبقية من العرب تعيش بغالبيتها الساحقة (20%) في المرتبة الرابعة، وهي المرتبة الدنيا للشرائح المتوسطة. وفي المرتبة الخامسة لم نجد سوى قرية فسوطة التي فيها أقل من 3 آلاف نسمة، وفي المرتبة السادسة نجد قريتي الجش ومعليا، في كل واحدة منهما 3 آلاف نسمة. بمعنى أن 9 آلاف عربي يعيشون في ثلاث بلدات في متوسط الشرائح المتوسطة، ويشكلون نسبة 65ر0% (أقل من 1%). ونشير هنا إلى أن قرابة 7% من العرب يعيشون في مدن فلسطينية تاريخية، باتت ذات أغلبية يهودية، ومستوى المعيشة فيها عال، لكن الأحياء العربية غارقة بالفقر، مثل يافا واللد والرملة وعكا، ثم حيفا.

ورغم ذلك وجدنا أن 48 تجمعا سكانيا عربيا، يعيش فيها قرابة 614 ألف نسمة، قد تحسنت أوضاعها نسبيا عما كان في التقرير السابق قبل 5 سنوات، في حين أن 29 بلدة يسكنها 491 ألف نسمة ساءت أوضاعها.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات