المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في تشرين الأول 1995 جرت المظاهرة إياها في "ميدان صهيون" في قلب مدينة القدس. وحتى لو حاولوا إعادة صياغة الذاكرة التاريخية البائسة، وحتى لو أرادوا التمثيل عليكم بتخصص يتفرد به فنانو التزوير، على شاكلة نتنياهو وترامب، وحتى لو حاولوا تمويه الحقائق وطمسها بأية وسيلة، إلا أنه لا مهرب في نهاية الأمر من مواجهة الحقيقة المرّة: في تلك المظاهرة، شارك أيضا متظاهرون دعوا، صراحة وجهاراً، إلى قتل (إسحاق) رابين.

مقابل منصة الوجهاء، وقف آلاف المتظاهرين القلقين حقا. كانوا يخشون العمليات التفجيرية التي ضربت مدن دولة إسرائيل مرات عديدة منذ نيسان 1994. وكانوا يخشون انسحاباً إسرائيلياً من أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة. كما كانوا مرعوبين من مجرد التفكير بقيام دولة فلسطينية مستقبلية. كانت تلك تخوفات إنسانية، وكان الخوف مفهوماً وكان الاحتجاج عميقاً وحقيقياً. ومجرد تنظيم المظاهرة كان عملا شرعياً، فقد شعر اليمين الإسرائيلي بأن الأرض تهتز تحت أقدامه. فالاعتراف بحق الفلسطينيين في تقرير المصير بدرجة معينة (رغم أن الحديث لم يكن صريحاً عن قيام دولة فلسطينية) في أجزاء من أرض إسرائيل التاريخية كان ينطوي على صدام حاد وقوي مع مركّبات أساسية عميقة في هوية أشخاص كثيرين.

غير أن جزءا غير قليل منهم كان يصرخ جهاراً: "بالروح بالدم، سنطرد رابين"، "رابين خائن" و"الموت لرابين". هكذا بصراحة وبساطة، بوضوح وحزم. ومع كل الاحترام لرغبتنا في التذاكي والتلوي وطرح تفسيرات استعارية، ليس ثمة هنا أي مجال للتفسير: كان ثمة متظاهرون في "ميدان صهيون" دعوا، بصريح العبارة، إلى قتل رئيس الحكومة (السابق) إسحاق رابين.

نعم، كان البعض منهم يعتمر الطاقيات الدينية. لكن كلا ـ ليس التيار الديني الصهيوني كله هو الذي قتل رابين. هذا مجاف للحقيقة كثيرا. بعضهم تأثر بأقوال حاخامين كانت تنضح كراهية قومجية وتعصباً دينياً، بينما معظم الحاخامين لم يكونوا يحرضون على المسّ برابين. لكن بعضهم، يا للهول، تداول مسألة "حُكم المُسلِّم" و"حُكم الُمطارِد" بجدية مذهلة يستعصي سبر أغوارها ["حُكم المسلِّم"/ "دين موسير" ـ هو مصطلح من الشريعة اليهودية مصدره "التلمود" يشكل فتوى تبيح قتل من يتسبب بتسليم شخص يهودي أو ممتلكات يهودية إلى طرف غير يهودي. و"حُكم المُطارِد" / "دين روديف" ـ مصطلح من الشريعة اليهودية مصدره "التلمود" يشكل فتوى تبيح قتل شخص يتآمر على، أو يخون، شخصاً آخر أو يعرّض حياته لخطر محقق]. ويبدو أن بعض هؤلاء قد أصدر فتاوى دينية تبيح، صراحة، إهدار دم رئيس الحكومة ووزير الدفاع. كان بعضهم من المتدينين، فيما كان آخرون من العلمانيين.

بعد فترة قصيرة، نُظم في قلب تل أبيب اجتماع شعبي تأييداً لحكومة رابين ـ بيريس تحت عنوان: "نعم للسلام، لا للعنف". وقد تحدث فيه رابين وقال، بوضوح، إن العنف والتحريض يؤديان إلى تآكل أسس الديمقراطية وركائزها. لم يكن يعرف كم كان صادقاً. ففي المساء ذاته تم اغتياله. وتحديداً في العاشرة إلا ربعاً من مساء السبت، الرابع من تشرين الثاني 1995. تزلزلت الأرض، ليس في إسرائيل وحدها فقط. العالم بأسره أصيب بالصدمة. وبعد ست سنوات على ذلك، كنت في ناد ليلي في باريس وتحدثت إلى شابة من دولة أفريقية نائية. وحين عرفت أني من إسرائيل، قالت لي على الفور: لا يمكن أن تصدّق كم بكيت عندما قُتل رابين. وصدّقتُها.

وعودة إلى "ميدان صهيون" في القدس: على منصة الخطباء، اصطف قادة اليمين الإسرائيلي. كانوا قلقين. أرادوا إحداث انقلاب في السلطة. قرأوا استطلاعات الرأي العام وأدركوا جيداً أن الجمهور الإسرائيلي الذي أيّد اتفاقيات أوسلو، بأغلبية، قد بدأ بالانعطاف يميناً على خلفية العمليات التفجيرية التي ضربت البلاد (للتذكير، وقعت هذه العمليات بعد المجزرة التي نفذها باروخ غولشتاين في قلب الحرم الإبراهيمي في الخليل في شباط 1994). بعض استطلاعات الرأي بيّنت أن نتنياهو يتفوّق، بأغلبية ضئيلة، على رابين. وبدأ رئيس المعارضة الشاب، ابن الـ 46 عاماً، يشتم رائحة الانقلاب المحتمل. بنظرة إلى الوراء، يبدو أن هذه الرائحة قد دفعته إلى التصرف بصورة هوجاء، دونما قيود.

من على منصة الخطباء، كان بالإمكان سماع الأصوات ورؤية المَشاهد، على نحو واضح تماما. ليس مؤكداً أن جميع الخطباء انتبهوا إلى صورة رابين بزيّ ضابط نازيّ، والتي رُفعت بين الجمهور (كان الأمر، كما يبدو، بمبادرة أو بتشجيع على الأقل من عميل "جهاز الأمن العام" ـ الشاباك ـ أفيشاي رفيف، الذي تم زرعه في بعض خلايا اليمين المتطرف التي نفذت اعتداءات عنيفة ضد الفلسطينيين). وليس مؤكداً أن هؤلاء قد سمعوا كل الشتائم أو التهديدات التحريضية التي تعالت من بين الجمهور. ولكن لم يكن من الممكن تفويت الصرخات الهستيرية، المتواترة والجماهيرية "بالدم والنار سنطرد رابين"، "رابين خائن" و"الموت لرابين" وعدم التقاطها.

قادة اليمين النزيه غادروا منصة الخطباء: رؤوفين ريفلين، د. بنيامين زئيف بيغن ودافيد ليفي. أولئك الذين بقوا على المنصة ولم يحركوا ساكنا للجم صرخات التحريض سيذكرهم التاريخ بالخزي أبد الدهر: المرحومان أريئيل شارون ورحبعام زئيفي والمُغتصِب موشيه كتساب. ونعم بنيامين نتنياهو أيضا.

ما هو اليمين النزيه؟

هل يستطيع المعسكر الاشتراكي ـ الديمقراطي الآخذ في الانكماش في إسرائيل تحديد معسكر يميني نزيه، عبر بخار التحريض العلني والصريح المتصاعد من ديوان رئيس الحكومة ـ ضد المواطنين العرب الذين يتدفقون في الباصات، ومنظمات حقوق الإنسان التي تجرؤ على تذكيرنا بالدكتاتورية العسكرية القاسية تجاه ملايين الفلسطينيين في الضفة، ومدير منظمة "بتسيلم" الذي تجرأ على مطالبة شعوب العالم بمساعدة إسرائيل والفلسطينيين على إنهاء لعنة السيطرة العسكرية في الضفة، وأوساط في الإعلام تتجرأ على نقد نتنياهو وكذلك أوساط سياسية مختلفة من الوسط واليسار الإسرائيليين تتجرأ على تحدي سُلطة القيصر من قيسارية [نتنياهو]؟

هل يستطيع المعسكر المدني الذي يعتقد بأن الحكم العسكري الإسرائيلي في الضفة الغربية هو كارثة، انطلاقا من تقديسه مبادئ الديمقراطية الليبرالية ـ وهو معسكر آخذ في التقلص والانكماش في إسرائيل ـ العثور على حلفاء له لحوار ثاقب، لكن نزيه، في الجانب الآخر من الخارطة السياسية ـ الحزبية؟ أم كُتب علينا العيش في واقع يتراوح بين التحريض الصادر عن قطيع المنافقين المتملقين المثيرين للشفقة السائرين خلف نتنياهو، من شاكلة (دافيد) بيتان و(ميري) ريغف و(أوفير) أكونيس وبين التحريض المباشر والصريح من قبل نتنياهو نفسه؟ أي في واقع يتراوح بين الانقضاض الشخصي على صحافيين ارتكبوا الخطيئة الفظيعة بانتقاد القيصر وبين التحريض الموجَّه ضد منظمات المجتمع المدني التي تسعى إلى الدفاع عن حقوق الإنسان والمواطن لنا جميعاً (بصرف النظر عن آرائنا السياسية، الاعتقال الإداري بحق ناشط من اليمين المتطرف مرفوض ليس أقل من الاعتقال الإداري بحق مواطن فلسطيني. الفارق، بالطبع، هو أن الأمر بالنسبة للفلسطينيين يمثل نهجاً روتينياً كجزء من نظام القمع والاضطهاد العسكري، ولذا نجد في أية لحظة عينية مئات، وأحيانا آلاف، الفلسطينيين المُخضَعين للاعتقال الإداري من دون أن يحظوا بإجراءات قانونية منصفة في إطار القانون الجنائي ومن دون أن يعرفوا، أصلا، حقيقة التهمة الموجهة إليهم، بينما هي اعتقالات إدارية محددة، عينية ونادرة جدا بالنسبة لنشطاء اليمين المتطرف).

الجواب يبقى إيجابيا، في رأيي، على الرغم مما يخيّم عليه من علامات استفهام مثيرة للقلق. فثمة يمين نزيه ومنصف في إسرائيل. وثمة يمين نزيه ومنصف في دول ديمقراطية أخرى أيضا.

اليمين النزيه هو يمين قومي ـ ليبرالي. وتمثل حركة الليكود بحسب التعريف- رغم أنه يبدو كنكتة سخيفة في عهد نتنياهو- "حركة قومية ـ ليبرالية". أي هي معسكر يولي أهمية قصوى لـ"تقرير مصير القومية اليهودية في إطار دولة قومية يهودية" تتمتع برموز السلطة اليهودية: علم الدولة، شعار الدولة، التقويم العبري، اللغة العبرية كلغة مركزية، اسم البرلمان (كنيست)، اسم العملة الرسمية (شيكل) ومضامين جهاز التعليم التي تتمحور حول التاريخ اليهودي والإسرائيلي، إلى جانب التزام صريح بمساواة المواطنين العرب في الحقوق السياسية.

لم يكن صدفة، إذن، أن تعارض حركة "حيروت" برئاسة مناحيم بيغن نظام الحكم العسكري الذي فرضته حكومة "مباي" على حياة الفلسطينيين مواطني دولة إسرائيل حتى العام 1966. وقد عارض بيغن نظام الحكم العسكري حتى خلال العام 1949، أي في المرحلة التي خفتت فيها حدة معارك "حرب الاستقلال" [حرب 1948] وقبل أن تخمد تماما ونهائيا، ثم كان بعد "حرب الاستقلال" من قادة الخط الديمقراطي ـ الليبرالي الذي عارض، بشدة، تقليص حقوق أساسية للمواطنين العرب، مثل حرية الحركة والتنقل وحرية التظاهر.


كما عارض بيغن، أيضا، بكل قوته وطوال فترة طويلة، استخدام الاعتقالات الإدارية في داخل دولة إسرائيل. ونظراً لأن عددا من أعضاء حركة "حيروت" قد تعرضوا للسجن دون محاكمات، بأوامر اعتقال إداري غداة قيام الدولة، فقد شعر بيغن بصورة شخصية بمدى عسف حكم الأغلبية ومدى السهولة التي يستطيع فيها هذا الحكم دوس حقوق الأقلية والفرد.

اليمين النزيه هو اليمين الذي يفهم جيداً أن الديمقراطية الجوهرية ليست حكم الأغلبية فقط (حكم الأغلبية هو ليس غير تعبير عن الديمقراطية الشكلية الضيقة) وإنما هي أيضا، وبشكل أساسي في بعض الأحيان، حماية الحقوق الأساسية الدستورية للأقلية وللفرد.

وفي هذا السياق، يمكن التساؤل باستغراب: كيف تتماشى رؤية اليمين الليبرالي النزيه مع الرغبة في مواصلة السيطرة العسكرية، التي تدوس حقوق الإنسان الأساسية، على حياة ملايين الفلسطينيين مسلوبي المواطنة ومسلوبي الحق في إقامة دولة وطنية خاصة بهم في الضفة الغربية وغزة، منذ حزيران 1967 وحتى اليوم؟

إنه تناقض داخلي صارخ ومُحزن في عقيدة أعضاء اليمين الليبرالي والنزيه: فمن جهة، هم يعارضون عسف الأغلبية حيال الأقلية ويحاربون من أجل تحصين حقوق الأقلية والفرد في وجه تعدّيات الأغلبية وحكمها. لكن هذا يسري في داخل دولة إسرائيل فقط. وهذا هو منبع النقد الشديد الذي توجهه بقايا اليمين الليبرالي إلى نهج بنيامين نتنياهو الأرعن والأهوج (الحديث يدور اليوم، بصورة أساسية، عن رئيس الدولة رؤوفين ريفلين وعضو الكنيست بيني بيغن، فيما كان يشمل في السابق، أيضا، الوزيرين السابقين ميخائيل إيتان ودان مريدور وإلى حد ما الوزير دافيد ليفي أيضا). لكنهم، من جهة أخرى، يلوذون بالصمت المطبق حيال الادعاء الذي يطرحه اليسار بشأن عدم القدرة على الاحتفاظ بنظام ديمقراطي معقول وحمايته طالما بقي يصون حقوق الإنسان والمواطن في داخل حدود دولة إسرائيل السيادية، من ناحية، فيما يعمق الدكتاتورية العسكرية الصارمة التي تحمل بعض علامات الفصل العنصري (الأبارتهايد) بين مئات آلاف المستوطنين الإسرائيليين وملايين الرعايا الفلسطينيين في الضفة الغربية، من ناحية ثانية.

يتصدى بعض ممثلي اليمين الليبرالي لهذه الانتقادات الموجهة إليهم من جانب اليسار: بيني بيغن، على سبيل المثال، يؤكد أهمية الحكم الذاتي الذي ينبغي منحه للفلسطينيين في الضفة الغربية ("عرب يهودا والسامرة"، حسب تعبيره). لكن هذا كلام فارغ في رأيي. ليس من الواضح عن أي حكم ذاتي يتحدث شخص عارض، بشدة، اتفاقيات أوسلو (وهي اتفاقيات إشكالية جدا في نظري) التي منحت جزءا من الفلسطينيين في الضفة الغربية حكما ذاتيا جزئيا، منقوصا، إشكاليا ومُجزّأ في مساحات متقطعة على طول أجزاء من الضفة الغربية.

يبدو أنه بالرغم من نزاهته المعهودة، استقامته الشخصية ورغبته الصادقة في ضمان حقوق الإنسان والمواطن لجميع مواطني دولة إسرائيل السيادية، يجد د. بيغن صعوبة في الاعتراف بالحقيقة المُرّة التي مفادها أن منظوره بشأن استمرار سيطرة دولة إسرائيل على الضفة الغربية من دون منح الفلسطينيين المواطنة الإسرائيلية يعني، في المحصلة، مواصلة سلب ملايين الفلسطينيين حقوق الإنسان الأساسية، من خلال دكتاتورية عسكرية صارمة ـ وهي حقيقة تحوّل الجيش الإسرائيلي، على مدى خمسين عاما، وبالضرورة، من "جيش دفاع" إلى جيش احتلال يعاني من تدمير أخلاقي متعدد الأشكال والجوانب.

ولا يتطرق د. بيغن، أيضا، إلى حقيقة أن استمرار الدكتاتورية العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية ـ رغم وجود حكم ذاتي لجزء من الفلسطينيين في جوانب معينة، تحت حكم السلطة الفلسطينية الضعيف، المجزأ ومعدوم التواصل الجغرافي ـ يعني، أيضا، تعميق وتكريس الواقع ذي المميزات الأبارتهادية: بيغن الإبن يؤيد، مثل أبيه، تكثيف الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية. ومعنى هذا، كما هو معروف، مئات آلاف من المستوطنين اليهود الذين يتمتعون بحقوق الإنسان والمواطن التي تضمنها لهم الديمقراطية الإسرائيلية، بينما إلى جانبهم ملايين الرعايا الفلسطينيين الخاضعين للدكتاتورية العسكرية الإسرائيلية (ونعم، هناك جوانب معينة وجزئية من الحكم الذاتي التي لا ينبغي الاستهانة بها، لكنها لا تنطوي على مكانة مدنية وعلى ضمان حقوق المواطن الكاملة).

خلافا لبيغن الإبن، يخطو رئيس الدولة ريفلين ووزير الدفاع السابق موشيه آرنس خطوة أخرى إضافية: فقد دلت بعض تصريحاتهما في الماضي على أنهما يدعوان إلى ضم الضفة الغربية وعلى استعدادهما المستقبلي لمنح الفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية حقوق مواطنة متساوية. ورؤيتهما هذه قد تتساوق، إذن، مع رؤية بعض أوساط اليسار غير الصهيوني بشأن دولة مواطنة ديمقراطية واحدة، إسرائيلية ـ فلسطينية، من البحر إلى النهر. ولكن، خلافا لهؤلاء من اليسار غير الصهيوني، لم يفصح ريفلين أو آرنس، بصورة واضحة، صريحة، منهجية وحازمة، عما إذا كان مقصدهما الحقيقي هو منح الفلسطينيين في الضفة الغربية، دون أي قيد أو شرط، كامل حقوق المواطنة المتوفرة لجميع المواطنين الإسرائيليين. وأي تصريح لا يكون واضحاً وصريحاً وحازماً في هذا السياق، يكون معناه العملي الحقيقي مواصلة تكريس وتخليد نظام يحمل بعض مميزات الأبارتهايد (رغم كونه، بالتأكيد، أقل صرامة ووطأة من نظام الأبارتهايد الفظيع في جنوب أفريقيا، والذي كان ينطوي في بعض الأحيان على مميزات شبه نازية).

في مقابل هؤلاء، هناك ممثلون عن اليمين الليبرالي هجروا فكرة أرض إسرائيل الكاملة. هؤلاء يؤيدون، صراحة، إقامة دولة وطنية فلسطينية في الضفة الغربية إلى جانب الدولة القومية اليهودية (الملتزمة، من طرفهم، بمنح مواطنيها العرب حقوق المواطنة الكاملة، دون تحفظ). أبرز هؤلاء، بالطبع، هو الوزير السابق ميخائيل إيتان، الذي صاغ في السابق وثيقة مشتركة مع د. يوسي بيلين بهذه الروح وعبّر عن تأييده الصريح لإقامة دولة فلسطينية، في الماضي غير البعيد. ومن هؤلاء، أيضا، وزير المالية والعدل والاستخبارات السابق دان مريدور الذي شارك حتى، برفقة إيهود باراك، في المفاوضات التي منيت بالفشل مع ياسر عرفات، في تموز 2000. ومنهم، أيضا، شخصية ولدت لأبوين مشهورين من أعضاء "إيتسل" (الإرغون ـ "المنظمة العسكرية القومية في أرض إسرائيل")، ترعرعت في الليكود، وأصبحت وزيرة عن هذا الحزب، وانتقلت إلى "كديما"، وأقامت حزب "الحركة" ("هتنوعا") وتحتل اليوم موقعاً قيادياً في تحالف "المعسكر الصهيوني"، لكنها ليست عضوا في حزب "العمل"ـ تسيبي ليفني. ويجدر بنا أن نضيف إلى هؤلاء، أيضا، الوزير وعضو الكنيست السابق مئير شطريت.

اليمين الليبرالي النزيه: الرفاه والشرقيون

اليمين الليبرالي النزيه يفهم جيدا، أيضا، أنه من غير الممكن ترك الطبقات المستضعفة تحت رحمة صدقات الخصخصة المحمومة. وعلى العكس التام من التوجه الوحشي والمدمر الذي يتبناه نتنياهو ونفتالي بينيت وأييلت شاكيد في هذا الشأن، فقد تحدث كل من الوزير السابق دافيد ليفي (هو بوجه خاص)، الرئيس ريفلين، الوزير السابق إيتان، الوزير السابق موشيه يعلون والوزير السابق دان مريدور، مرات عديدة، عن ضرورة الدمج بين مبادئ الاقتصاد الحر والحاجة إلى تأمين قاعدة للرفاه الاجتماعي لكل مواطن في الدولة.

والصحيح أن العقيدة الشهيرة لمؤسس اليمين الإسرائيلي، زئيف جابوتنسكي، كانت تحمل في طياتها اعترافا صريحا بواجب الدولة في ضمان حقوق أساسية، في المجال الاجتماعي وفي متطلبات الحد الأدنى من العيش الإنساني، لكل مواطن. وإلى جانب كلامه الصريح عن مساواة الحقوق الديمقراطية التي ينبغي ضمانها لكل مواطن عربي في الدولة اليهودية المستقبلية، أدرك جابوتنسكي أن الاقتصاد الحر ليس بمثابة غابة البقاء فيها للقوي، بينما يُرمى الضعيف في الشارع. وقد تحدث جابوتنسكي، بوضوح تام، عن واجب الدولة في توفير رفاهية أساسية لكل مواطن. ويبدو هذا ضرباً من الخيال في دولة نتنياهو التي ليس ممكنا فيها حتى الحلم بتوفير شقة سكن بدون والدين ثريين أو بدون جدة تورث شقة للسكن، لكن عقيدة اليمين الليبرالي لم تتضمن توجهاً وحشياً يستغل فيه القوي الضعيف ويذل فيها الغني الفقير. ثمة في الليكود، أحيانا، مخلفات لهذه الروح. إنهم قلائل، حقا، لكن يجدر التذكير بهم: الوزيرة غيلا غمليئيل و... نعم، بيني بيغن، مرة أخرى.

ونقطة أخرى أخيرة عن اليمين النزيه: رغم الجوانب الديماغوغية الكثيرة التي ميّزته، ورغم فشل رئيس الحكومة مناحيم بيغن، بمعان كثيرة، في توفير حياة أفضل وأكثر كرامة لمئات الآلاف من الإسرائيليين ذوي الأصول المشرقية الذين منحوه أصواتهم، إلا أنه من الجدير التنويه بأنه قد فتح أبواب حزبه لمئات الشبان الشرقيين الموهوبين من بلدات التطوير ومن الأحياء الفقيرة، ونمّى مشاعر الفخر والتعاضد بين مئات الآلاف من الذين لاقوا معاملة مذلّة، بل مخزية أحيانا، من جانب حزب "مباي" وأحسن دمج قادة شرقيين احتلوا مواقع قيادية أمامية في الليكود.

نذكر من هؤلاء دافيد ليفي، مئير شطريت، موشيه كتساب (الذي تبين فيما بعد أنه مُغتصِب خسيس) في عهد مناحيم بيغن وإسحاق شمير، ثم إسحاق مردخاي (الذي أدين لاحقا، هو أيضا، بارتكاب مخالفات جنسية، رغم أن الاغتصاب لم يكن من بينها) وشاؤول عمور في حكومة نتنياهو الأولى، ثم سيلفان شالوم في حكومة أريئيل شارون (شالوم استقال بسبب شبهات بارتكاب مخالفات جنسية، لكنه لم يُقدم إلى المحاكمة في نهاية الأمر)، غيلا غمليئيل الموهوبة والبارزة في حكومة نتنياهو الحالية، ميري ريغف (رغم أنها، في رأيي، قائدة عنيفة، قومجية، بل عنصرية، لا تخدم النضال الشرقي وإنما تهتم، أساسا، بنفسها وبمصلحتها الشخصية من خلال التملق الرخيص لمراكز القوة برئاسة بنيامين وسارة نتنياهو) ومجموعة من رؤساء البلديات الشرقيين الممثلين عن الليكود ـ هؤلاء، جميعا، يجسدون فكرة أن اليمين الإسرائيلي استطاع، غير مرة، دمج قادة شرقيين، ناجحين أو غير ناجحين، نزيهين أو غير نزيهين، عدوانيين وقومجيين أو معتدلين نوعا ما، من خلال توفيره مساحة للتغيير الاجتماعي (لكن المحدود جدا في المحصلة)، كما يعبرون عن تشكيلة الأصوات الشرقية التي تم إقصاؤها إبان حكم "مباي".

من الواضح أن هذا كله لا يغير شيئا من حقيقة أن السياسة الاقتصادية التي قادها نتنياهو خلال جزء كبير من العقدين الأخيرين قد عمقت معاناة كثيرين من الإسرائيليين، في مقدمتهم أولئك من الطبقات المستضعفة، وبينهم شرقيون كثيرون جدا.

في هذه الأيام المظلمة، بالذات، والتي يحلق فيها عالياً قادة يؤسسون دعايتهم على التحريض الفظ ضد المهاجرين، الأقليات، القوى الليبرالية، وسائل الإعلام (التحريض، خلافا للنقد المحق تجاه قطاعات من وسائل الإعلام) ومنظمات حقوق الإنسان والمواطن ـ على غرار دونالد ترامب في الولايات المتحدة، رجب طيب أردوغان في تركيا، فلاديمير بوتين الذي أعاد روسيا لتكون دكتاتورية في كل شيء تقريبا، مارين لوبان الخطيرة في فرنسا، خِيرت فيلدرز الصاعد بقوة في هولندا، سيلفيو برلسكوني الذي أصبح ماضيا في إيطاليا لكنه خلف وراءه تصدعات عميقة، وبنيامين نتنياهو في إسرائيل بالطبع ـ في هذه الأيام القاسية بالذات، يجدر بنا أن نتذكر أن المعسكر الاشتراكي ـ الديمقراطي، وإلى جانبه المعسكر الليبرالي ـ الديمقراطي، مُلزمان وقادران على إجراء حوار (بل تعاون في بعض الأحيان) مع قوى ليبرالية عميقة موجودة في أوساط اليمين.

صحيح أن هذه القوى آخذة في التناقص والتراجع في دولة إسرائيل وأن الليكود يبدو اليوم حزبا يمينيا قومجيا يحمل مميزات سابقة للفاشية. ولكن ينبغي أن نتذكر أن خط الصدع الذي يقيمه نتنياهو ليس بين يمين ويسار، بل بين مَن ينتجون حالة التخويف والمطاردة الشمولية، التي تستمد إيحاءاتها من أنظمة فاشية غابرة ومن أنظمة شيوعية سالفة، وبين مَن يريدون إجراء نقاش ديمقراطي، تعددي ومتعدد الأصوات، من خلال الحرص على صون حقوق الإنسان والمواطن لنا جميعا. وثمة عدد غير قليل من مؤيدي اليمين يعتبرون شركاء لهذا التوجه.
____________________________________

(*) محام إسرائيلي متخصص في القانون الجنائي. نشر هذا المقال على موقع "هعوكتس"/ "اللسعة" الإسرائيلي بالعبرية يوم 16 تشرين الثاني الجاري.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات