المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

"جلستُ أمام محمود عباس (أبو مازن) وقلت له: نحن مستعدون للتنازل عن السيادة في البلدة القديمة... ومن ضمن ذلك حائط المبكى (البراق)... تلك كانت اللحظة الأصعب في حياتي"- هذا ما كشف عنه رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، إيهود أولمرت، في سياق مقابلة مع الصحافي رفيف دروكر ضمن سلسلة من برامج "همكور (المصدر)" التي تبثها محطة القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي (تشرين الثاني 2015).

وقد أجريت وعُرضت ضمن هذه السلسلة مقابلات مع عدد من كبار المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين والأميركيين الذين كان لهم دور ومشاركة فاعلة في المفاوضات حول التسوية الدائمة مع منظمة التحرير الفلسطينية في فترة حكومتي إيهود باراك (1999-2001) وإيهود أولمرت (2006 - 2009).

ويُستدل مما جاء في تلك المقابلات أنه طرأ منذ رؤية إسحاق رابين للتسوية الدائمة في العام 1995 تراجع عميق في المواقف التي عرضها مندوبو إسرائيل في المفاوضات، في حين ظلت مواقف الفلسطينيين على حالها بل وازدادت تطرفا.

وقد اتضح مرة تلو الأخرى أن مطالب الفلسطينيين لا تنتهي بدولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، على الأقل لغاية الآن، وبالتالي لم يلتقِ الطرفان في مسار أو أفق سياسي مشترك.

إن مثل هذا الأفق السياسي يمكن أن يُدشّن مستقبلاً فقط إذا ما طرأ تغيير على هذا التوجه أو الموقف الفلسطيني.

هذا المقال يتناول المسألة ذاتها استنادا إلى الشهادات التي عُرضت في سلسلة البرنامج المذكور، وإلى معلومات إضافية مكملة للصورة.

ويتضمن المقال تحليلا لـ "الزحزحة" التي طرأت على مواقف إسرائيل لجهة الاقتراب من مواقف الفلسطينيين، كما يتضمن تفسيرا لأسباب الفشل في التوصل إلى اتفاق دائم، وتحليلا للإمكانات المتاحة حاليا أمام إسرائيل.

الزحزحة في مواقف إسرائيل لجهة مواقف الفلسطينيين في المفاوضات

عرض رئيس الحكومة (الراحل) إسحق رابين أمام الكنيست في الخامس من تشرين الأول 1995 رؤيته للتسوية الدائمة مع الفلسطينيين، وذلك على النحو الآتي: "نحن نرغب في أن يكون هناك كيان (فلسطيني) أقل من دولة يتولى إدارة حياة الفلسطينيين الخاضعين لسلطته بصورة مستقلة. حدود دولة إسرائيل بعد التوصل إلى التسوية الدائمة ستكون ما وراء الخطوط التي كانت قائمة قبل حرب الأيام الستة (حرب حزيران 1967). لن نعود إلى خطوط الرابع من حزيران 1967. وتلك هي أهم التغييرات – ليس كلها – كما نراها ونرغب بها في ظل التسوية الدائمة: في المقام الأول القدس الموحدة والتي تشمل أيضا (مستوطنة) معاليه أدوميم و(مستوطنة) جفعات زئيف... تكون الحدود الآمنة للدفاع عن دولة إسرائيل في منطقة غور الأردن، وذلك وفق المعنى أو التفسير الأوسع لهذا المفهوم. كما تشمل التغييرات ضم (مستوطنات) غوش عتصيون، إفرات، بيتار ومستوطنات أخرى... يتعين (علينا) أن نقيم أيضا كتلا استيطانية، في يهودا والسامرة (الضفة الغربية)... نحن ذاهبون إلى طريق جديد ربما يقودنا إلى عهد السلام ونهاية الحروب...".

إن الحديث يدور هنا حول انسحاب إسرائيلي يصل إلى 70% من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، التي احتلت في حرب العام 1967.

وقد طرأ على رؤية رابين هذه تغيير ملموس في عهد حكومتي باراك وأولمرت.

ففي عهد حكومة باراك اقترحت إسرائيل في نطاق لقاء مع وفد فلسطيني عقد في إيلات (جنوب إسرائيل) في شهر نيسان عام 2000 إقامة دولة فلسطينية على حوالي 86% من ("المناطق")، التي ستنقل إلى ولاية الفلسطينيين ضمن مرحلتين (66% في المرحلة الأولى و20% في المستقبل)، فيما تقوم إسرائيل بضم الباقي (14%). في المقابل طالب الفلسطينيون بانسحاب كامل إلى خطوط الرابع من حزيران 1967 مع تبادل مناطق لغاية 4% وذلك بنسبة 1:1.

في محادثات قمة كامب ديفيد (الولايات المتحدة) التي عقدت في تموز 2000 اقترحت إسرائيل إقامة دولة فلسطينية على 92% من مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة، غير أن تلك المحادثات انتهت إلى الفشل، وحملت الولايات المتحدة وإسرائيل المسؤولية للرئيس الفلسطيني (الراحل) ياسر عرفات، الذي رفض أو تهرب من سائر المقترحات الإسرائيلية، ومن ضمن ذلك مبادرة رئيس الحكومة إيهود باراك، والتي وصفتها الولايات المتحدة بأنها مبادرة جريئة، لا سيما وأنها شملت للمرة الأولى موافقة على تقسيم القدس.

في المحادثات اللاحقة التي عقدت في طابا (مصر) في مطلع العام 2001، على أساس المبادرة التي عرضها الرئيس الأميركي بيل كلينتون في كانون الأول 2000، اقترح الوزير شلومو بن عامي على الفلسطينيين 95% من مساحة الأراضي (المحتلة) من العام 1967 وسيادة فلسطينية في المسجد الأقصى، كما حدد بن عامي أعداد اللاجئين الفلسطينيين الذين ستكون إسرائيل مستعدة لاستيعابهم. غير أن الفلسطينيين رفضوا بصورة عامة هذا الاقتراح الإسرائيلي. في الوقت ذاته، لم تظهر مسألة اعتراف الجانب الفلسطيني بإسرائيل كدولة يهودية كنقطة خلاف، بل كانت أمرا مفروغا منه بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة، كما يتضح ذلك في اقتراح الرئيس كلينتون والذي جاء فيه: "ينبغي للتسوية أن تتلاءم مع رؤية دولتين لشعبين، والتي وافق عليها الطرفان كطريق لإنهاء النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي: الدولة الفلسطينية كوطن للشعب الفلسطيني ودولة إسرائيل كوطن للشعب اليهودي".

في فترة حكومة أريئيل شارون، في صيف العام 2005 انسحبت إسرائيل بشكل أحادي الجانب من قطاع غزة، وأخلت أربع مستوطنات في شمالي الضفة الغربية. وقد برهنت هذه الخطوة على فكرة أنه يمكن أيضا تفكيك المستوطنات من دون اتفاق. وقد أشار الرئيس عرفات في مقابلة أدلى بها إلى صحيفة "هآرتس" في حزيران 2004، والتي تناولت أيضا خطة الانفصال (أحادية الجانب)، إلى أن مساحة المناطق التي يمكن تبادلها بين الجانبين ستقتصر على ما نسبته 2% إلى 3%، مما يشير إلى أن عرفات كان "يدرك بالتأكيد" وجوب المحافظة على الهوية اليهودية لدولة إسرائيل. وقد فسر المراسلون الذين أجروا المقابلة معه بقولهم "هذه هي المرة الأولى التي يعلن فيها عرفات الاعتراف بالهوية اليهودية لدولة إسرائيل، وهو أمر حرص على عدم القيام به حتى ذلك الوقت، وذلك تجنبا للمس بمكانة مواطني إسرائيل العرب".

في عهد رئيس الحكومة إيهود أولمرت وصلت "الزحزحة" في مواقف الجانب الإسرائيلي في المفاوضات إلى ذروتها، ابتداء من المواقف "المتقدمة" التي عرضتها إسرائيل في المفاوضات التي بدأت في مؤتمر أنابوليس (الذي عقد في واشنطن في تشرين الثاني 2007) وانتهاء باللقاء الشخصي الذي عقد بين زعماء الجانبين في أيلول 2008، والذي ذهب فيه أولمرت شوطا أبعد.

وقال أولمرت في مقابلة ضمن برنامج "همكور" إنه عرض في العام 2008 على الرئيس محمود عباس انسحابا إسرائيليا كاملا من أراضي الضفة الغربية مع تبادل لمناطق بنسبة حوالي 1:1 (3ر6% تضمها إسرائيل من أراضي الضفة الغربية مقابل 8ر5% تنقل كتعويض للفلسطينيين من الأراضي الواقعة على تخوم "الخط الأخضر" وتخصيص 5ر0% لصالح الممر الآمن بين الضفة الغربية وقطاع غزة)، فضلا عن استعداد أبداه أولمرت للتخلي عن السيادة الاسرائيلية في "الحي اليهودي" داخل القدس القديمة وفي حائط المبكى (لصالح سيادة دولية في منطقة ما يسمى بـ "الحوض المقدس" لمدينة القدس)، علما أن اقتراح الرئيس كلينتون (الذي عرض في كانون الأول 2000) نص على احتفاظ إسرائيل بهذه المناطق. إلى ذلك وافق أولمرت على التخلي عن التواجد العسكري الإسرائيلي في منطقة الأغوار مقابل تواجد قوة متعددة الجنسيات. غير أن أبو مازن رفض الاقتراح، ووافق على تبادل مناطق بنسبة 9ر1% فقط، وهي نسبة تبادل لا تتيح حلا لمسألة كتل المستوطنات، مثل كتلة "أريئيل" شمالي الضفة (مثلما يتضح أيضا من اقتراح الفلسطينيين في مؤتمر أنابوليس). وقدر أولمرت في مقابلة أدلى بها فيما بعد، أنه كان يمكن الاتفاق على تبادل يشمل ما نسبته 5ر4%.

في مسألة "حق العودة" وافق أولمرت على إعادة خمسة آلاف لاجئ إلى إسرائيل، كموقف أولي. هناك شهادة تقول إن صائب عريقات فهم أن أولمرت سيوافق على إعادة 50- 60 ألف لاجئ إلى إسرائيل، بينما توقع هو عودة 100- 200 ألف على الأقل. وروى أولمرت في مقابلة مع "همكور" أن أبو مازن قال له "إنه لا يريد المساس بطبيعة إسرائيل"، ومن هنا استنتج أن أبو مازن يعترف بإسرائيل كدولة يهودية، ولكن يبدو أن أبو مازن، كحال عرفات في الماضي، قصد فقط "تهدئة" الإسرائيليين فيما يتعلق بعدد اللاجئين الذين سيحظون بتجسيد حق العودة إلى إسرائيل.

في عهد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو

تبين للجمهور في إسرائيل أن الفلسطينيين يطالبون بإقامة دولتهم كدولة قومية للشعب الفلسطيني، إلا أنهم يرفضون الإعتراف بإسرائيل كما تم تعريفها في ("وثيقة الإستقلال") – الدولة القومية للشعب اليهودي – في الاتفاق الدائم. وعلى سبيل المثال، في ختام لقاء بين أبو مازن وأعضاء كنيست فلسطينيين – إسرائيليين عقد في رام الله في تشرين الأول 2010، قال نائب رئيس الكنيست محمد بركة: "أبو مازن والقيادة الفلسطينية يرفضان بصورة واضحة الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية وبفكرة تبادل السكان (في نطاق تبادل أراض في التسوية الدائمة). الاقتراح الإسرائيلي يشكل خطرا على أبناء شعبنا في مناطق 48 وخارج المناطق". وأضاف: "لو كانت القيادة الفلسطينية مستعدة للتنازل عن مبادئها، لكانت قد وقعت على اتفاق سلام منذ زمن بعيد". وقال إن هذا الأمر كان بمثابة رسالة تهدئة لـ "عرب اسرائيل".

عندما وجه رئيس الحكومة رابين رسالة لعرفات وقعت في أيلول 1993، اعترفت فيها إسرائيل بمنظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني، من المشكوك فيه إذا ما كان رابين نفسه وشمعون بيريس قد فهما أن منظمة التحرير ترى نفسها أيضا كممثل للفلسطينيين الإسرائيليين أمام دولة إسرائيل.

في مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز" نُشرت في شباط 2014 رفض أبو مازن مجددا الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، وقال: "هذا غير وارد في الحسبان". ويحظى موقفه هذا بتأييد واسع في صفوف الجمهور الفلسطيني. فوفقا لاستطلاع للرأي العام أُجري في شهر تموز 2015، عارضت أغلبية الفلسطينيين (54%) في الضفة وقطاع غزة الاعتراف المتبادل بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي وفلسطين كدولة للشعب الفلسطيني، وذلك بعد إقامة الدولة الفلسطينية وحل جميع المشاكل بما في ذلك اللاجئون والقدس.

كذلك فقد نشب خلاف بين زعماء الجانبين حول مسائل أخرى.

ففي نهاية العام 2014 صرح أبو مازن في مقابلة مع صحيفة "أخبار اليوم" المصرية قائلا: "نتنياهو قال لي: أنا أريد (المسؤولية عن) الأمن على الحدود الأردنية لأربعين عاما. تظاهرت بأنني لم أسمع وقلت له: كم؟! قال: أربعون عاما. قلت له مودعا: لنتصافح. وغادرت منزله قائلا: هذا احتلال، ومنذ ذلك الوقت لم أره...". ويطالب أبو مازن بانسحاب قوات الجيش الإسرائيلي من الضفة الغربية خلال خمس سنوات، وأن تتولى حماية الدولة الفلسطينية قوات دولية.

رئيس الدولة (الراحل) شمعون بيريس ادعى حصول انطلاقة في المفاوضات مع الرئيس عباس في العام 2011. وصرح في مقابلة مع محطة القناة الثانية في أيار 2014 قائلا: "توصلنا إلى تفاهم حول جميع النقاط وكان الأمر يحتاج فقط إلى إجمالٍ لما أتفق عليه"، لكن رئيس الحكومة نتنياهو فضل – حسب قوله – اقتراحا تقدم به طوني بلير. غير أنه لم تظهر دلائل على "الانطلاقة" الذي تحدث عنها بيريس، أو على ادعائه بأن أبو مازن وافق على الإعتراف بإسرائيل كدولة يهودية. كذلك لم يتم الاتفاق حول باقي القضايا الجوهرية، أو أنه لم يكن هناك أي تجديد حقيقي (تم الاتفاق على تبني صيغة – مبادرة - الجامعة العربية، والداعية إلى "حل مشكلة اللاجئين بصورة عادلة ومتفق عليها"). ونسب بيريس في المقابلة أهمية وشجاعة لقول أبو مازن في تشرين الثاني 2012، أنه لا يعتزم العودة للإقامة في مسقط رأسه مدينة صفد. ولكن هذا القول لم يشر إلى تغيير في موقفه، والذي مؤداه أن العودة إلى إسرائيل تتحقق بناء على رغبة كل واحد من ملايين الفلسطينيين في الشتات. غير أن نجل أبو مازن وحفيده أكدا في تموز 2015 أنهما يعتزمان العودة إلى "صفد - فلسطين"، وفي تشرين الثاني 2014 صرح أبو مازن قائلا: "يوجد 6 ملايين لاجئ يريدون العودة، وأنا واحد منهم".

يمكن القول في إجمال هذا الأمر، إنه وعلى الرغم من الزحزحة في موقف إسرائيل في أعوام 2001 - 2008، والتي بلغت ذروتها في عهد أولمرت، لم يتم التوصل إلى اتفاق دائم مع الفلسطينيين، فيما أضحت إسرائيل في موقف تفاوضي ضعيف جداً.

وفي الوقت الذي كان فيه حق الفلسطينيين في الحصول على دولة مستقلة في عهد رابين مسألة خاضعة للتفاوض، ولم تكن مسألة اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل كدولة يهودية مطروحة على بساط البحث، فقد أضحى حق الفلسطينيين في إقامة دولة لهم مسألة مفروغا منها في العالم، بينما أصبحت إسرائيل هي التي تكافح من أجل الحصول على اعتراف فلسطيني بهويتها كدولة يهودية. وانطلاقا من هذا الوضع الجديد، يحاول أبو مازن في السنوات الأخيرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة، بمعزل عن التوصل إلى تسوية دائمة، وذلك عن طريق ممارسة ضغط دولي على إسرائيل كي تنسحب من الضفة الغربية.

لماذا لم تسفر المفاوضات عن اتفاق دائم؟

لم تتجه مواقف الفلسطينيين نحو أفق سياسي متفق عليه، بل وابتعدت عن مثل هذا الأفق.

وقد تبين خلال المفاوضات أن أبو مازن لا يعترف بإسرائيل كدولة يهودية لأسباب مبدئية تتعلق بارتباط الشعب الفلسطيني بـ "أرض إسرائيل – فلسطين" الإنتدابية، وهذا الأمر له دلالات عميقة.

ويتغلب هذا الموقف المعارض على المصلحة في إقامة دولة مستقلة عن طريق التوصل إلى اتفاق دائم، كذلك يطالب الرئيس عباس بحق العودة لملايين اللاجئين الفلسطينيين وسط منح حق الاختيار لكل لاجئ إذا ما كان يرغب في "الهجرة" إلى إسرائيل أو الحصول على تعويض. ويصر ممثلو عباس في المفاوضات على عودة مئات آلاف اللاجئين إلى إسرائيل، وسط إعطاء أولوية للاجئين من المخيمات والمناطق التي تعاني من ضائقة، وفي مقدمة ذلك اللاجئون في مخيمات لبنان. إن تسوية مشكلة اللاجئين، وفقا لوجهة نظره، تعتبر شرطا لحل النزاع غير أن الأمور لم تبد كذلك بالنسبة إلى إسرائيل في اتفاقيات أوسلو.

هذه المواقف تعزز الانطباع بأن الفلسطينيين يرون في المفاوضات إستراتيجيا للحصول على تنازلات من إسرائيل، من دون التخلي نهائيا عن مواقفهم.

ووفقا لتقرير للصحافي ايهود يعاري، فقد صرح أبو مازن خلال محاضرة ألقاها في غزة في تموز 2002: "لقد ارتكبت إسرائيل أكبر خطأ في تاريخها عندما وقعت على اتفاق أوسلو.. لقد حصلنا في أوسلو على أرض دون مقابل، فيما ظلت قضايا الوضع النهائي مفتوحة للتفاوض".

في حزيران 2009، وفي مقابلة مع صحيفة "الدستور" الأردنية، ادعى صائب عريقات بأن إسرائيل تراجعت أصلا عن مواقفها خلال المفاوضات، وعليه فما الذي يدعو الفلسطينيين للإسراع (وتقديم تنازلات من أجل التوصل إلى اتفاق)؟! وقال عريقات موضحا: "أنظروا إلى أين أدت بنا المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي؟! في البداية قالوا (الإسرائيليون) إن لنا الحق في إدارة مستشفيات ومدارس، ثم أبدوا استعدادهم لإعطائنا 66% من مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي كامب ديفيد عرضوا علينا الحصول على 90%، ثم عرضوا مؤخرا في عهد أولمرت 100%. إذن ما الذي يدعونا إلى الإسراع بعد كل الظلم الذي لحق بنا، ففي كل الأحوال لن يتم التوصل إلى اتفاق مستقر، إلاّ اذا إرتكز مثل هذا الاتفاق على مبادئ العدل والقانون الدوليين؟".

لقد اتبع الجانب الفلسطيني أسلوبا منهجيا في إدارة المفاوضات، إذ تهرب كل من ياسر عرفات ومحمود عباس من المفاوضات بعدما عرض الجانب الإسرائيلي تقديم تنازلات كبيرة، وكان عليهما في المقابل تقديم تنازلات من طرفهما.

حاليا، لا يبدو أن هناك أي زعيم إسرائيلي يمكن له أن يقبل بهذه المواقف الفلسطينية، أو حتى بالحلول الوسط التي اقترحها أولمرت.

ولا بد من أن نضيف إلى ذلك الانعكاسات السلبية للهزة التي اجتاحت الشرق الأوسط على حيز الحلول. فهجرة اللاجئين من بعض دول المنطقة يمكن أن تقلص من استعداد دول الغرب لاستيعاب لاجئين فلسطينيين كجزء من التوصل إلى تسوية دائمة، كما أن انعدام الاستقرار إلى الشرق من إسرائيل سيجعل من الصعب على القادة الإسرائيليين التنازل عن ترتيبات أمنية موثوقة وطويلة الأجل في منطقة غور الأردن.

ويعزو الفلسطينيون السبب الرئيس في فشل المفاوضات إلى عدم إستجابة إسرائيل بصورة كافية لمطالبهم. ويبالغ الفلسطينيون في هذا السياق في الادعاء أن إسرائيل لم تطرح الاقتراحات المتقدمة سوى عندما بات رؤساء حكوماتها في مرحلة أفول سياسي (باراك من جراء انهيار إئتلافه الحكومي وأولمرت بسبب التحقيق في فضائح الفساد التي اتهم بها) وعندئذِ كان من الصعب على الجانب الفلسطيني القبول بها. يبدو أن الحديث يدور هنا عن سبب ثانوي في أهميته، إن كانت له أهمية أصلا، فضلا عن أن هذا الادعاء يعتبر أيضا سيفا ذو حدين فيما يتعلق بمكانة الرئيس عباس كشريك في المفاوضات، وذلك في ضوء ضعفه في المعسكر الفلسطيني.

من الواضح أن عرفات وعباس ذهبا إلى مفاوضات الاتفاق الدائم على مضض ودون رغبة.

ويستدل من شهادات المشاركين في المفاوضات أن قادة منظمة التحرير لم يبذلوا أي جهد بمبادرة من جانبهم، حتى حين كانت مكانة باراك وأولمرت السياسية قوية، بل أظهروا توجها رافضا ومراوغا إزاء المقترحات الإسرائيلية والأميركية. وبحسب ما صرح به أولمرت في نطاق مقابلات برنامج "همكور"، فقد سعى ابتداء من شهر أيلول 2006 إلى الالتقاء بأبو مازن خمس مرات، لكن هذا الأخير ظل يتهرب. مع ذلك فقد عقد لقاء بينهما (في العام 2008) بفضل مساعي أولمرت الحثيثة، لكن هذا اللقاء لم يكن مجديا في المفاوضات التي جرت لاحقا بين الجانبين. وقد اقترح أولمرت على أبو مازن صياغة وتثبيت التفاهمات التي جرى التوصل إليها في مجلس الأمن الدولي قبل إقرارها في إسرائيل، وذلك بغية ضمان مكانتها الدولية بالنسبة للجانب الفلسطيني، غير أن أبو مازن قطع الاتصالات ولم يعد إلى مائدة المفاوضات.

إلى ذلك فإن إدعاء الجانب الفلسطيني بأنه لم يُطلب من مصر والأردن في نطاق معاهدتي السلام الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، هو ادعاء في غير محله، وذلك لأنه لم يكن هناك نزاع بين هاتين الدولتين وبين إسرائيل حول أراض في "أرض اسرائيل"، فضلا عن أنه كانت هناك حاجة للتوصل إلى اتفاق بين شعبين (في نطاق التسوية بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني) وليس بين دولتين فقط.

[للبحث صلــة]

_____________________________

(*) باحث كبير في "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب. هذا المقال ظهر في فصلية "عدكان استراتيجي (المستجد الإستراتيجي)" الصادرة عن المعهد، العدد 18، 2016.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات