المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تقع حوادث عمل كثيرة في ورشات البناء في إسرائيل، تؤدي إلى مصرع عمال وإصابة مئات آخرين كل عام.

ورغم أن هذه قضية مؤلمة، إلا أن السلطات الإسرائيلية لا توليها اهتماما، بل وتتجاهلها. والغالبية الساحقة من عمال البناء في هذه الوُرش هم فلسطينيون من جانبي الخط الأخضر وعمال أجانب، ويكاد لا يعمل يهود في هذا الفرع.

في نهاية شهر تموز الماضي، لقي مصرعه عامل البناء عبد الهروش (29 عاما) من بلدة يطا، في ورشة بناء مبنى سكني في مدينة ريشون لتسيون، عندما كان يسير على سقالة مخلخلة، فانهارت وسقط من الطابق السابع. وقبل ذلك، في كانون الأول الماضي، لقي ابن عمه، يونس الهروش، مصرعه عندما سقط من ارتفاع في ورشة بناء في مدينة الخضيرة.

ويتبين أن هاتين الحادثتين هما جزء من ظاهرة مأساوية أوسع بكثير. ويتبين أيضا أن "مديرية الأمان التشغيلي"، وهي الجهة المسؤولة عن الأمان في ورشات البناء وتتبع لوزارة العمل والرفاه الاجتماعي، تجاهلت في حالات كثيرة شكاوى بشأن عيوب تشكل خطرا على حياة العاملين في ورش بناء، وقعت فيها لاحقا حوادث عمل، وقُتل عمال في بعضها. كذلك ثبت أنه في حالات كثيرة أمرت فيها هذه المديرية مقاولين بوقف العمل، لكن العمل استمر بالرغم من هذه الأوامر.

وكان بالإمكان منع مقتل العامل عبد الهروش، لو أن المديرية تعاملت بجدية مع تحذير خطير وصل إليها قبل حادث العمل هذا بأربعة شهور. فقد تحدث التقرير التحذيري عن عيوب خطيرة، وأرسلها إلى المديرية "الائتلاف من أجل منع حوادث البناء". وقد أصدر مفتش من قبل المديرية، زار ورشة البناء، أمرا بوقف العمل إلى حين إصلاح العيوب. وكتب رئيس وحدة مراقبة العمل في المديرية، إسحاق شيرمان، في رده على شكوى الائتلاف أنه "جرت زيارة الورشة، واتضح خلالها أنه توجد فعلا عيوب خطيرة في الأمان. وفي أعقاب ذلك تم إصدار أمر سلامة العمال والذي كان ساري المفعول حتى تنظيم وضع الأمان في الورشة بموجب متطلبات القانون". لكن المديرية لم تتأكد من أنه تم إصلاح العيوب، ولم تتم زيارة الورشة مرة أخرى. وبعد الحادثة التي قتل فيها الهروش، زار المفتش الورشة ووجد أن العيوب ما زالت على حالها، وأن أمر منع العمل في الورشة ما زال ساريا. واكتفت المديرية بالإعلان عن أنها تنفذ عملية استيضاح في ظروف مقتل العامل وسير العمل في الورشة.

وهذه الحادثة هي مثال لعشرات الحالات الأخرى، التي قُتل فيها عمال، أي أن المخاطر المحدقة بالعمال، وتسببت لاحقا بمقتلهم أو إصابتهم بشكل خطير، كانت معروفة لجميع الجهات التي يتعين عليها منع هذه الحوادث، لكن المقاولين لم يكلفوا أنفسهم عناء تصحيح العيوب على الرغم من وجود أمر من السلطات بذلك، كما أن "مديرية الأمان التشغيلي" لم تهتم بالتأكد من أن تعليماتها تُطبق.

وفي ظل وضع كهذا، فإن حادث العمل المقبل، وإصابة عامل بناء بشكل خطير أو حتى مقتله، هي مسألة وقت وحسب.

ونقلت صحيفة "هآرتس"، يوم الخميس الماضي، عن مديرة "الائتلاف لمحاربة حوادث البناء"، هداس تغري، قولها إنه "لا يوجد قانون ولا قاض، والمقاولون القتلة يواصلون العمل وتشكيل خطر على حياة العاملين دون عائق. ويطرح السؤال في ما إذا كانت مديرية الأمان قد نفذت في الشهور الأربعة بعد إصدار الأمر خطوات مراقبة من أي نوع لفحص ما إذا تم إصلاح العيوب، الذي من شأنه أن يؤثر على الأحداث المأساوية بشكل كبير".

وكانت تغري تشير بذلك إلى شكوى قُدمت ضد ورشة بناء تعمل فيها شركة "أ. أ. شيم طوف حزام" في ريشون لتسيون، حيث كانت الشرفات بدون درابزين وعمال لا يعتمرون الخوذ يقفون على سقالات مخلخلة. ولم تُجب المديرية على شكوى بهذا الخصوص.

تقصير حكومي

هذه الشكوى ليست الوحيدة التي لم تجب عليها المديرية، كما أن عيوبا كهذه منتشرة في ورشات العمل، كذلك فإن شركة البناء هذه ليست الوحيدة التي لا تنصاع لتعليمات الوزارة. ويوثق الائتلاف حالات كثيرة جدا تتعامل فيها المديرية باستهتار مع شكاوى حول عيوب ومخاطر في ورش البناء، وأحيانا تتجاهل هذه الشكاوى.

لكن المديرية ليست المسؤولة الوحيدة عن هذا الوضع الخطير في ورش البناء، إذ أن مراقبي الورش من قبل المديرية قلائل جدا والميزانية المخصصة لها هزيلة للغاية، ما يدل على تقصير حكومي صارخ وقاتل. ويعمل في المديرية 18 مراقبا، يتعين عليهم أن يراقبوا موضوع الأمان في العمل في حوالي 13 ألف ورشة بناء في أنحاء إسرائيل.

ومهمة هؤلاء المراقبين هي زيارة ورش البناء بشكل متكرر، لكن بسبب كثرة الورش وحوادث العمل فيها، فإنهم لا يجدون الوقت غالبا، أو الموارد، من أجل مراجعة ما إذا كانت أوامرهم تُطبق أم لا.

ورغم مطالب المديرية المتكررة بزيادة القوى العاملة فيها إلا أنه لم تتم زيادة الوظائف فيها. كما أن شروط عمل المراقبين، برواتبهم المتدنية واضطرارهم إلى التنقل بالمواصلات العامة أو بسياراتهم الخاصة بين ورش البناء، لا تشجع المراقبين على التفوق في العمل.

وقالت تغري إن "الحوادث في العمل تكشف عن مشاكل خطيرة في أداء مديرية الأمان التشغيلي، تتجاوز المشكلة المعروفة بنقص الموارد. والوضع هو غياب الرد الملائم لتوجهات بخصوص ورش خطيرة، والسياسة المتساهلة تجاه المقاولين المخالفين للقانون، التي تشكل خطرا على العمال وتبعث برسالة متسامحة حيال المقاولين وتشجعهم على الاستمرار في التخلي عن سلامة العمال، والنقص في العقوبات الرادعة أو عدم استخدام عقوبات كهذه". وأكدت أن وزارة العمل والرفاه تقدم لوائح اتهام تتعلق بمخالفات الأمان في العمل في حالات نادرة جدا، رغم أن هذه إجراءات قضائية بسيطة نسبيا وهناك عقوبة واحدة فقط ضد المقاولين الذين يخرقون القانون.

وتشير المعطيات إلى أنه بين السنوات 2010 – 2015 جرى تقديم 11 لائحة اتهام فقط ضد مقاولين تتعلق بمخالفة التسبب بالموت جراء إهمال في ورش بناء، علما أنه قُتل خلال هذه الفترة أكثر من 180 عامل بناء وأصيب آلاف آخرين.

وتحذر تغري من أن سياسة "مديرية الأمان التشغيلي" ووزارة العمل والرفاه الإسرائيلية لا تردع المقاولين، وقالت في رسالة بعثت بها إلى مديرة المديرية، فاردا إدواردس، في آب الماضي، إن 15 شكوى على الأقل قدمها الائتلاف لم ترد عليها المديرية أبدا أو لم تُجب لمضمون الشكوى.

المقاولون غير مرتدعين

بعث "الائتلاف لمحاربة حوادث البناء"، خلال الأشهر الستة الماضية، ستة شكاوى حول عيوب وظروف عمل خطيرة في ورشة بناء في بلدة نيشر قرب حيفا تعمل فيها شركة "ألموغ". لكن المديرية تعاملت باستهتار مع هذه الشكاوى. وفي نهاية أيار الماضي، أصيب في هذه الورشة عامل (28 عاما) من قرية العزير القريبة من الناصرة بجروح خطيرة جدا وتضررت معظم أعضاء جسده جراء سقوطه من الطابق الرابع.

وغداة حادث العمل هذا، زار مراقب من المديرية ورشة البناء في نيشر، حيث وجد عيوبا خطيرة جدا. بعد ذلك استجوب المراقب مدير عام شركة البناء "ألموغ" وأصدر أمر سلامة عمل يقضي بوقف العمل في الورشة إلى حين إصلاح العيوب. لكن في اليوم نفسه وثّق الائتلاف عيوبا في الأمان في العمل في بناية أخرى تقع في ورشة البناء نفسها، وقد استمر العمل فيها كالمعتاد. وبعث الائتلاف بشكوى طارئة إلى المديرية بهذا الخصوص، لكن لم يتم الرد على الشكوى حتى اليوم، بينما العمل مستمر في ورشة البناء.

وفيما يتعلق بورشة البناء نفسها، بعث الائتلاف، في نهاية حزيران الماضي، بشكوى أخرى تضمنت توثيقا لعمال يعملون في طابق مرتفع جدا وبشكل يشكل خطرا على حياتهم. وزار مراقب من المديرية الورشة واطلع على العيوب. وأوعز مدير العمل للعمال بإصلاح هذه العيوب، لكن لم يتم فرض أي عقاب على المقاول. وأرسل الائتلاف، في شهري آب وأيلول الماضيين، شكوى أخرى إلى المديرية تضمنت توثيقا لعيوب خطيرة أيضا، وأصدرت المديرية بعدها أمرا يقضي بوقف العمل لمدة ثلاثة أيام. وفي إثر هذه التحذيرات التي تم تجاهلها، سقط قبل أسبوعين عامل (42 عاما) عن ارتفاع ثلاثة أمتار وأصيب بجروح متوسطة وتضرر حوضه وظهره.

رغم ذلك، استمر العمل كالمعتاد في الورشة التي أصيب فيها العامل. وقد وثق الائتلاف ذلك بالصور رغم أمر وقف العمل، ورغم أن المديرية فتحت تحقيقا جنائيا، وحضر محقق إلى الورشة. ويعني ذلك أن الإجراءات التي اتخذت ضد شركة المقاولات لم تردعها. كذلك فإنه على الرغم من أن أمر وقف العمل في الورشة ما زال ساري المفعول، لكن مدير عام منظمة "معا"، أساف أديب، وثّق استمرار العمل كالمعتاد في هذه الورشة.

وصادقت الكنيست، في آب الماضي، على تعديل للقانون، بحيث أصبح بالإمكان إغلاق ورشة بناء بشكل كامل بعد وقوع حادث عمل فيها. وحتى موعد هذا التعديل للقانون، لم يكن بمقدور المديرية إصدار أمر بوقف العمل بشكل كامل كالذي صدر ضد ورشة البناء في نيشر. ووفقا للائتلاف، فإن القانون بصيغته الجديدة يحقق نجاحا ويتم تطبيقه في ورش البناء التي تقع فيها حوادث، لكن ما حدث في ورشة البناء في نيشر يثبت أن القانون الجديد ليس كافيا من أجل ردع جميع المقاولين.

تجاهل شكاوى

لقي عامل تركي (26 عاما) مصرعه، في تموز العام الماضي، جراء سقوطه من الطابق 35 في ورشة بناء برج مكاتب تابعة لشركة عزرائيلي في منطقة سارونا في وسط تل أبيب. وبعد مقتل هذا العامل، أصيب عامل من مدينة اللد (22 عاما) بجروح متوسطة جراء سقوطه من ارتفاع ثمانية أمتار في أيار الماضي في الورشة نفسها. وفي نيسان الماضي، أصيب عامل تركي (40 عاما) بجروح متوسطة في إثر سقوطه من ارتفاع أربعة أمتار في هذه الورشة. وفي آذار الماضي سقط عامل آخر، وأصيب بجروح خطيرة، داخل بئر المصعد الكهربائي وبعمق عدة طبقات في المبنى نفسه.

وأكدت تغري، في رسالة بعثت بها إلى المديرية، في أيار، على أن تكرار الحوادث في ورشة البناء نفسها "تثير تخوفات كبيرة حيال انتهاك أنظمة الأمان من جانب إدارة الورشة"، وطالبت بمراقبة سير العمل في الورشة. لكن تغري لم تتلق ردا على توجهاتها، وبعد أن بعثت بعدة رسائل إلى المديرية بواسطة البريد الالكتروني، جاءها الرد بأن فرع المديرية في منطقة وسط إسرائيل يدقق في الموضوع.

رغم ذلك، بعد شهر واحد قُتل عامل تركي، يدعى يونوس أوزدمير، في ورشة البناء نفسها. وبعد حادث العمل هذا، وُجدت عيوب خطيرة في ورشة العمل، أدت إلى إغلاقه مؤقتا. وتبين أن في ورشة العمل هذه لم يتم تعيين مسؤول عن الأمان.

من جانبه، قال مؤسس "المركز من أجل منع حوادث العمل"، رؤوفين بن شمعون، الذي بعث بشكاوى كثيرة إلى المديرية ولم تحظ دائما بالاهتمام، إن "مديرية الأمان فشلت فشلا مطلقا في حماية العاملين. وهناك عدم رغبة في العمل بيد متشددة ضد مخترقي القانون وقد تحول هذا إلى نمط سلوكي دائم".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات