لا يتوقف وزير التربية والتعليم الإسرائيلي الحالي، رئيس حزب "البيت اليهودي" اليميني المتدين، نفتالي بينيت، عن فتح "جبهات" صدامية جديدة متتالية في كل ما لا يروق له ولا يتساوق مع توجهاته الأيديولوجية، السياسية والدينية في عمل وزارة التربية والتعليم في إسرائيل، دون الإحجام
عن استخدام ما يمكن اعتباره إكراهاً عنفيا في فرض أجنداته على الوزارة ومجالات عملها المختلفة، بل على جهاز التعليم عامة في إسرائيل، بما يعنيه من فرض هذه الأجندات على ملايين الطلاب، حاضرا ومستقبلاً.
ويبدو واضحا تماما، الآن خصوصا، أن بينيت هو الوزير الأبرز في هذه الحكومة من حيث دأبه المحموم على فرض أجنداته المعدة سلفا على هذه الوزارة الأساسية التي أسندت إليه، بل حارب من أجل إسنادها إليه، بما يعني أنه جاء إليها وهو يحمل أجندات واضحة للفرض والتطبيق!
ثلاث معارك مركزية
ويكفي أن ننظر إلى "المعارك" الثلاث الكبيرة التي أطلقها بينيت، حتى الآن (ولا يبدو أن جعبته قد خلت منها) في ثلاثة مجالات مركزية في عمل وزارة التربية والتعليم منذ تسلمه زمام إدارتها، ليتضح ما ذهبنا إليه أعلاه من حيث كونها كاشفة لمنطلقات ومعبرة عن غايات، مع التنبيه إلى أن هذه "المعارك" الثلاث لا تزال تتفاعل على أكثر من صعيد وفي أكثر من مستوى:
الأولى ـ إقصاء "لنكسر الصمت": قراره منع ممثلي منظمة "لنكسر الصمت" من دخول المدارس الثانوية اليهودية والتقاء طلابها الذين هم على أعتاب التجند لتأدية الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي. وقد اندرج قرار بينيت هذا في إطار الحملة الإسرائيلية المنظمة والمتعددة الأطراف التي انطلقت ضد هذه المنظمة، سواء من قبل مسؤولين عسكريين أو سياسيين، شملت قرارا بمنع ممثليها من زيارة "الكليات التحضيرية" للخدمة العسكرية (تابعة لوزارة الدفاع الإسرائيلية) والتقاء طلابها، من خلال اتهامها بـ"التآمر على دولة إسرائيل، خيانتها، تلطيخ سمعة الجيش الإسرائيلي وجنوده والمساهمة في تقديمهم إلى محاكمات دولية بشبهات ارتكاب جرائم حرب".
وقد علل بينيت قراره هذا بتغريدة نشرها على صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) قال فيها: "من يمسّ بجنود الجيش الإسرائيلي لا مكان له في جهاز التربية والتعليم"!!
و"لنكسر الصمت" هي منظمة تضم جنوداً إسرائيليين، من مختلف المستويات والرتب العسكرية، يروون عن تجاربهم في تأدية الخدمة العسكرية ضمن جيش الاحتلال في المناطق الفلسطينية المحتلة، بما فيها من قتل وقمع وتنكيل واضطهاد واعتداءات، ليخلصوا إلى ضرورة انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق الفلسطينية المحتلة شرطا، أوليا وضروريا، لتخليصه من أعباء وتداعيات الممارسات اللاأخلاقية واللاإنسانية التي تنطوي عليها مهماته الاحتلالية.
وإذا ما تذكرنا أن زيارات "لنكسر الصمت" إلى المدارس الثانوية اليهودية والتقاء طلابها هي نهج معتمد ومكرس منذ سنوات غير قليلة، من باب "حق الطلاب المرشحين لتأدية الخدمة العسكرية في سماع آراء أخرى وتوجهات أخرى عنها"، مغايرة لتلك التي يعرضها "التيار المركزي"، بما فيه المؤسسة العسكرية والأمنية الرسمية، فبالإمكان فهم مدى حدة وخطورة الخطوة التي أقدم عليها الوزير بينيت بقرار المنع المذكور، في كل ما يتعلق بحرية الفكر والتفكير، حرية التعليم وحرية التعبير عن الرأي لكل من هو خارج "سرب" الإجماع الصهيوني ـ اليميني ـ الديني!
الثانية ـ كتاب جديد لتدريس التربية المدنية: قرار الوزير بينيت إعداد وإصدار صيغة جديدة من كتاب بعنوان "أن نكون مواطنين في إسرائيل" المخصص لتدريس موضوع "المدنيات" (التربية المدنية / الموطن) في المدارس الثانوية في إسرائيل.
ويشمل الكتاب الجديد 36 فصلاً موزعة في أربعة أبواب: الأول مخصص لـ"دولة إسرائيل كدولة يهودية"، أما الثاني فمخصص لـ"مبادئ الديمقراطية" والثالث لـ"النظام والسياسة في إسرائيل" والرابع لـ"آراء مختلفة حول الطابع المرغوب للدولة".
والصيغة الجديدة من كتاب "المدنيات" هذه، التي وصفها أحد الأكاديميين اليهود المطلعين بأنها "أكثر يهودية وأقل ديمقراطية"، تنطوي على العديد من المضامين التي تتناقض، جوهريا، مع ماهية التربية الديمقراطية، ناهيك عما فيها من مضامين خطيرة تشكل تزويرا فظا للتاريخ وللرواية الفلسطينية ولواقع المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، علاوة على تقديمهم ليس كأقلية قومية، بل كمجموعة من الطوائف المنفصلة.
فعلاوة على ما في هذه الصيغة الجديدة من تقزيم للمركّب الديمقراطي في هوية دولة إسرائيل وطابعها، لصالح إبراز وإعلاء المركّب اليهودي (ومما يدلل على هذا، أيضا، استهلال مقدمة الكتاب بدعاء من صلاة يهودية، بينما كانت الصيغة السابقة قد استهلت بجملة مقتبسة من "وثيقة استقلال" دولة إسرائيل!)، يتعمد هذا الكتاب، أيضا، تحجيم وتهميش الأقلية العربية في إسرائيل، حقوقها وإمكانياتها، تجاهل مكوّنات هويتها الثقافية والقومية، وخاصة اللغة العربية بوصفها لغة رسمية ومركزية في البلاد.
ويقتصر الكتاب حقوق الأقلية القومية العربية في إسرائيل على مجاليّ التعليم والدين، بينما يُلاحَظ فيه جهد واضح لتفكيك الأقلية العربية وتفتيتها إلى مجموعات طائفية ـ مسلمون، مسيحيون ودروز ـ مع التشديد على أن الأخيرين "يخدمون في الجيش الإسرائيلي"! وهو ما رأت البروفسور إيلانا هيرمان أنه "يولّد انطباعاً بأن في الأمر محاولة متعمدة للتمييز بين عرب جيدين وعرب سيئين"!!
وفي الإجمال، يؤكد المطلعون على الصيغة الجديدة من هذا الكتاب أنها تقوم على منظومة من المواد والمصطلحات المشتقة من الرؤية القومية ـ الإثنية اليهودية الضيقة، وسط تجاهل تام لتشكيلة المواقف الآراء المختلفة في الحيز الإسرائيلي العام وفي الأكاديميا، وخاصة المواقف والآراء المركزية بين الأقلية العربية في إسرائيل. وفوق هذا، يخلو الكتاب الجديد من أية معلومات جدية حول موضوع العنصرية بشكل عام وظاهرة العنصرية في إسرائيل بشكل خاص.
الثالثة ـ إقصاءات وتعيينات في "مجلس التعليم العالي": وجهت مجموعة من الأساتذة الجامعيين الكبار حاملي درجة بروفسور في عدد من الجامعات الإسرائيلية، قبل أيام قليلة، رسالة إلى المستشار القانوني الجديد للحكومة الإسرائيلي، أفيحاي مندلبليت، وإلى وزير التربية والتعليم، نفتالي بينيت، بصفته رئيساً لـ "مجلس التعليم العالي" في إسرائيل، يؤكدون فيه معارضتهم ورفضهم قرار الوزير مواصلة تفعيل هذا المجلس وعقد جلساته ونشاطاته واتخاذ قراراته على ضوء انسحاب / استقالة ستة من بين أعضائه قبل نحو أسبوعين.
وأكد الأساتذة أن رسالتهم هذه تأتي كمحاولة أخيرة من جانبهم قبل التوجه بالتماس خاص إلى "محكمة العدل العليا" لمنع تفاقم الأزمة في "مجلس التعليم العالي" والحيلولة دون مزيد من التدهور في تشكيلته وأدائه، بما قد يحمل من انعكاسات وإسقاطات كارثية على التعليم الجامعي في إسرائيل، عامة، سواء في المدى الفوري المنظور أو في المدى البعيد.
ولفت الأساتذة في رسالتهم إلى أن فكرة تقديم الالتماس إلى المحكمة العليا تأتي على الرغم من التصريح الذي أصدره المستشار القانوني للحكومة ومكتبه إلى الوزير بينيت بمواصلة تسيير أعمال "مجلس التعليم العالي"، وذلك بالاستناد إلى حقيقة أن استمرار عمل "مجلس التعليم العالي" بتركيبته الحالية ـ 16 عضوا فقط بعد استقالة 6 أعضاء ـ يشكل انتهاكا لـ "قانون مجلس التعليم العالي" الذي تنص المادة الرابعة منه صراحة على أن "المجلس يضم في عضويته 19 عضوا في الحد الأدنى و25 عضوا في الحد الأقصى، بينهم وزير التربية والتعليم"، الذي درجت العادة على أن يقوم هو بمهام رئيس هذا المجلس.
وحذر أساتذة الجامعات من أن تركيبة "المجلس" الحالية، الناقصة، لا تتيح له تأدية المهام المنوطة به أو تحمل أعباء الحياة الجامعية وما تتطلب من احتياجات يومية ضرورية، ما يشكل خطرا جديا على أداء الجامعات على التعليم الجامعي في البلاد، ناهيك عن أنه في أعقاب استقالة الأعضاء الستة أصبحت بعض الجامعات ومعاهد التعليم العالي في إسرائيل غير ممثلة بشكل مباشر في "مجلس التعليم العالي"، بما يتناقض مع مبدأ وتقليد ضمان التمثيل المناسب لجميع الجامعات ومعاهد التعليم العالي، كما أرسته وحددته قرارات حكومية سابقة، منذ عقود.
وكانت هذه الأزمة قد تفاقمت في إثر تقديم ستة أساتذة جامعيين ـ جميعهم ممثلو جامعات ومعاهد عليا ـ استقالة جماعية من عضوية "مجلس التعليم العالي"، في خطوة احتجاجية على ما اعتبروه قرارا سياسيا تعسفيا من جانب وزير التربية والتعليم، بينيت، الذي قام بعزل وإقصاء نائبة رئيس "مجلس التعليم العالي"، البروفسور حاجيت ميسر ـ يارون، وتعيين ريفكا فدماني ـ شاومان خلفاً لها.
وردا على هذه الاستقالة الجماعية، وفي موقف مشبع بالاستخفاف والاستهتار والتجاهل، قالت وزارة التربية والتعليم في بيان رسمي لها إن "الوزير بدأ يتخذ الخطوات والإجراءات اللازمة لتعيين أعضاء جدد في مجلس التعليم العالي لاستكمال نصاب هيئته القانونية المطلوبة"!
وتعقيباً على هذا الموقف من جانب الوزير بينيت ووزارته، قال رئيس "معهد وايزمان للعلوم"، البروفسور دانيئيل زايبمان، إنه لن يقترح ممثلا آخر عن معهده لعضوية المجلس، بدلا من الممثل المستقيل، مؤكداً: "لا أومن بأن المشكلات التي تواجهنا الآن يمكن حلها وتجاوزها بتعيينات جديدة وفورية لأعضاء جدد في المجلس. ذلك أن استقالة أعضاء المجلس ما هي إلا أحد الأعراض لحالة انعدام الثقة القائمة بين مجلس التعليم العالي من جهة وبين مؤسسات التعليم العالي من جهة أخرى".
يذكر أنها المرة الأولى التي يقدم فيها أعضاء في "مجلس التعليم العالي" استقالة جماعية كهذه احتجاجا على سياسة وممارسات وزير للتربية والتعليم في إسرائيل، منذ تأسيسه. وأشار الأساتذة الجامعيون الستة، في كتاب استقالتهم، إلى أن "ممارسات رئيس المجلس (الوزير بينيت) وانضمام غالبية أعضاء المجلس إليه تعود بضرر فادح على أهداف المجلس ورسائله، وخاصة ـ الحفاظ على مستوى علمي لائق وعدم تقييد حرية الرأي والضمير في الأكاديميا". وأضافوا: "الخطوات والإجراءات التي اتخذها رئيس المجلس (الوزير) تشكل مسا فظا بعمل المجلس، باستقلاليته وبروح عمله، كما تزعزع ثقة الساحة الأكاديمية بالمجلس، بعمله وبقراراته"! وطالبوا، في ختام رسالتهم، بحل المجلس الحالي بشكل فوري وتعيين مجلس جديد "يتم انتخاب أعضائه بشفافية وبعد تحديد معايير واضحة لشروط الحد الأدنى المطلوبة لعضوية مجلس التعليم العالي ولتعيين نائب للرئيس، بما يضمن قيامه بالمهام الملقاة على عاتقه، كما حددها القانون".
وكان مطلب حل "مجلس التعليم العالي" وتعيين مجلس جديد بدلا منه قد طُرح قبل أكثر من شهر أيضا من خلال عريضة خاصة وقع عليها أكثر من 1500 أكاديمي طالبوا الوزير بينيت بحل المجلس الحالي وبوضع قائمة شروط حد أدنى للعضوية فيه.
يذكر أن بينيت كان عزل البروفسور حاجيت ميسر ـ يارون من مصب نائبة رئيس "مجلس التعليم العالي" في أواخر شهر تشرين الثاني الأخير، دون تعليل الأسباب، علما بأن قرارات الفصل والعزل في المجلس ليست من صلاحية الوزير (رئيس المجلس)، بل من صلاحية الهيئة العامة للمجلس، بتصويت أغلبية الأعضاء. وكانت ميسر ـ يارون بدأت تشغل هذا المنصب في فترة وزير التربية والتعليم السابق، شاي بيرون. وقد أقرت غالبية أعضاء المجلس للوزير ما أراد، فصوتت إلى جانب عزل ميسر ـ يارون، رغم مهنيتها العالية المشهودة والتي أشاد بها جميع معارفها والعاملون معها، كما صوتت (الأغلبية) تأييدا لتعيين مرشحة الوزير بينيت لخلافتها في هذا المنصب، وهي د. ريفكا فدماني ـ شاومان، التي أثيرت ضجة واسعة حول مؤهلاتها ومدى كفاءتها لإشغال هذا المنصب.
المصطلحات المستخدمة:
المستشار القانوني للحكومة, التيار المركزي, شاي, نفتالي بينيت