يكشف التقرير السنوي لـوحدة "المرافعة العامة" (التابعة لوزارة العدل الإسرائيلية)، الذي نشر يوم الأحد الأخير (6 أيلول الجاري)، عن ظاهرة خطيرة تتمثل في ارتفاع حاد في عدد لوائح الاتهام الجنائية التي يتم تقديمها إلى المحاكم في إسرائيل ضد مواطنين من فئات اقتصادية ـ اجتماعية مسحوقة على خلفية ارتكابهم "مخالفات جنائية" بسبب الضائقة الاقتصادية التي يعانون منها وافتقارهم إلى مقوّمات الحياة الأساسية، التي تتحمل الدولة ومؤسساتها، في كثير جدا من الحالات، المسؤولية الأساسية والمباشرة عنها جراء عدم الوفاء بالتزاماتها القانونية تجاه هؤلاء المواطنين الفقراء وعدم تقديمها ما يمكن أن يضمن لهم الحد الأدنى من العيش الكريم.
وبدلا من أن تقوم الدولة بتوجيه هؤلاء إلى خدمات الرفاه الاجتماعي والعمل وفق ما يمليه القانون عليها من أجل تقديم العون اللازم والمستحق لهم، اقتصاديا واجتماعيا، تعمد إلى محاكمتهم جنائيا، على كل ما يترتب على ذلك من معاناة، تكاليف وغرامات، بل اعتقال وسجن في حالات كثيرة!
ويؤكد التقرير، بصورة قاطعة، أن "مرات عديدة، يتبين أن الضائقة الاقتصادية ـ الاجتماعية التي انزلق إليها هؤلاء المواطنون التي تم تقديم لوائح اتهام جنائية بحقهم تتصل، اتصالا عضويا وثيقا، بقصورات وتقصيرات مختلفة من جانب سلطات الدولة الحكومية ومؤسساتها المختلفة"!
ويضيف، في تحذير واضح: "ليس أن لوائح الاتهام الجنائية هذه وما يتبعها من إحكام إدانة قضائية لا تشكل حلا لضائقة هؤلاء المواطنين، ولا يمكن أن تشكل حلا، وإنما هي تعمق هذه الضائقة وتزيدها تعقيدا وخطورة"!
مبادرة فردية وجزء أساس من جهاز القضاء
"المرافعة العامة" هي وحدة في وزارة العدل، تأسست وانطلق عملها في العام 1996 بهدف توفير التمثيل قضائي (المرافعة القضائية) المهني والنوعي لمواطنين يخضعون لإجراءات جنائية مختلفة مثل التحقيقات أو المحاكمات الجنائية، كمعتقلين، مشتبه بهم، متهمين أو مُدانين، لكنهم لا يستطيعون تمويل نفقات مثل هذه المرافعة القضائية بأنفسهم، بسبب ضيق الأحوال الاقتصادية.
وقد أقيمت "المرافعة العامة" كوحدة من وحدات وزارة العدل الإسرائيلية، طبقا لـ"قانون المرافعة العامة" الذي سنه الكنيست في العام 1995، بناء على اقتراح تقدم به البروفسور كينيث مان (أميركي الأصل هاجر إلى إسرائيل في العام 1973) الذي كان يعمل آنذاك محاضرا للقانون في جامعة تل أبيب وأسس، خلال ذلك، في العام 1989، مركزا خاصا للمساعدة القضائية في القضايا الجنائية تابعا للجامعة نفسها. وقد تطور هذا المركز لاحقا فأصبح عبارة عن "عيادات قضائية" تابعة لجامعة تل أبيب.
ومع إنشاء وحدة "المرافعة العامة"، في العام 1996، تنفيذا للقانون، تم تعيين البروفسور مان رئيسًا لها (ويسمى، في نص القانون: "المترافع الرئيسي القـُطري". وللوحدة ستة فروع/ ألوية يترأس كل منها "مترافع عام لوائي").
وخلال إشغاله هذا المنصب (منذ تأسيسها في العام 1996 وحتى العام 2002) أصبحت المرافعة جزءًا أساسيا وهاما من جهاز القضاء في إسرائيل. ويعمل في إطار "المرافعة العامة" اليوم طاقم من المحامين الجنائيين يشمل 950 محامياً، من بينهم 850 محاميا من القطاع الخاص يتقاضون أجرة أتعابهم (عن تمثيل المواطنين المستحقين قضائيا) من ميزانية الدولة مباشرة، إضافة إلى 100 محام موظفي دولة يتولون، بالأساس، توزيع ومراقبة التمثيل القضائي المقدم من جانب محامي القطاع الخاص.
المحامون من قبل المرافعة العامة يمثلون المتهمين في جميع مراحل الإجراء الجنائي: يقدمون الاستشارة للمشتبه بهم خلال التحقيق معهم في الشرطة، يمثلونهم في غرف الاعتقال وفي مراحل استيضاح التهمة وفي المداولات القضائية أمام المحاكم، كما يقدمون استئنافات والتماسات إلى المحكمة العليا.
ويمثل المترافعون العامون، أيضا، السجناء أمام "لجان الإعفاءات" في السجون والمرضى النفسيين الذين يتم إخضاعهم للعلاج في مستشفيات الأمراض النفسية بالإكراه.
ويحتل تمثيل القاصرين المشتبه بهم أو المعتقلين نحو 15% من مجمل عمل "المرافعة العامة".
وفي ما سبق إقامة "المرافعة العامة" كان معظم المتهمين في المحاكمات الجنائية يَمْثلون أمام المحاكم من دون أي تمثيل قضائي، بمن فيهم القاصرون الذين كان يتم تقديمهم إلى محاكمات جنائية في محاكم الأحداث، إضافة إلى نسبة كبيرة جدا من المعتقلين الذين كان يتم اقتيادهم إلى المحاكم لتمديد فترات اعتقالهم.
وتشير الاحصائيات في هذا الشأن إلى أن واحدا فقط من بين كل خمسين معتقلا كان يحظى بلقاء مع محام لدى توقيفه في محطة الشرطة. والسبب الأساس لذلك، أن غالبية الأشخاص الذين كان يتم التحقيق معهم وتقديمهم إلى المحاكمة لم يكونوا قادرين على تمويل أتعاب محام خصوصي.
ويعتبر حق التمثيل القضائي، وفي الإجراءات الجنائية بوجه خاص، أحد الحقوق الأساسية المكفولة للإنسان وأحد الضمانات الرئيسة للحفاظ على هذه الحقوق.
ويحدد البند رقم 18 من "قانون المرافعة العامة" شروط استحقاق التمثيل القضائي من جانب "المرافعة العامة"، والتي تختلف تبعاً لنوع الإجراء الجنائي، الوضع الاقتصادي للشخص المعني وغيرها من المعايير.
ويلزم البند رقم 8 من القانون نفسه وحدة "المرافعة العامة" بتقديم تقرير سنوي عن أعمالها وأنشطتها إلى وزير العدل وإلى "لجنة المرافعة العامة"، تعرض من خلاله، أيضا، أبرز ما واجهها من مشكلات وتحديات، فضلا عن معطيات عددية وإحصائية عن عملها خلال السنة ذاتها.
"ملفات الفقر" ومشكلات جوهرية
يشمل تقرير "المرافعة العامة" للعام الماضي- 2014، الذي صدر هذا الأسبوع، سبعة فصول تعالج المواضيع التالية وتتوزع عليها:
الفصل الأول ـ يعرض نشاط "المرافعة العامة" في الترافع عن "زبائنها". يعالج القسم الأول من هذا الفصل تمثيل المتهمين في المحاكم، وفيه اختارت "المرافعة العامة" تضمين تقريرها السنوي، للمرة الأولى منذ البدء بإصداره، التركيز على تمثيل المتهمين في ما أسمته "ملفات الفقر" ـ الملفات الجنائية التي تشكل الضائقة الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي يعاني منها أصحابها (مرتكبو المخالفات الجنائية) أساسها، خلفيتها، مسببها والدافع إليها. وهي مخالفات تنشأ، في حالات كثيرة، عن نكث الدولة (الحكومة ومؤسساتها وأذرعها المختلفة) مسؤولياتها وواجباتها تجاه هؤلاء المتهمين.
ويؤكد التقرير أن "المرافعة العامة" تلاحظ، في سياق عملها الجاري، ازديادا حادا في عدد لوائح الاتهام المقدمة ضد أشخاص مخالفين للقانون ممن "يعيشون في هوامش المجتمع الإسرائيلي" وتتمحور (لوائح الاتهام) حول مخالفات جنائية "تُرتكَب على خلفية ضائقة اقتصادية واجتماعية حادة وظروف حياتية تصارع البقاء جراء انعدام شروط ومتطلبات الحياة الأساسية"! ويضيف: "في مرات عديدة، نجد في خلفية هذه المخالفات خرقا من جانب الدولة لالتزاماتها وواجباتها الأساسية بشأن ضمان الحد الأدنى من العيش الكريم لمواطنيها". ويسوق التقرير أمثلة عن هذه الحالات، من بينها: تقديم لوائح اتهام جنائية على خلفية وبسبب اقتحام شقق للسكن الشعبي، اتصال غير قانوني بشبكتي المياه والكهرباء، سرقة مواد غذائية ومواد أساسية أخرى والتسول!
وترى "المرافعة العامة" أن تقديم لوائح اتهام جنائية في مثل هذه الحالات لا ينسجم مع أهداف القضاء الجنائي ولا يخدمها، كما لا يشكل ردا اجتماعيا تناسبيا ومناسبا. وبدلا من توجيه لوائح الاتهام هذه، يجدر بالشرطة والنيابة العامة العمل من أجل تحويل هؤلاء المواطنين إلى العلاج لدى سلطات ومؤسسات الرفاه والخدمات الاجتماعية المختصة بغية إيجاد حلول ملائمة للضائقة الاقتصادية ولأزمة العيش الكريم، عوضا عن اللجوء إلى الإجراءات الجنائية التي تراكِم مصاعب إضافية جديدة وتقلص فرص خروج هؤلاء المواطنين من دائرة الفقر والضائقة.
في الفصول التالية، يطرح التقرير ما يصفه بـ"مشاكل جوهرية أخرى في أداء الأذرع المختصة بتطبيق القانون والجهاز القضائي، أبرزها:
• ارتفاع كبير ومقلق في الاعتقالات والمسّ بحقوق المعتقلين المكفولة قانونيا:
لم يطرأ أي انخفاض في عدد المعتقلين في دولة إسرائيل منذ سن "قانون الاعتقالات" الجديد (الذي يضع قيودا ومحاذير مشددة على الاعتقالات، على ضوء "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته"). ولكن، ليس هذا فحسب، بل يسجل هذا العدد ارتفاعا مضطردا خلال العقد الأخير. ويثور الشك في السنوات الأخيرة بأن هذا الازدياد في عدد الاعتقالات يعود، من بين أسباب أخرى، إلى الأهداف المعلنة التي صاغتها شرطة إسرائيل في إطار "خطة الانعطاف".
وتعتقد "المرافعة العامة" أن هذه الخطة تتناقض، تناقضا مباشرا، مع المبدأ الأساس الذي أقره "قانون الاعتقالات" وقرارات الحكم الصادرة عن المحكمة العليا الإسرائيلية وجوهره: أن الاعتقال لا ينبغي أن يشكل وسيلة ردع ولا يمكن أن يشكل "سلفة" على حساب العقوبة المحتملة. وقد واجهت "المرافعة العامة" خلال عملها اليومي، مرات عديدة، حالات خطيرة من الاعتقالات العبثية التي تنفذها شرطة إسرائيل حتى في الحالات التي لا يتوفر فيها أي مبرر قانوني. وفي الغالبية الساحقة من حالات الاعتقال قبل المحاكمة انتهت "القضية" من دون تقديم أية لوائح اتهام بحق الشخص المعتقل، بل تم إغلاق ملف التحقيق ضده.
ولاحظت "المرافعة العامة" نشوء توجه يميل إلى خفض السقف القانوني المطلوب لتقديم طلبات الاعتقال حتى انتهاء الإجراءات القضائية، حتى في المخالفات الخفيفة نسبيا، بل وحتى في الحالات التي يكون فيها المشتبه به / المتهم بدون أية سوابق جنائية أو من فئات مستضعفة، مثل ذوي الإعاقات النفسية.
وذكّرت "المرافعة العامة" بأن هذه القضية، تحديدا، عولجت في تقرير مراقب الدولة وفي تصريحات لرئيسة المحكمة العليا السابقة، دوريت بينيش، لكن شيئا لم يتغير.
وأكد التقرير أن كثرة الاعتقالات، على هذا النحو، تشكل إحدى القضايا الأكثر إثارة للقلق في ما يتعلق بنظام القضاء الجنائي نظرا لما لها من إسقاطات خطيرة جدا على مسألة حقوق الإنسان في إسرائيل وعلى العلاقة ما بين الفرد والسلطة. ولهذا، تدعو "المرافعة العامة" جميع الجهات المسؤولة والمختصة، بمن في ذلك أصحاب القرار في وزارة العدل ووزارة الأمن الداخلي إلى الانكباب الفوري على بحث هذه القضية ووضع الحلول المناسبة لها، على هدي قول القاضية بينيش بأن "الاعتقالات لا تمثل إنجازا ولا ينبغي وضعها ضمن أهداف الشرطة"!
• علاج منقوص للشكاوى بشأن عنف رجال الشرطة:
في إطار عملها اليومي في تمثيل "زبائنها"، تواجه "المرافعة العامة" شكاوى عديدة ومختلفة موضوعها عنف رجال الشرطة بحق المواطنين. وتدل المعطيات على أن شكاوى عديدة على عنف رجال الشرطة لم تحظ بالمعالجة اللازمة، المناسبة والتامة، بل أن التحقيق لا يجري سوى في ما يعادل النصف، فقط، من مجمل الشكاوى التي يتم تقديمها سنويا.
وترى "المرافعة العامة" أن عنف رجال الشرطة يشكل مساً قاتلا بحقوق الفرد يستوجب تضافر جهود الجهات المعنية لاجتثاثه من جذوره.
• عقبات مؤسساتية تحول دون تقديم طلبات لإعادة المحاكمة وإلغاء قرارات إدانة قضائية عبثية في إسرائيل:
تحذر "المرافعة العامة" في تقريرها من وجود ظاهرة خطيرة في إسرائيل، غير ضيقة وغير هامشية، تتمثل في أن أشخاصا أبرياء يقبعون في السجون يمضون محكوميات لسنين طويلة. ويعرض التقرير، تفصيليا، جملة من العقبات المؤسساتية التي تعيق فرص تقديم طلبات لإعادة المحاكمة لإصلاح الغبن وإلغاء أحكام الإدانة القضائية العبثية في إسرائيل. وتشمل هذه العقبات: منع الحق في إجراء فحوصات مجددة على الأدلة والبينات بعد انتهاء الإجراء القضائي; منع تحويل مواد التحقيق في ملفات منتهية قضائيا إلى "المرافعة العامة" لدراستها وفحص إمكانية نقضها; إخفاء وإبادة بينات، بما يتعارض مع أحكام القانون في حالات عديدة; وجود النيابة العامة للدولة في وضع من تناقض المصالح البنيوي، المحظور قانونيا، حينما تكون هي الطرف المدعى عليه في طلبات لإعادة المحاكمة، فضلا عن افتقار القوانين الإسرائيلية إلى نصوص كافية ومناسبة في كل ما يتصل بإعادة المحاكمات وبالمحاكمات المُعادة.
• حرمان غالبية المعتقلين في إسرائيل من ممارسة حقهم في استشارة محام قبل التحقيق معهم لدى الشرطة:
على الرغم من القرارات القضائية العديدة الصادرة عن المحكمة العليا، وعلى الرغم من أحكام القوانين والأوامر، "تتجاهل" الشرطة واجبها القانوني الأساس الذي يلزمها بإطلاع أي معتقل على حقه القانوني في استشارة محام قبل التحقيق معه، ثم إتاحة الفرصة أمامه لالتقاء محاميه واستشارته. والنتيجة المترتبة على هذه الممارسة هي أن الغالبية الساحقة من المشتبه بهم الذي يتم إحضارهم إلى مراكز الشرطة يخضعون للتحقيق ويدلون بإفاداتهم، وربما اعترافاتهم أيضا، من دون ممارسة حقهم المسبق بشأن استشارة محام.
• إقامة قاعات للنظر في طلبات الاعتقال بالقرب من سجن "إيشل" في الجنوب:
عبرت "المرافعة العامة"، أمام كل من رئيسة المحكمة العليا ومدير المحاكم ونائب المستشار القانوني للحكومة، عن تحفظها المبدئي على الخطة الحكومية لإنشاء قاعات خاصة للنظر في طلبات الاعتقال بالقرب من سجن "إيشل" في الجنوب. وأكدت "المرافعة العامة" أن هذا المشروع ينطوي على مس خطير وواسع بحقوق المعتقلين، كما بمبدأ علنية المداولات القضائية، بمبدأ الفصل بين السلطات وبقدرة الجمهور على التوجه إلى الهيئات القضائية المخولة والملائمة.
• تكبيل المعتقلين والسجناء في مستشفيات الأمراض النفسية:
وصلت إلى "المرافعة العامة" حالات عديدة تبين فيها أن الشرطة تقوم بتكبيل معتقلين لدى نقلهم إلى الفحص النفسي، في إطار الإجراءات القضائية، فضلا عن ربط أيديهم وأرجلهم بالأسرّة طيلة أيام عديدة، في ظروف غير إنسانية تكاد تصل إلى حد المس الخطير بسلامتهم الجسدية والنفسية.
• انعدام الأطر العلاجية المناسبة للقاصرين وذوي الإعاقات:
هناك حالات عديدة من الزجّ بقاصرين أو بأشخاص يعانون من إعاقات عقلية أو نفسية خطيرة، تكاد تصل إلى حد التخلف العقلي، في المعتقلات لفترات اعتقال طويلة ومتواصلة، لمجرد انعدام الأطر العلاجية المناسبة لهم. وعلى الرغم من الحاجة الملحة التي يفرضها الواقع، لم تحرك السلطات المختصة ساكنا لإقامة وفتح مثل هذه الأطر، مما "يضطر" إلى الزج بهؤلاء القاصرين وذوي الإعاقات في المعتقلات والسجون!