المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1434

بات واضحا في الآونة الأخيرة أن أفيغدور ليبرمان، زعيم حزب "يسرائيل بيتينو (إسرائيل بيتنا)"، يبحث بشكل جدي عن جمهور مصوتين جديد يدعمه، بعد أن فقد بنسبة كبيرة جدا جمهور المهاجرين الجدد، الذين خيّب آماله على مدى السنين، اضافة الى أنه ليس عنوانا للمستوطنين واليمين المتشدد، فهناك من ينافسه في عنصريته، ولهذا هو يدرك أن بقاءه على الساحة السياسية في الانتخابات المقبلة، مشروط بأن يصل إلى جمهور جديد يكون عنوانا له. وكما يبدو فإن الجمهور المستهدف هو جمهور يميني، يعارض المتدينين المتزمتين، ويعتبر أحزابهم ابتزازية لخزينة الدولة. وخطوة ليبرمان الأولى تجاه هذا الجمهور كانت عدم انضمامه إلى حكومة بنيامين نتنياهو الجديدة.

فقد حصل "يسرائيل بيتينو" في الانتخابات الأخيرة على نسبة 5% من الأصوات، ضمنت له 6 مقاعد. ومن غير الممكن معرفة قوة هذا الحزب الحقيقية في الانتخابات قبل الأخيرة (2013)، بعد أن كان ليبرمان قد تحالف انتخابيا مع حزب "الليكود" بزعامة بنيامين نتنياهو، إلا أن الحزبين خسرا في حينه أكثر من 25% من المقاعد البرلمانية التي كانت لهما معا قبل تحالفهما، في حين أن ليبرمان كان قد حصل في انتخابات 2009 على أكثر من 11% من الأصوات وضمنت له 15 مقعدا، وفي انتخابات 2006 حصل على 9% من الاصوات، وحصل على 12 مقعدا.

وقد يكون ليبرمان وحزبه قد تأثرا من فضيحة الفساد المتشعبة التي تتورط بها شخصيات من حزبه، ومنهم من سيمثل أمام المحاكم قريبا. ولكن ليس هذا أساس تراجع ليبرمان، بل إن الأساس تراجعه بين جمهور مصوتيه التقليدي، الذي رافقه منذ أن ظهر ليبرمان مؤسسا لحزب "يسرائيل بيتينو"، في انتخابات العام 1999، وهو جمهور المهاجرين الجدد، وبالأساس من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، اضافة إلى جمهور مؤيدين من المعادين للعرب.

وفي كل واحدة من حملاته الانتخابية، سلّط ليبرمان خطابه العنصري ضد الجمهور الفلسطيني في إسرائيل، إلى جانب مواقفه اليمينية المتشددة تجاه حل الصراع. ولكن على صعيد المصوتين، فإن المصوتين من الجمهور العنصري المتشدد ضد العرب لم تكن تصب أصواتههم لصالح ليبرمان، بل كانوا يتجهون أكثر إلى الأحزاب التي تمثل المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة. وإذا ما راجعنا نتائج الانتخابات البرلمانية منذ ظهور ليبرمان، سنجد أن قاعدته في المستوطنات ضعيفة، مقارنة مع الأحزاب التي تمثل المستوطنين، التي أساسها التيار "الديني الصهيوني"، وحزب "الليكود"، رغم أن ليبرمان بحد ذاته مستوطن، من مستوطنة "نوكاديم"، في التكتل الاستيطاني "غوش عتسيون" في منطقة بيت لحم.

في المقابل، رأينا ليبرمان يجذب أصواتا أكثر من جمهور المهاجرين الجدد، بمعنى الذين هاجروا في سنوات التسعين والألفين، ولكن هذا الجمهور تراجع عن تأييده لحزب "يسرائيل بيتينو" لسببين مركزين متوازيين: الأول، خيبة الأمل من ليبرمان وحزبه، الذي لم يضمن لهم على مدى 16 عاما قوانين وأنظمة تسهل عليهم الاندماج في المجتمع، كونهم بالأساس علمانيين، وما زالوا يستصعبون التأقلم مع قوانين وأنظمة الاكراه الديني. ومن أبرز مطالبهم الزواج المدني، وتفعيل حركة المواصلات العامة في أيام السبت والأعياد اليهودية، وتخفيف قيود تطبيق أنظمة "الحلال" وفق الشريعة اليهودية، على قطاع الأغذية من شبكات تسوق ومطاعم وغيرها.

والسبب الثاني، هو أن هذا الجمهور بات يُظهر اندماجا أكبر في سوق العمل الإسرائيلية، والشريحة الأكاديمية المهنية التي اصطدمت مع وصولها إلى إسرائيل بعدم ايجاد وظائف تلائمها قد تقلصت مع السنين. وكلما تحسنت الأوضاع الاقتصادية- الاجتماعية لهذا الجمهور، بات يبتعد أكثر عن "قالب المهاجرين الجدد"، ويسعى للابتعاد أكثر عن "الوصاية السياسية"، التي مارسها ليبرمان، ومن قبله الحزب المنحل "يسرائيل بعلياه"، إذ استخدم الحزبان "جهات" ذات سطوة وقوة في الأحياء والتجمعات التي يسكنها المهاجرون بنسب عالية.

وأمام واقع كهذا، بمعنى أن الخطاب العنصري المتطرف لم يعد عنوانا لاجتذاب كميات مصوتين أكبر، وابتعاد المهاجرين الجدد عنه، بدأ ليبرمان يبحث عن جمهور جديد، يقنعه بالتصويت له.

تلميحات ليبرمان

قبل أقل من أسبوعين، عقد حزب "يسرائيل بيتينو" لقاء لناشطين مركزيين في أحد فنادق البحر الميت، امتد لثلاثة أيام، تباحثوا فيه في وسائل "استنهاض الحزب". ومجرد انعقاد هذا اللقاء، لحزب لا قيمة لمؤسساته وهيئاته، أمام شخص ليبرمان المقرر الأوحد، فإنه يوحي بأزمة ليبرمان. ولكن هناك شك كبير في ما إذا سيكون لهذا اللقاء وزن، رغم أنه ضم منتخبي جمهور من الحزب، وناشطين على مدى سنوات فيه.

اللافت في هذا اللقاء هو ما قاله ليبرمان في كلمته المركزية أمام المجتمعين، إذ قال: "نحن نمثل قطاعا هاما في إسرائيل، القطاع الذي يعمل ويخدم المجتمع، العاملين الذين يدفعون ضريبة الدخل، ومن دون هذا القطاع، فإن الحزب لا يمكنه الاستمرار. إن المس بقانون تقاسم العبء، والغاء مقياس المدخول من العمل، للحصول على أحقية السكن، والغاء القانون الذي يخفف من قيود تهويد الأشخاص، هي أمور نحاربها، ونحن نريد استمرارها في سجل القوانين".

هذا الكلام يؤكد وجهة ليبرمان المركزية في المرحلة المقبلة: فعبارة "الجمهور الذي يعمل ويدفع ضريبة الدخل"، تستهدف جمهور المتدينين المتزمتين "الحريديم"، الذين رجالهم لا ينخرطون في سوق العمل (39% فقط)، ويفضلون البقاء في المعاهد الدينية، يعتاشون على مخصصات اجتماعية، قسطها الأكبر من الخزينة العامة. وكذا بالنسبة لقانون "تقاسم العبء"، فالقصد منه القانون الذي يفرض الخدمة العسكرية الالزامية على شبان "الحريديم"، الذي أقرته الحكومة السابقة قبل نحو عام، وكان من المفروض أن يدخل حيز التنفيذ كليا في العامين 2016 و2017، إلا أن الائتلاف الحكومي القائم اتفق على افراغه من مضمونه، وقد شرع في الأيام الأخيرة بمراحل التشريع.

وكما ذكر هنا سابقا، فإن ليبرمان جعل من بنود اتفاق الائتلاف مع كتلتي "الحريديم"، "شاس" و"يهدوت هتوراة"، سببا مركزيا لعدم الانضمام إلى الحكومة، بينما في خلفية قراره يقف أمران آخران: فليبرمان يريد أن يكون ذا مكانة مركزية في أي حكومة تنشأ، وقوته البرلمانية الضعيفة نسبيا تجعله كتلة اقل شأنا مقارنة بما كان رغم أنه كان سيحصل على حقيبة الخارجية.

وثانيا، أن ليبرمان قرر النظر إلى ما هو أبعد، وإلى مصيره في الانتخابات المقبلة، ولذا رأى أن جلوسه في المعارضة وتغيير أهدافه المركزية، قد يضمن بقاءه على الساحة السياسية لدورة أخرى، مسجلا ذروة غير مسبوقة، من بين أحزاب "الرجل الواحد"، فأمثال حزبه لم تصمد لأكثر من دورة برلمانية، أو دورتين على الأكثر، بينما وجود ليبرمان قائم بشكل متواصل منذ 16 عاما. ورغم ذلك يبقى حزبه مسمى على اسمه، ولم يثبت في أي يوم أنه حزب مؤسسات.

يمين ضد "الحريديم"

يعرف ليبرمان أن مناهضة جمهور "الحريديم"، غير العامل، غير المنتج، وغير المستهلك، والذين لا يخدم في الجيش، ويرفض "تقاسم العبء"، لا يقتصر على الجمهور العلماني اليساري، بل أيضا هناك جمهور علماني يميني، ارتكز عليه في الماضي حزبان: أولهما حزب "تسومت" الذي تزعمه رئيس هيئة أركان الجيش الأسبق رفائيل ايتان، وهناك مواصفات مشابهة لذلك الحزب و"يسرائيل بيتينو"، فرفائيل ايتان الذي مات قبل نحو 10 سنوات وليبرمان من أشد العنصريين ضد العرب.

ونذكر أن ايتان ركّز حملته الانتخابية في العام 1992 على العداء للعرب، والعداء للحريديم، وحصل يومها على 7 مقاعد، بعد أن حصل في العام 1988 على مقعدين. وحصوله على 7 مقاعد كان شأنا كبيرا في تلك الفترة التي كان ما زال فيها حزبا "العمل" و"الليكود" يحصلان معا على ما بين 60% إلى 66% من مقاعد البرلمان.

وتلاشى حزب "تسومت" على ثلاث مراحل: انشقاقه إبان حكومة إسحاق رابين 1992- 1996، ثم اندماجه في تحالف انتخابي مع الليكود العام 1996، وخروجه من السباق الانتخابي في العام 1999. وفي المقابل، فقد ظهر في انتخابات العام 1999 مجددا حزب "شينوي"، الذي هو في الاصل انصهر في حركة ميرتس، في العام 1992. وقاد الحزب المتجدد اليميني المتشدد يوسيف (طومي) لبيد، والد النائب الحالي يائير لبيد، وخاض لبيد وحزبه الانتخابات في ذلك العام، على أساس حملة مناهضة للحريديم، الذين اعتبرهم مبتزين للخزينة العامة وما إلى ذلك، وكل هذا إلى جانب خطاب سياسي يميني واضح.

وصعّد لبيد الأب خطابه ضد الحريديم في انتخابات العام 2003، ليحصل على 13 مقعدا، مقابل 6 مقاعد في انتخابات 1999. ونشير هنا من باب الدقة إلى أن نواب كتلة "شينوي" لم يكونوا كلهم على شاكلة لبيد الأب من ناحية سياسية، بل كان من بينهم من هم أقرب إلى ما يسمى "اليسار الصهيوني". وهذا الحزب أيضا تلاشى كليا دفعة واحدة في انتخابات 2006، لأسباب ليست موضوعنا اليوم.

ومنذ انتخابات 2006، وحتى انتخابات 2015 الأخيرة (4 انتخابات)، لم يظهر أي حزب جعل من مناهضة الحريديم موضوعا مركزيا له في أي من الحملات الانتخابات. إلا أنه بعد تشكيل حكومة نتنياهو بعد انتخابات 2013، ظهرت الكتل الثلاث "يوجد مستقبل" بزعامة يائير لبيد (الابن)، و"البيت اليهودي" بزعامة نفتالي بينيت، و"يسرائيل بيتينو" بزعامة أفيغدور ليبرمان، في أشبه بمعسكر واحد يطالبون باستبعاد "الحريديم" عن الحكومة، وفرض التجنيد الالزامي على شبانهم، وتقليص ميزانيات معاهدهم الدينية، وأيضا ضرب مخصصات الأولاد، لكل عائلة لديها أولاد دون سن 18 عاما. وقد تم تطبيق كل هذا، إلى أن تشكلت الحكومة الحالية، واتفقت مركباتها على نسف كل تلك القرارات والسياسات.

ورغم أن جمهور اليمين المناهض للحريديم، لم يظهر تحت يافطة أي من الأحزاب في أي من الانتخابات بعد العام 2003، إلا أنه ما زال موجودا، ويعرف بوجوده ليبرمان ذاته، ونعطي عدة مؤشرات لهذا:

أولا- حركة جيش الاحتياط: في السنوات الأخيرة هبت في عدة جولات حركات احتجاج لجنود الاحتياط، الذين طالبوا بتحسين شروط خدمتهم في الجيش، ووضع حد لظاهرة التهرب من خدمة الاحتياط، ولكن الأهم من ناحيتهم، فرض الخدمة العسكرية على شبان الحريديم، تحت شعار "تقاسم العبء".

ثانيا- حركة المطالبة بتسيير حافلات عامة في أيام السبت: فبعد الانتخابات الأخيرة بأسبوعين، انتقد وزير المواصلات من حزب الليكود، يسرائيل كاتس، المطالبات بتسيير حافلات عامة في أيام السبت والأعياد اليهودية، واعتبرها مطالبة "يسارية" رافضا تغيير الوضع القائم، وقد اثارت تصريحاته غضبا واسعا في الشارع، ليظهر ناشطو يمين علمانيون كي يعلنوا أنهم هم أيضا يقفون وراء هذا المطلب وليس فقط اليسار. ما يعني أن هذا الجمهور من ناحية ليبرمان ما زال قائما، ويحتاج إلى اطار سياسي يجمعه.

رهان ليبرمان

برغم ما يخطط له ليبرمان، فإن مستقبله يبقى غامضا، خاصة على ضوء ملف الفساد الذي يعصف بحزبه. فكما أنه لا أحد يعلم من الذين حرّك هذا الملف وأثاره دفعة واحدة في أوج الحملة الانتخابية السابقة، فلا أحد يعلم، متى ستنتشر "نيران التحقيق" لتصل مجددا إلى أطراف ليبرمان، أو إليه هو بحد ذاته، هذا إذا لم تنشأ قضايا أخرى.

يقرأ ليبرمان تقديرات المستقبل بشأن التركيبة الديمغرافية للمجتمع، وعلى ما يبدو انتبه إلى الارتفاع الحاد في نسبة الحريديم من بين السكان، بما يزيد عن 13%، وأنهم أكثر من 15%، من بين اليهود، وهذه نسب ترتفع باستمرار، ما سيجعلهم عرضة لانتقاد أوسع، لأن إحجامهم عن الانخراط في سوق العمل بنسب طبيعية ورفضهم الانخراط في الجيش، سيزيدان النقمة عليهم في الشارع.

إلا أنه سيكون على ليبرمان اقناع ذلك الجمهور اليميني بمدى التصاقه بشعاراته، فمثلا أن لا ينضم خلال الولاية البرلمانية إلى الائتلاف القائم، طالما انه تجاوب مع مطالب الحريديم، أضف إلى هذا مدى قناعة هذا الجمهور بأن ليبرمان أصلا سيبقى على الساحة السياسية بعد دعمه له.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات