سعت إسرائيل على مدار العقود الماضية إلى تحويل مجال صناعة التقنيات العسكرية والأمنية وتطويرها إلى مصدر قوة، وقد تمكّنت بالفعل من أن تحجز لها مكانة متقدّمة حتى في أوساط الدول الرائدة عالمياً في هذا المجال، ويعزى ذلك، بشكل كبير، إلى وجود "ميزة" فريدة تمنحها أفضلية لتحقيق "نجاحات" في هذا المجال تتمثل باستمرار احتلال الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ما يوفّر لها ساحة مفتوحة لاختبار هذه التقنيات والمنظومات، والتأكد من فعاليتها بناءً على مبدأ التجربة والخطأ. غير أنّ صبيحة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أدّت إلى انتكاسة إسرائيلية في هذا المضمار، أثرت على قدرتها على تسويق هذه التقنيات بسبب الضربة الكبيرة التي تعرّضت لها وتحديداً في ما يتعلّق بالجدران العازلة، والتقنيات الأمنية في المناطق الحدودية.
شكّل هجوم طوفان الأقصى في صبيحة 7 أوكتوبر ضربة استراتيجية غير مسبوقة لإسرائيل على مستويات عدّة. أحد أهم هذه المستويات تمثّل في مجال التقنيات العسكرية والأمنية الذي تعرّض إلى ضربة من الصعب التنبّؤ بمداها وتأثيراتها على المدى البعيد. وعلى غرار سعي إسرائيل المحموم لإعادة ترميم "الردع" بعد السابع من أكتوبر، تسعى لإعادة الاعتبار لنفسها في هذا المجال، إلى جانب ما تُشكّله الحرب التي تشنّها على غزة من "فرصة" كبيرة لها بوصف القطاع ميدان اختبار وتجارب للأسلحة والتقنيات الجديدة، إلى جانب نزعات الانتقام والرغبة في إعادة ترميم "الردع".
منذ سبعينيات القرن الماضي، بدأت إسرائيل تشهد صعوداً كبيراً على المستوى العالمي في مجال التقنيات العسكرية والأمنية، وقامت بتطوير العديد من التقنيات والبرامج العسكرية- الأمنية منذ ذلك الحين بشكل مكثّف وسريع، ما أكسبها تفوقاً ملحوظاً في هذا المجال وعزّز من مكانتها، ناهيك عن العوائد الاقتصادية الكبيرة؛ إذ شكّل اقتصاد التقنيات والتجسس مصدر دخل كبير للاقتصاد الإسرائيلي، وكل ذلك ساهم في تحويل إسرائيل إلى دولة رائدة عالمياً في السنوات الماضية في مجال صناعة الجدران والتقنيات الأمنية والعسكرية. في مساهمات سابقة، تناولنا جزءاً من التقنيات العسكرية والأمنية التي عملت إسرائيل على اختبارها، أو تطويرها، خلال الحرب على غزة مثل تقنية "معطف الريح" التي تستخدم كسترة واقية للدبابات الإسرائيلية في سلاح المدرّعات من الأجيال المتقدّمة، وكذلك منظومة الدفاع الجوي "سهم 3" التي خضعت لأول تجربة عملية ناجحة في هذه الحرب خلال التصدّي للصواريخ البالستية القادمة من اليمن. وهذه المساهمة تُسلّط الضوء على بعض الوسائل والتقنيات التي يتم استخدامها من قِبَل الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب بهدف استبدال "العنصر البشري"- الجنود ببرامج ومنظومات تحكّم عن بُعد استناداً إلى مبدأ عمل الطائرات المسيرة غير المأهولة، وذلك من أجل التخفيف من حاجتها لقوات كبيرة، بالإضافة إلى هدف التقليل من الخسائر في صفوف الجنود والضباط، في ظل تزايد أعداد القتلى والجرحى في بداية "المناورة البرية" في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي.
تُشير العديد من المصادر الإسرائيلية إلى أن الجيش عمل على توظيف وسائل وأدوات جديدة للتحكّم عن بُعد بكثرة في الحرب الحالية في غزة في أذرعه الثلاثة (البر، البحر والجو)، يتأتّى ذلك من دافع التطبيق العملي للعديد من الاختبارات وعمليات التطوير التي تُجريها الجهات ذات الصلة داخل الجيش أو في شركات التصنيع العسكري والحربي في إسرائيل، ناهيك عن الرغبة في إعادة الاعتبار لإسرائيل في هذا المجال، وما يُشكّله من عوائد اقتصادية ضمن ما بات يُعرف بـ "اقتصاد التقنيات العالية" في المجالين الأمني والعسكري، وليس أقل أهمية أن التوظيف الأمثل لهذه الأدوات والتقنيات من شأنه التقليل من الاعتماد على الجنود في تفعيل الآليات والمركبات والوسائل العسكرية المختلفة، الأمر الذي يجعلهم عرضة للاستهداف.
وعلى الرغم من أن الكثير من التقارير والدراسات تُشير إلى استحالة الاعتماد الكلّي على الوسائل التكنولوجية والتقنيات كبديل للعنصر البشري - أعاد اللواء المتقاعد إسحق بريك جزءا من الفشل في هجوم طوفان الأقصى لاعتماد الجيش المفرط على التقنيات الرقمية ووسائل التكنولوجيا- فإن إسرائيل تحاول الاستفادة من التطوّر الرقمي وتوظيفه قدر الإمكان في الحرب الحالية على غزة التي تتعامل معها على أنها ميدان اختبار، وقد ظهر هذا الأمر في اعتماد سلاح الطيران خلال الأشهر الأولى من الحرب على منظومات الذكاء الاصطناعي في توليد بنك أهداف للطيران، ما أدّى إلى مجازر وعمليات تدمير غير مسبوقة في العصر الحديث.
لوحظ من خلال بعض المقاطع المصورة التي بثّها الجيش الإسرائيلي لعملياته في قطاع غزة أن هناك بعض الوسائل التكنولوجية التي يتم استخدامها في بعض الأحيان في عمليات تفتيش الشقق والمنازل، وكذلك في التأكّد من خلو الأنفاق من المقاتلين أو الفخاخ قبل دخول الجيش إليها وتدميرها. كذلك، جزء من هذه المقاطع أظهرت عمليات استهداف وتصفية للمقاتلين التابعين لفصائل المقاومة أو حتى لبعض المدنيين عن بُعد.
وترجمةً لعملية توظيف الوسائل التكنولوجية والرقمية في الحرب، أعلن الجيش الإسرائيلي خلال الأسابيع الماضية عن استخدام بعض التقنيات والمعدّات لأول مرة في حروب إسرائيل، إحداها جرافة "الباندا" من نوع D-9 التي تستخدم للكشف عن العبوات الأرضية وإنقاذ ناقلات الجند المدرعة تحت النيران وهدم المنازل أيضاً، حيث يعمل هذا النوع بواسطة أدوات تحكّم عن بُعد تُشبه تماماً تلك المستخدمة في ألعاب الفيديو بدون الحاجة إلى وجود عنصر بشري داخلها، وقد تم تطوير أداة التحكّم هذه بواسطة الصناعات الجوية الإسرائيلية، وتم إدخالها لأول مرة في الحرب بعد أسابيع من بدء "المناورة البرية"، في محاولة لتقليل الخسائر في صفوف الجنود، مع ازدياد استهداف هذه الآليات بواسطة الصواريخ المحلية وغير المحلية المضادة للدروع في القطاع.
وأعلن الجيش الإسرائيلي خلال الأسابيع الماضية أنه قد أدخل إلى ميدان القتال في القطاع مدرعات غير مأهولة بأرضية من نوع 113-M تُشبه تلك التي كانت تُستخدم في سبعينيات القرن الماضي، حيث يتم استخدام هذه المدرعات من أجل نقل الوسائل والمعدّات القتالية، وأيضاً بهدف الكشف عن أماكن المقاتلين الذين يقومون باستهداف هذه المدرعات، ومن ثم توجيه ضربات جوية أو من الأرض من خلال تقنيات الربط بين القوات المختلفة في الجو والبحر والبر، وعلى الرغم من ذلك، فإن دمج هذه التقنيات في سلاح الدبابات بشكلٍ عام ما زال يواجه صعوبة كبيرة حيث لا تزال المدرعات والدبابات تحتاج إلى العنصر البشري لإطلاق النيران، كذلك أشارت المصادر إلى أن الجيش أدخل الجيل الجديد من الدبابات الإسرائيلية الشهيرة "ميركافا" الجيل الخامس من نوع "باراك" ضمن الكتيبة 401 التابعة لسلاح المدرّعات في الأسابيع الأخيرة، التي يُمكن أن تُكون مناسبة أكثر للقتال على الجبهة اللبنانية مع حزب الله نظراً لطبيعة التضاريس هناك، بالإضافة إلى العمل الحثيث لإدخال نوع جديد ومحسّن من ناقلات الجند المدرعة لاستبدال نظيراتها من نوع "إيتان" و"النمر" التي يستخدمها الجيش في السنوات الأخيرة في الضفة الغربية.
وفي سلاح الجو، تُشير المصادر الإسرائيلية إلى أن الجيش أدخل بعض الوسائل العسكرية (غير المأهولة) من أجل الكشف عن مواقع اختباء المقاتلين؛ حيث طور قسم التكنولوجيا في الجيش عشرات الأنواع من الطائرات بدون طيار (Doron) صغيرة الحجم (لجمع المعلومات ومهمات التفتيش داخل المنازل والأنفاق قبل دخول الجيش إليها)، كما أن بعضها مزوّد بوسائل متقدّمة لإطلاق النار والتصويب باستخدام أدوات تحكّم عن بُعد (أهمها "ماعوز" التي تستخدمها وحدة "الكوماندوز" ومصممة لمهاجمة 4-5 أهداف في كل رحلة بواسطة قنابل يدوية). وقد اصطدم تفعيل غالبية هذه الوسائل والأدوات بمعيقات الشحن السريع في ميدان القتال إلى أن تمكّن قسم التكنولوجيا الأرضية في الجيش (حاتال) وقسم التكنولوجيا واللوجستيات (باتال) من توفير بدائل تكنولوجية ذات صلة للمواءمة بين حاجات الشحن السريع وانعدام وسائله في الميدان عبر تقنيات ووسائل خاصة بذلك. من ناحية أخرى، تعمل أقسام التطوير في الجيش والصناعات العسكرية على تطوير بعض الأدوات التكنولوجية في أعقاب استهداف حماس وحزب الله لوسائل المراقبة والتجسّس في المنطقة الحدودية مع غزة وعلى الجبهة الشمالية وتدميرها منذ السابع من أكتوبر.
على الجهة المقابلة، يُمكن القول إن المبالغة الإسرائيلية في الترويج لنجاح بعض التقنيات والأسلحة الجديدة في الحرب الحالية يأتي في جزء منه لمحاولة التعويض عن الأضرار التي مُني بها هذا القطاع في هجوم طوفان الأقصى، وكذلك للتعويض عن الفشل في إيجاد الحلول التكنولوجية والرقمية للعديد من المعضلات التي ما زالت تواجه الجيش الإسرائيلي وفي مقدّمتها مشكلة الأنفاق على الرغم من الترويج الإسرائيلي لاستخدام تقنية إغراقها التي ثبت فشلها، حيث تُشير العديد من التقارير، وكذلك الخبراء الإسرائيليون، إلى أن إسرائيل ما زالت عاجزة عن الوصول إلى حل لمواجهة هذا السلاح على الرغم من توظيف الإمكانيات الهندسية والاقتصادية الكبيرة.
يبقى القول، إن كل الوسائل والتقنيات التكنولوجية التي استثمرت فيها إسرائيل على مدار العقدين الماضيين لم تنفعها في هجوم طوفان الأقصى، وعلى الرغم من ذلك، يستمر العديد من المستثمرين في ضخ الأموال في الشركات الناشئة وشركات الصناعات العسكرية والتقنيات الأمنية بهدف إعادة تسويق إسرائيل كدولة رائدة في هذا المجال، وسط توقّعات أن يشهد العام 2024 زيادة كبيرة في المبيعات الإسرائيلية من الأسلحة والتقنيات العسكرية- الأمنية. ومع استمرار تعثّر الجيش في تحقيق أهداف الحرب التي وضعها المستوى السياسي، تتحوّل الحرب بالنسبة إلى الجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية إلى أداة لزيادة العنف المروّع للتعويض عن محاسبة النفس من الفشل، وكذلك إلى فرصة لتسويق الأسلحة والتقنيات من خلال سياسة "الربح من الدم".