المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 2058
  • عبد القادر بدوي

مع اقتراب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة من دخول الشهر الرابع، وفي ظل غياب أية إنجازات عسكرية واضحة في ما يتعلق بأهداف هذه الحرب التي وضعتها إسرائيل لنفسها (القضاء على حركة حماس واستعادة المخطوفين الإسرائيليين)، تتزايد الشكوك حول رغبة إسرائيل في تحويل الكارثة الإنسانية- غير المسبوقة- التي أحدثتها بفعل القصف والاجتياح البري والتهجير القسري الداخلي في قطاع غزة، لـ "ميزة/ أفضلية" في ظل محدودية نسبية للتفوق العسكري والاستخباري في إحداث تفوق حقيقي على الأرض.

في تصريحات سابقة، تحدث المسؤولون العسكريون في إسرائيل في إطار توجيه التهديدات لحزب الله والدولة اللبنانية أن أية حرب مقبلة مع الحزب ستعيد فيها إسرائيل لبنان إلى العصر الحجري، ولم يكن المقصود من تلك التهديدات ربّما حجم التدمير الذي ستلحقه إسرائيل بحزب الله والبنية التحتية العسكرية للحزب فقط؛ وإنما أيضاً إعادة المكان الذي يُعد بموجب القاموس العسكري الإسرائيلي "حاضنة للمنظمات المقاتلة" إلى "العصر الحجري"، أي غير صالح للحياة الآدمية بكل ما يحمله هذا المصطلح من معانِ وأبعاد. فالتدمير الذي يتم إلحاقه بالبنية التحتية المدنية: المستشفيات، المدارس، المياه، الكهرباء، الصرف الصحي، المعاهد والجامعات، الكنائس والمساجد، الطرق والمرافق العامة وغيرها، هو الذي سيُشكّل "العصر الحجري" ليُصبح ماثلاً أمام الأشهاد في العصر الحديث.

بالنظر إلى ما يحدث في قطاع غزة، فإن التدمير الذي ألحقته إسرائيل وآلتها العسكرية بالقطاع، وتحديداً بالبنية التحتية المدنية بكافة مكوناتها- وإن كان جزء من هذا التدمير تأتّى من غريزة انتقامية وللتعويض عن الفشل العسكري المستمرّ منذ صبيحة السابع من أكتوبر- لا يُمكن فصله عن مقاصد التصريحات الواردة أعلاه. وقد بات من الواضح أن المساعي الإسرائيلية في هذه المرحلة، والمرحلة المقبلة، هي تحويل "الكارثة" إلى سلاح يُكسبها ميزة وأفضلية بالمعنيين العسكري والسياسي في القطاع، خصوصاً مع ازياد النقاش حول اقتراب الانتقال لـ "المرحلة الثالثة" من "المناورة البرية" في قطاع غزة التي انطلقت نهاية تشرين الأول المنصرم.

بين عقيدتي الصدمة والضاحية؟

إن صورة شاملة لعمليات القصف التي نفّذتها الطائرات الإسرائيلية في القطاع تُشير، بشكلٍ لا يدع مجالاً للشكّ، إلى أن التدمير الشامل الذي تم إحداثه في القطاع لم يكن عشوائياً بدافع انتقامي فقط (وإن اشتمل على ذلك في أحيانٍ عديدة)، بل أيضاً كان يهدف إلى تحقيق "ردع" عبر "كي الوعي" للحاضنة الشعبية والسياسية للمقاومة الفلسطينية. هذه الحاضنة يُنظر إليها في إسرائيل كجمهور "مُعادٍ" استناداً إلى معادلة "كل مواطن غزي هو حماس" في إطار عملية خلق شرعية للقصف والتدمير، وبالتالي، فإن استهداف حماس يكون باستهداف كل البنية التحتية المدنية والمنازل والمدنيين في قطاع غزة بدون استثناء، هذا الأمر، عبّر عنه الكثيرون في إسرائيل ولم يقتصر الأمر على بعض الإعلاميين والمحللين في بداية الحرب على الأقل. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا السلوك وإن كانت تُحرّكه النزعات الانتقامية بشكلٍ أساس؛ إلّا أن اعتباره كذلك فقط يُجرّده من "الإرادة السياسية" وبالتالي يُعفي إسرائيل الدولة من المسؤولية عن عمليات الإبادة الجماعية والتدمير الشامل وبشكلٍ غير مسبوق في التاريخ الحديث. لذلك، نُحاول هنا أن نفهم هذا النهج التدميري في ضوء نظريتين: عقيدة الصدمة لناعومي كلاين، وعقيدة الضاحية التي طورّها غادي آيزنكوت، وهذه لطالما شكّلت مُحدّدات مركزية في سلوك إسرائيل تجاه العرب والفلسطينيين على مرّ السنوات الماضية.

من ناحية، تُشير ناعومي كلاين إلى أن فعل "الصدمة" للأفراد والجماهير التي تم استلهامها من تجارب داخل السجون على مرّ السنوات خلال القرن العشرين تم الاستفادة منه في الاستراتيجية العسكرية الأميركية في ما بات يُعرف بـ "الصدمة والترويع" بهدف تحقيق أمرين: الأول الأهداف العسكرية بالاستيلاء على الأرض، والثاني تحويل المجتمع المقصود إلى ما يُشبه الرضيع أو "مجتمع بدائي- ما قبل وطني" يتحول فيه الأفراد إلى أشخاص أكثر قابلية للخنوع والتعلّم بشكل يُشبه الصفحة البيضاء، بعبارة أخرى، كلّما كان التدمير شاملاً وكاملاً كلّما نجحت الصدمة في تحويل الأفراد والجماعات إلى لوح أكثر نقاءً وبياضاً تُمكّن مرتكِب "فعل الصدمة" من كتابة/ إملاء ما يُريد من مفاهيم (أو مسح للمفاهيم) وليس فقط تحقيق الإنجازات العسكرية. صحيح أن كلاين تستعين بما حدث في الولايات المتحدة الأميركية بعد هجوم الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، وفي المقابل مساعي الولايات المتحدة لتطبيق ذلك في العراق على الصعيدين النفسي والعسكري، إلّا أن هذا المفهوم يُقدّم تصوراً لما ترتكبه وتسعى إسرائيل لتحقيقه في المجتمع الغزي في الحرب الحالية.

ففي تحقيق استقصائي أجرته مجلة +972 وموقع "سيحا مكوميت" تناول الآلية التي عملت فيها إسرائيل على خلق ما أطلقت عليه "معمل الاغتيالات الجماعية" في قطاع غزة من خلال آليات ووسائل "مُبتكرة" لإنتاج أهداف في غزة بشكلٍ مستمر، تم تسليط الضوء على أن هناك تصنيفاً لهذه الأهداف من بينها ما يُعرف في القاموس العسكري الإسرائيلي "أهداف تنطوي على قوة". هذه الأهداف، كما تُخبرنا بها الأدبيات العسكرية الإسرائيلية نفسها، هي مدنية بالكامل تشتمل على المباني الشاهقة والأبراج السكنية في قلب المدن، والمرافق العامة مثل الجامعات والبنوك والمكاتب الحكومية، بحسب التحقيق، فإن الهدف من وراء استهداف وتدمير هذه الأهداف، بناءً على شهادة ثلاثة مصادر استخباراتية شاركت في تخطيط أو تنفيذ ضربات على هذه الأهداف في الماضي، هي أن الهجوم المتعمّد على المجتمع الفلسطيني سيمارس "ضغطاً مدنياً" على حركة حماس، إذ أن الجيش الإسرائيلي قد أولى في المراحل الأولى من الحرب الحالية، تركيزاً خاصاً لهذه الفئة من الأهداف، مستنداً- من بين أمور أخرى- إلى تصريحات الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي في 11 تشرين الأول، خلال الأيام الخمسة الأولى من القتال، اعتبرت نصف الأهداف التي تم قصفها – 1329 من أصل 2687 – من نوع "أهداف تنطوي على قوة". وكما أشار التقرير، فإن الهدف من هذا السلوك التدميري هو خلق حالة غير مسبوقة من الهلع والخوف بالتزامن مع خلق شعور واسع في أوساط المدنيين بأن حماس لا تسيطر على الوضع في القطاع- "حالة الصدمة" في أبرز تعابيرها، لتحقيق أهداف عسكرية في المقام الأول، ومن ثم أن هذا السلوك غير المكبوح، والتدمير الشامل والكامل وهو ما من شأنه خلق ردّة فعل شعبية ضد حماس، بمعنى آخر، إن التدمير الشامل والصدمة التي يُنتجها من شأنهما تحويل المواطنين المدنيين في قطاع غزة لصفحات أكثر نقاءً/ بياضاً تستطيع إسرائيل إملاء شروطها ومفاهيمها في المدى البعيد ومن ضمنها إحداث تغيير أيديولوجي في أوساط السكان القطاع علاوةً على الهدف العسكري ذي الأولوية والمتمثّل في القضاء على حركة حماس.

من ناحية أخرى، وليس بعيداً عما هو وارد أعلاه، فإن نهج التدمير الذي اتّبعته إسرائيل في هذه الحرب قد صيغ عملياً في تجارب سابقة تُحاكي النهج التدميري الذي يُعرف بالأدبيات العسكرية الإسرائيلية بـ "عقيدة الضاحية" التي تمت بلورتها في حرب لبنان الثانية العام 2006، وتطورت على يد غادي آيزنكوت خلال شغله منصب وزير الدفاع، والتي يُمكن اختصارها بالجملة التالية: "يجب على إسرائيل أن توجه القوة الساحقة وغير المتناسبة في الحرب مع المنظمات- أقل من دول- مثل حماس وحزب الله في استهداف البنية التحتية المدنية بهدف الوصول إلى حالة من "الردع" في أوساط السكان، ما سيدفع بهم إلى الضغط على هذه المنظمات لوقف القتال أو الاستسلام تحت وطأة التدمير الكبير. وفي كلتا الناحيتين، يبدو أن الهدف العسكري، والاجتماعي- السياسي للتدمير والكارثة الإنسانية لا ينفصلان، ويقودان إلى نتيجة واحدة: الانتصار العسكري على حماس، والتغيير الأيديولوجي في صفوف المدنيين (الردع وتغيير المفاهيم).

التدمير والكارثة الإنسانية سلاح إسرائيل في المرحلة الثالثة من الحرب؟

على وقع التسريب عن وجود خلافات بين أعضاء كابينيت الحرب في إسرائيل حول احتمالية الانتقال للمرحلة الثالثة من "المناورة البرية" أو بعيداً عنها، تبرز حاجة مُلحّة للإجابة على سؤال ما هو شكل المرحلة المقبلة، ليس على مستوى الشكل العسكري الذي باتت تتحدّد معالمه في كتابات وتصريحات المسؤولين الرسميين والإعلاميين، بل على صعيد مستقبل الحياة المدنية في القطاع في ظل الحديث عن مرحلة طويلة نسبياً مقارنةً بالمراحل السابقة التي امتدت لثلاثة أشهر تقريباً.

منذ بداية الحرب، استخدمت إسرائيل الكارثة الإنسانية (العصر الحجري كما أوردناه في بداية المساهمة) التي أحدثها القصف والتدمير العنيف وغير المسبوق على قطاع غزة كسلاح ضد حركة حماس في محاولة لتركيعها أو فرض شروطها السياسية والعسكرية، وفي أحيانٍ أخرى للضغط في المفاوضات حول إبرام صفقة تبادل، وليس أوضح من ذلك كل التهديدات الإسرائيلية المطالبة بضرورة وقف إدخال كافة الوقود والمساعدات الإنسانية لقطاع غزة وإحكام الحصار بالإضافة إلى قطع الماء والكهرباء والإنترنت وغيرها من أدوات الحصار والتجويع. وعلى الرغم من أن إسرائيل تعاملت بنوع من "الذكاء" و"الخدعة" في هذا الملف تحديداً بعد أن أسدلت الستار على هذا النقاش بعقد هدنة مؤقتة تضمنت إدخال جزء يسير من المساعدات الإنسانية التي لا تُلبّي احتياجات المدنيين في قطاع غزة؛ إلّا أن هذا الأسلوب لن يكون ناجعاً في حال انتقلت إسرائيل إلى شكل قتالي "أقل كثافة" كما تقول، بشكل يخلق انطباعاً بأن الحرب بشكلها الواسع والكبير توقفت وأن التركيز سيكون على نموذج "الإغارة" أو "الإحباطات المركزة" بالتزامن مع استمرار حرمان المدنيين من الحقوق الأساسية كالسكن والمشرب والمأكل والعلاجات وغيرها من الاحتياجات، أي تحويل القطاع إلى "منطقة حربية".

إن مرحلة ما بعد الصدمة في قطاع غزة، هي مرحلة تتسم على نحو خاص ببروز حاجة المواطنين المدنيين في قطاع غزة إلى وقف المعاناة والكارثة الإنسانية المستمرّة منذ قرابة 3 أشهر، وفي الوقت الذي يعوّل فيه هؤلاء على أن وقف القتال، أو تخفيف شكل القتال قد يدفع بهذا الاتجاه، تعوّل إسرائيل على استخدام هذه الحاجة لزيادة الضغط على حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية. إذ أن الضغط العسكري ومحاولة استنزاف حركة حماس على مدار أشهر طويلة قد تمتد لتسعة أشهر إضافية بعد الانتهاء من المرحلة الحالية، بالإضافة إلى الإبقاء المستمر لفترة طويلة تمتد لنفس الفترة من معاناة المدنيين في القطاع مع انعدام البنية التحتية المدنية المؤهلة لاستئناف الحياة المدنية في القطاع، وتحديداً في شمال القطاع، سيترتب عليه ضرورات وحاجات بالنسبة للمدنيين الذين ينتظرون انتهاء الحرب لانتهاء الكارثة الإنسانية، التي تراهن إسرائيل على أن تستخدمها (إلى جانب الضغط العسكري) من أجل فرض ما تريد وترغب على حركة حماس من خلال استغلال الكارثة كسلاح في المواجهة، عملاً بنظريتي الصدمة والضاحية التي تمت الإشارة إليهما بنوع من التفصيل في الجزء الأول من المساهمة، وهذا من ناحية. من ناحية أخرى، لا تُخفي إسرائيل رهانها على أن تحقيق أحد أهداف هذه الحرب الذي لطالما تحدّث عنه المسؤولون الإسرائيليون، وليس آخرهم بنيامين نتنياهو، والمتمثّل في الرغبة بإحداث "تغيير أيديولوجي في أوساط السكان"، والتهجير القسري للسكان المدنيين تحت شعار "تشجيع الهجرة الطوعية" وليس فقط "الردع" في غزة، يُمكن من خلال استغلال آثار وتبعات "الصدمة" في أوساط السكان، هذه "الصدمة" وآثارها ستبرز بشكلٍ واضح في المرحلة المقبلة والطويلة، مع استمرار شلل الحياة المدنية في القطاع، واستمرار تحكّم إسرائيل في موعد استئنافها وكل الظروف والشروط المحيطة بهذه العملية في ما بات يُعرف إسرائيلياً بـ "اليوم التالي للحرب"، واستمرار ربط كل هذه الملفات بانهيار أو تسليم حماس للشروط الإسرائيلية.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات