المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
مدينة اللد: سيارة مملوكة لعائلة عربية محترقة يوم 25 أيار 2021. (أ.ب)
مدينة اللد: سيارة مملوكة لعائلة عربية محترقة يوم 25 أيار 2021. (أ.ب)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1295
  • د. هنيدة غانم

قبل نحو عام، في 18 أيار 2021، انتشر مقطع فيديو مصوّر عبر وسائل التواصل الاجتماعي يظهر فيه شابان عربيان من يافا يهاجمان حريدياً بعنف، تبين لاحقاً أنه الحاخام إلياهو مالي، رئيس المدرسة اليهودية، أعقب ذلك اعتقال شابين في الثلاثينات من العمر بتهمة الاعتداء على الحاخام. بناءً على ما تم نشره لاحقاً في الصحف؛ فإن الحاخام مالي وصل برفقة المدير العام للمدرسة الدينية إلى مدينة يافا لشراء شقة سكنية قبل أن تحاصرهما مجموعة من الشبّان العرب وتشتمهما. والحاخام والمدير العام للمعهد اليهودي حاولا توثيق الهجوم عليهما، قبل أن تبدأ المجموعة بضربهما.

أثار الحدث إدانات واسعة، التي ركّزت على مقولة "العرب يعتدون على اليهود"، وقد تم موضعة الحدث كتلك الحوادث التي تعرّض فيها اليهود لاعتداءات وهجمات على خلفية معاداة السامية، حيث اعتبر رئيس حزب "يمينا" حينها، رئيس الحكومة الإسرائيلية اليوم، نفتالي بينيت:

"دولة إسرائيل ليست "شطاعطل" حيث يُمكن الاعتداء على اليهود؛ إن العنف الشديد والصارخ الذي تعرّض له الحاخام إلياهو مالي، رئيس المدرسة الدينية في يافا، هما وصمة عار قومية". وتابع: "إننا نشهد سلسلة من الهجمات والاعتداءات التي يقوم بها مثيرو الشغب العرب ضد اليهود الملتزمين بالتوراة بشكل متعمّد وصارخ ونابع من معاداة السامية، يجب على الشرطة والجهاز القضائي أن يضربا بيد من حديد كل مظاهر معاداة السامية في بلادنا، وإنزال أقصى العقوبات ضد مرتكبي هذه الجرائم".

عضو الكنيست سامي أبو شحادة، من حزب التجمع الوطني الديمقراطي، وأحد سكّان المدينة، أعاد الأمر في مقابلة إعلامية في أعقاب الحوادث في يافا إلى مشروع الاستيطان، وأضاف: "منذ النكبة هناك أغلبية راسخة في يافا، اليهود والعرب يعيشون هنا في المدينة، قبل أن يأتي مشروع الاستيطان، والذي يُعتبر الحاخام إلياهو مالي من ضمن قيادته، حيث قال بشكل واضح: ’يجب الاستيطان في القلوب’".

وأضاف أبو شحادة: "أنا أؤيد المدن المختلطة، وأؤمن بالتعددية الثقافية، لأنني أؤمن أن هذه التعددية هي سعادة بشرية/ ظاهرة بشرية طبيعية، لكن المشكلة ليست في حيّ العجمي ولا بين سكّان يافا اليهود والعرب، وإنما تكمن في ذلك المشروع السياسي (المشروع الاستيطاني) الذي يُعارض من حيث المبدأ المدن المختلطة".

بعد مرور أقل من شهر على أحداث يافا، اندلعت في جميع أنحاء البلاد؛ من النهر إلى البحر، "انتفاضة مصغّرة" كان من أبرز معالمها تسييل الخط الأخضر باتجاهين: من جهة، إذابة الحدود بين الفلسطينيين واعادة انتظام الفلسطينيين في جماعة قومية واحدة تتجاوز كل التقسيمات الجيو- سياسية للقضية الفلسطينية، ومن جهة أخرى إعادة تدوير نموذج المشروع الاستيطاني ونقله من تلال الضفة الى داخل الخط الأخضر.

على الصعيد الفلسطيني أذابت الأحداث الخطوط السياسية والجغرافية التي عادة ما حددت أشكال السلوك النضالي للجماعات الفلسطينية وضبطتها وفق منطق الخط الأخضر، حيث شارك الفلسطينيون في كل أماكن تواجدهم في الهبة، وكانت القدس، وفي قلبها الحرم الشريف والشيخ جراح بحمولتهما المعنوية الزخمة، تتحول الى عقدة الربط بين كل الجماعات الفلسطينية في كل أماكنهم، الأقصى بحمولته الدينية والقومية، والشيخ جراح بطبقات النكبة المفتوحة على جرح ما زال مفتوحاً على كابوس المحو والإحلال، وفي لحظة سريالية محمولة على مكر التاريخ تحولت "العاصمة الموحدة" لإسرائيل إلى "المدينة الموحّدة" لكل الفلسطينيين، والتي تلعب دور "بوتقة الصهر الفعلية"؛ مادياً ورمزياً. هذا التحول كان نتاج تفاعل مع متغيرات المشروع الصهيوني ذاته، مع استقوائه المتصاعد خلال عقد بنيامين نتنياهو والتحول المستمر نحو التمركز على فوقية يهودية معمدة بـ"قانون القومية" الذي لا يبقي مكانا لا لمواطن ولا لرعية من الفلسطينيين ويقصر تحقيق المصير والحقوق الجماعية على جماعة واحدة وحيدة هي اليهود، في هذا السياق كان المشروع الاستيطاني بعد أن حقق نجاحا فائقا في الضفة يعيد تدوير مشروعه نحو قلب الخط الأخضر في المساحات التي كانت ما زالت تحتاج الى "خلاص" في قلوب المواطنين اليهود وفي مراكز المدن المختلطة الساحلية، تريد أن تستوطن معا القلوب والأراضي ومعها تجلب مدارسها وأنويتها التوراتية ومستوطنيها ومنطقها المليشياوي.

كان الأمر يحمل الشيء ونقيضه غير المقصود، فبعد سنوات عديدة من المحاولات المسعورة لتصفية القضية الفلسطينية، والافتراض بأنه من الممكن الاستمرار في إدارة الفلسطينيين كأجزاء وقطاعات مقسّمة كلها منقوصة الحقوق مقابل المواطن اليهودي المعياري، وبعد سنوات من تمسّك الجانب الفلسطيني- ممثلاً هنا بمنظمة التحرير الفلسطينية- بحل الدولتين والتمسك باتفاقيات أوسلو في انتظار الدولة الموعودة المؤجلة للأبد، كان الخط الأخضر يتحول الى أداة حكم تعمل باتجاه واحد: تجاه الفلسطينيين وحدهم، وكان أي "محو" و"تجاوز" له من خلال الزواج على سبيل المثال يقابل بإعادة التصليب عبر قوانين لم الشمل ومشتقاته، أما أمام اليهود- الإسرائيليين فكان الخط الأخضر معطلاً، وسواء سكن اليهودي في شيلو أو في هرتسليا، فهو يتمتع بمواطنة كاملة ويخضع لقانون واحد، ويسكن فعليا في دولة واحدة حدودها معلمة باليهودي أينما كان بين البر والبحر، هذا بالضبط ما يقال عنه الأبارتهايد، وهو بالضبط ما أعاد توحيد الفلسطينيين وأعاد الصراع الى مربعه الأول عشية 1948.

في هذا السياق، تشكّل حرب 1967 وما تلاها كعب أخيل بالنسبة لإسرائيل كدولة، والصهيونية كأيديولوجيا؛ فالحرب حولت إسرائيل إلى قوة إقليمية؛ من دولة "نقية نسبيا" تمكنّت، إلى حدٍ ما، من إقامة دولة يهودية بعد تهجير وطرد معظم الشعب الفلسطيني إلى خارج الحدود، وإقامة نظام ديمقراطي داخلي "يهودي" في ظل بقاء أقلية فلسطينية أصلانية داخلها بعد الطرد- مع الحرص على ألّا تكون قابلة للزيادة- إلى دولة تسيطر على ملايين الفلسطينيين.

علاوةً على ذلك، وجدت الصهيونية نفسها أمام حقيقة معقّدة التقت فيها إسرائيل بأرض إسرائيل؛ والتقت الدولة بمعناها القومي الحداثي بالمملكة بمعناها القومي- الديني التاريخي، المستعمرة أزيحت لصالح المستوطنة، وأفسح المجال للمستوطن المتديّن الذي ولد الحردلية و"شبيبة التلال". على الصعيد المقابل، مرّت سيرورة النضال الفلسطيني بجملة من التحولات منذ احتلال 1967 وفي ظل المتغيّرات الدولية التي أعقبتها وانتقل النضال من كونه أيديولوجية تحرّر تسعى لتحرير الوطن والعودة والقضاء على الاستعمار وتحقيق العدالة، إلى البراغماتية السياسية التي يتركز فيها النضال على إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة المستقلة؛ والانسحاب من خطاب العودة إلى خطاب حلّ مشكلة اللاجئين.

وعليه، نشأ واقع مثير للاهتمام؛ حيث أصبحت الدولة "العلمانية" التي ارتكزت أصلا على ثيولوجيا سياسية دينية إلى مظلّة لتحقيق روح المملكة في الأراضي المحتلة 1967، وهذا لا يعني أن المستوطنات كانت فقط أيديولوجية، ولكن روح المشروع الاستيطاني كانت كذلك؛ فالأحوساليم، حسب توصيف باروخ كيمرلينغ، الذين أقاموا الدولة اليهودية تراجعوا لصالح المستوطنين المتدينين في الضفة الذين يقودون الحرب على الأرض ضمن فهم لاهوتي سياسي- قومي مسياني، أما حركة التحرر الوطني الفلسطيني العلمانية فوجدت نفسها في أزمة متصاعدة تصل إلى ذروتها في أيامنا هذه مع استفحال الحركات الخلاصية الاستيطانية ونشاطها المستمر لتغيير الوضع القائم (الستاتيكو) في الحرم الشريف، ففي الوقت الذي أكّدت فيه على أن النضال هو قومي- سياسي بامتياز، كان المشروع الاستيطاني اليهودي يستمر في تعريف نفسه وينتظم وفق أُسس دينية- قومية واضحة، وفي الوقت الذي كانت تقترب فيه أكثر وأكثر نحو القبول بحل مبني على نموذج الخط الأخضر، كانت المستوطنة تتمدد وتتغول برعاية الحكومات الإسرائيلية المباشرة وغير المباشرة من ثم من خلال الجمعيات اليمينية التي تحولت بعد أوسلو وبشكل متصاعد الى ذراع الاستيطان الأهم.

على خلفية الانفصال عن غزة أصبحت تتصاعد ظاهرة الجمعيات الاستيطانية التي تبنّت الفكرة المزدوجة؛ احتلال القلوب واحتلال الحيّز. وعملت هذه الجمعيات في المساحات والمناطق المصنّفة كمساحات استراتيجية بالنسبة لها، ليس فقط في الأراضي المحتلة عام 1967، بل في المناطق التي لم تقُم الحكومة بالعمل اللازم- من وجهة نظرها- كالقدس الشرقية والمدن المختلطة كاللد وعكا ويافا وفي الشيخ جرّاح وسلوان وراس العامود.

تدريجيا زحف النشاط الاستيطاني الذي قادته إسرائيل في مناطق الضفة ومن الأحياء الاستيطانية التي أحاطت القدس لتفصلها عن باقي الضفة إلى قلب الأحياء الفلسطينية في المدينة، ومن ثم إلى قلب المدن المختلطة في إسرائيل، وبدل أن يكون الحديث عن ضم المستوطنة، تحولت الدولة بحيزها في الخط الأخضر إلى مستوطنة في طور إعادة التأسيس. بعبارات أخرى، ضمّت المملكة إسرائيل والميليشيات المنتشرة في مستوطنات يتسهار وفي التلال أصبح يتم حشدها في هذه العملية كجزء من القوة العسكرية التي يتم الاستعانة بها ضد العرب، ليس فقط في يتسهار، وإنما أيضاً في اللد، ليعاد نظم علاقة الفلسطينيين مجدداً على جانبي الخط الأخضر أمام نموذج المستوطنة التي تستهدفهم معاً، ليس لأنها كيان خارج عن الدولة بل لأنها الدولة- المملكة.

 

 

 

 

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات