دولة إسرائيل ضعيفة في التخطيط، ضعيفة بالذات في التخطيط للمدى البعيد، وهي لا تنشغل اطلاقا بالتخطيط للمدى الأبعد أكثر. وإذا سمحتم لنا أن نُخمّن، فمن الممكن أن المدى البعيد جدا ليس قائما على سلم أفضليات دوائر القرار، لأن قسما منهم ليسوا على قناعة بأن الدولة ستبقى إلى ذلك الوقت.
وعلى الرغم من هذا، فإن التوقعات الديمغرافية بعيدة المدى، التي أصدرها مكتب الاحصاء المركزي، ونُشرت قبل عامين، تثير الجدل بشأن المستقبل البعيد جدا. على سبيل المثال، ما هو وضع دولة إسرائيل بعد نصف قرن من الآن، في العام 2059؟ فقد توقع مكتب الاحصاء كيف سيكون شكل سكان إسرائيل في ذلك العام، من ناحية معدل الأعمار: لليهود من دون المتدينين المتزمتين "الحريديم"، و"للحريديم" والعرب. والآن بقي فقط أن نعمل على تحليل المعطيات في محاولة لمعرفة كيف ستكون حال الاقتصاد في ذلك العام.
وهذا بالضبط على فعله قبل عام ونصف العام الأخيرين، أساف غيفع، خبير الاقتصاد في قسم الخبير الاقتصادي في وزارة المالية، فقد أجرى تحليلا لشكل مصروفات الدولة في العام 2059، واستنتج أن مصاريف الحكومة سترتفع بنسبة 2ر1% زيادة عما هو قائم من اجمالي الناتج القومي. وبالأساس بسبب الصرف على اتساع أعداد من هم في سن الشيخوخة. والآن جرى نشر النصف الثاني لذلك البحث، الذي وضع تصورات لحجم الضرائب في ذلك العام.
وحسب تقديرات غيفع فإن مداخيل الحكومة سترتفع في تلك السنوات بنسبة 4ر0% من حجم الناتج العام، بسبب زيادة مداخيل ضرائب الموارد الطبيعية، وبالأساس الغاز، وارتفاع حجم الضرائب غير المباشرة. وفي المقابل فإن ضريبة الدخل من العمل ستنخفض، بسبب ارتفاع معدل الأعمار، وبسبب زيادة عدد الجمهور الذي لا ينخرط في سوق العمل: العرب "والحريديم" (العرب يواجهون بطالة قسرية، بينما الحريديم يمتنعون اراديا عن الانخراط في العمل لأسباب دينية- المحرر).
وستكون نسبة اليهود من دون الحريديم، من اجمالي السكان في العام 2059، أكثر بقليل من 50%، مقابل 68% حاليا. وستكون نسبة الحريديم في العام 2059، قرابة 27%، مقابل أكثر من 11% حاليا (هناك تقديرات تقول إنها ستكون أكثر- الترجمة)، وستكون نسبة العرب أكثر من 23%، مقابل قرابة 21% اليوم. وهذه التقديرات أدت إلى الاستنتاج بزيادة المصروفات بنسبة 2ر1% من اجمالي الناتج عما هو اليوم، مقابل زيادة المداخيل بنسبة 4ر0% من اجمالي الناتج، ما يعني فجوة عجز بنسبة 8ر0% من حجم الناتج سنويا، وهذا ما يعادل 3ر2 مليار دولار سنويا بالقيمة المالية اليوم.
ويقول غيفع إن الفجوة الآخذة بالاتساع بين المصروفات والمداخيل ستنعكس على الاقتصاد كليا، فحاليا سيستمر حجم الدين العام من الناتج العام في الانخفاض ولكنه اليوم 67%، ولن يصل إلى هدفه 60%. ولكن ابتداء من العام 2030، سيبدأ الدين بالارتفاع، أيضا من حيث نسبته من الناتج العام، ليصل في العام 2059 إلى نسبة 88%، وهذا يعد تراجعا كبيرا للاقتصاد.
ومن أجل تقليص الدين، والحفاظ على الاستقرار الاقتصادي، يقول غيفع إن على إسرائيل أن تجري ملاءمات مالية على المديين المتوسط والابعد، بقصد اجراء تقليصات في الموازنة العامة أو رفع الضرائب، وهذه اجراءات من شأنها أن تجعل أداء الحكومة أكثر نجاعة مما هو اليوم، وعلى الحكومة أن تختار أحد هذين الاجراءين.
لكن المقلق أن التقديرات التي يطرحها غيفع الأكثر تفاؤلية، قائمة على أساس أن إسرائيل حتى ذلك العام، ستكون قد تعاملت بشكل آخر مع جيل التقاعد، وأن يكون 69 عاما للرجال والنساء على حد سواء. وأن تعالج إسرائيل قضايا الشرائح الأضعف والأكثر فقرا، الحريديم والعرب، وأن ترفع معدلات انخراطهم في سوق العمل، وأن يرفعوا من انتاجية العمل، لتكون ملائمة لمستوى الرواتب. ما يعني أن معالجة إسرائيل لقضية الشيخوخة وجيل التقاعد حتى ذلك العام، ستمنع أزمات مالية أشد من تلك التي يتوقعها البحث.
ولكن إذا كانت هذه التقديرات تفاؤلية، وتوقعت انهيار الدين إلى نسبة 88% من اجمالي الناتج العام، فإذن أي نسبة تتوقعها التقديرات التشاؤمية، مثلا إذا لم تعالج الحكومة المشاكل القائمة، وتبقيها على حالها حتى ذلك العام، 2059؟. يرد غيفع على هذا قائلا: إذا لم يرتفع جيل التقاعد، فإن الفجوة ما بين مداخيل الضرائب وصرف الحكومة، سترتفع من 8ر0% من الناتج العام إلى 4ر2%، ما يعني 3ر6 مليار دولار، بواقع اليوم. وسيكون حجم الدين العام بنسبة 135% من اجمالي الناتج العام، ومن باب التوضيح فإن ديون اليونان تعادل 175% من حجم ناتجها العام.
ثانيا، إذا لم ينخرط الحريديم والعرب في سوق العمل، فإن الفجوة بين المداخيل والصرف سترتفع من 8ر0%، إلى 4ر3% من اجمالي الناتج، ما يعني ما يقارب 9 مليارات دولار سنويا بواقع اليوم، بسبب انهيار مداخيل الضرائب في واقع كهذا. كذلك فإن حجم الدين العام سيرتفع إلى 170% من اجمالي الناتج، ما يعني فقدان السيطرة على الاقتصاد، وهذا يذكرنا بالوضع الذي كان قائما في العام 1985، حينما كانت إسرائيل على شفا إفلاس، فجاءت خطة الاستقرار المالي الذي أنقذت الأوضاع الاقتصادية.
وهذا الاستنتاج يعكس مدى أهمية اندماج العرب والحريديم في سوق العمل، إن كان من ناحية نسبة الانخراط، أو من ناحية الانتاجية، لأنه من دون هذا الاندماج فإن إسرائيل ستتجه نحو الافلاس. وعلينا القول إن قضايا العرب والحريديم ليست قضاياهم هم، وإنما هي قضايا دولة إسرائيل. وعلى خلفية هذا الاستنتاج، من المجدي أن نعود إلى الاتفاقيات الائتلافية، التي وقع عليها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، مع شركاء الائتلاف. وهذه الاتفاقيات لا تذكر ولو بكلمة واحدة المشاكل القاسية جدا التي يواجهها الجمهور العربي في إسرائيل، والضرورة الملحة لوقف سياسة التمييز والاقصاء.
واتضح لنا أنه ما كان يهم ويُلح هو فحص كيف أن العرب تدفقوا على صناديق الاقتراع، أكثر من الاهتمام بدمجهم في سوق العمل، وزيادة انتاجيتهم. والأسوأ في كل هذه الاتفاقيات أنها تتنكر لمشاكل العرب في إسرائيل، وتتراجع عن حل مشاكل الحريديم.
إن خضوع بنيامين نتنياهو لمطالب الحريديم أدى إلى إلغاء كل القرارات والإجراءات التي أقرتها حكومته السابقة، والتي كانت تهدف إلى دفع الحريديم للتوقف عن نهجهم الهدّام الرافض "لدراسة المنهاج المدرسي الأساس، وللانخراط في سوق العمل"، وهذا من شأنه أن ينهي المؤشرات الايجابية التي بدأت تظهر في مجتمع الحريديم بعد اقرار تلك الإجراءات، مثل قرار وزارة التربية والتعليم إقامة شبكة مدرسية رسمية للحريديم من أجل تعليمهم المنهاج الرسمي، الذي ترفضه مؤسسات الحريديم. كما بادرت وزارة الاقتصاد إلى فتح روضات أطفال بتكلفة مخفضة للحريديم لتشجيع الرجال كالنساء على التوجه إلى سوق العمل.
لقد خرج الحريديم من الانتخابات الأخيرة تملأهم نشوة النصر إلى حد الثمالة، وكأن بقدرتهم أن يعيدوا العجلة إلى الخلف، وبامكانهم الاستمرار في رفض المنهاج الدراسي الرسمي والامتناع عن الانخراط في سوق العمل، لأن "العم سام في تل أبيب" سيمولهم، ولكن ها هو الاستنتاج القائل إن العم سام المذكور في طريقه إلى الإفلاس، ويجدر برئيس الوزراء أن ينتبه إلى هذا.