إجراء هنيبعل والسؤال الأخلاقي في معادلة جندي مقتول أفضل من جندي مخطوف
*"إجراء هنيبعل" الذي ابتدعه الجيش الإسرائيلي في العام 1986 ولا يزال يستخدمه (في الرد على محاولة اختطاف الضابط هدار غولدين في قطاع غزة مؤخراً) يقضي بـاستخدام كل ما في حيازة القوات (الإسرائيلية) من النيران، أيا كان نوعها وبأقصى الكثافة، للحيلولة دون فرار الخاطفين / الآسرين، حتى لو اقتضى الأمر إصابة الجندي (الإسرائيلي) الذي يتعرض لمحاولة الخطف والأسر بل وإردائه قتيلاً!*
أعادت قضية الضابط الإسرائيلي هدار غولدين الذي جرت محاولة لأسره من قبل مقاتلي المقاومة الفلسطينية خلال المعركة التي وقعت في رفح يوم الأول من آب الجاري، ضمن عدوان "الجرف الصامد" الإسرائيلي على قطاع غزة، وما نشر في وسائل الإعلام المختلفة، محليا ودوليا، عن محاولات مستميتة بذلتها قوات الجيش الإسرائيلي لإحباط محاولة أسره ـ أعادت إلى واجهة النقاش العسكري، السياسي والإعلامي الإسرائيلي الإجراء العسكري المعروف إسرائيليا باسم "إجراء هنيبعل"، الذي يقضي باختصار بـاستخدام كل ما في حيازة القوات (الإسرائيلية) من النيران، أيا كان نوعها، وبأقصى الكثافة، للحيلولة دون فرار الخاطفين / الآسرين، حتى لو اقتضى الأمر إصابة الجندي (الإسرائيلي) الذي يتعرض لمحاولة الخطف والأسر، بل وإردائه قتيلاً!
إخضاع حياة الجندي لاعتبارات
الكسب السياسي!
وفي إطار النقاش الإسرائيلي العام والمتشعب والمتجدد هذا، وجهت "جمعية حقوق المواطن في إسرائيل"، يوم العاشر من آب الجاري، رسالة إلى المستشار القانوني للحكومة، يهودا فاينشتاين، طالبته من خلالها بإصدار توجيهاته إلى الحكومة والجيش الإسرائيلي بالامتناع، خلال أي عمل عسكري يرمي إلى إفشال محاولة خطف وأسر جندي إسرائيلي ـ الامتناع عن تعريض حياة الجندي المخطوف للخطر ومنع اللجوء إلى "إجراء هنيبعل" في مناطق مأهولة بالسكان. كما طالبت الرسالة المستشار القانوني للحكومة بإصدار تعليمات بشأن إجراء تحقيق رسمي في استخدام قوات الجيش الإسرائيلي "إجراء هنيبعل" خلال العدوان الأخير على قطاع غزة.
وجاء في الرسالة، التي وقع عليها المستشار القانوني لجمعية حقوق المواطن، المحامي دان ياكير، ومديرة قسم الأراضي المحتلة في الجمعية، المحامية تمار فيلدمان، أنّ استخدام هذا الإجراء في مناطق مأهولة، حيث يكون الجندي وآسروه محاطين بالمدنيين غير المشاركين في القتال، هو أمر محظور بشكل مطلق.
واعتبرت الجمعية أن استخدام هذا الإجراء في مناطق مأهولة من دون تمييز بين مدنيين ومقاتلين، وهو ما يسبب ـ بطبيعته ـ أذى كبيرا وواسعا، هو وسيلة قتال غير قانونية ومخالفة لقوانين الحرب. وأكدت في رسالتها أن إطلاق النار بشكل مكثف ودون تمييز في منطقة سكنية مكتظة بهدف قطع طرق الهرب المحتملة أمام الآسرين، من شأنه أن يوقع، على نحو مؤكد، خسائر كبيرة في الأرواح، مثلما حصل في رفح يوم 1/8/2014، حيث قتل ما لا يقل عن 150 شخصا، من بينهم الأطفال والنساء. وعليه، يشكل هذا الإجراء خرقا أساسيا لمبدأ التمييز بين المقاتلين والمدنيين كما ينص عليه القانون الإنساني الدولي.
وأضافت الرسالة أن إنقاذ جندي وتخليصه من أيدي آسريه وتجنب وضع تضطر فيه إسرائيل إلى التفاوض حول إطلاق سراح سجناء ـ هما هدفان جديران ومقبولان، غير أن وسائل تحقيقهما يتعين أن تكون، هي أيضا، جديرة ومقبولة، قانونية وتناسبية. أما الإجراء الذي يتيح تعريض حياة الجنود الأسرى للخطر بغية منع وقوعهم في الأسر فهو إجراء مرفوض من أساسه. وإذا كان "إجراء هنيبعل" يتيح المسّ بجندي لمنع خطفه، أو من الممكن تفسيره على هذا النحو، فهو إجراء غير قانوني!
وتطرقت الرسالة إلى ما يختفي وراء هذا الإجراء العسكري فقالت: "إن الأمر العسكري الذي يُخضع حياة جندي لاعتبارات الربح السياسي المستقبلي، ذي المضمون والمقدار المجهولين، هو استغلال نفعي للجندي يثير الاشمئزاز وليس من قبيل الصدفة، إذن، أن هذا الإجراء قد قوبل بانتقادات جماهيرية واسعة وحادة طيلة السنوات الماضية، بما في ذلك من طرف مسؤولين كبار في الأجهزة الأمنية"َ!
وانتهت الرسالة إلى التأكيد على أن "استخدام هذا الإجراء في قلب منطقة مدنية مأهولة هو أخطر بدرجات، يزعزع أركان القضاء والأخلاق، ويتوجب إدانته واستنكاره بصورة مطلقة"!
كشير: المسّ بالمدنيين
مشروع تناسبياً!
وكان أول المعترضين على هذه الرسالة وما تتضمنه من تحليل قانوني، إنساني وأخلاقي، البروفسور آسا كشير، أحد المشاركين المركزيين في وضع وصياغة نص "دستور الأخلاق" الخاص بالجيش الإسرائيلي (وعنوانه: "روح الجيش الإسرائيلي") فهاجم الرسالة ومعدّيها مدّعياً بأن لا أساس لما يقوله المعارِضون "فهـُم لا يعرفون الحقائق"! وأضاف: "مثل كل الآخرين الذين تحدثوا عن إجراء هنيبعل، كذلك أيضا كاتبو هذه الرسالة (جمعية حقوق المواطن) ليست لديهم أدنى فكرة عما هو مكتوب في نصّه. وأعتقد أن من الأجدى والأجدر بمَن يتوجه إلى المستشار القانوني للحكومة أن يعرف الحقائق أولا، ومن ثم الانقضاض"!!
ويدعي كشير بأن الأمر العسكري نفسه يمنع، صراحة، المس بالجندي الذي يتعرض لمحاولة اختطاف وأسر وبأن النص يؤكد، صراحة، أن "قيمة حياة الجندي تفوق قيمة إحباط الخطف" وأنه يسمح بإطلاق النار على الخاطفين فقط لإفشال عملية الاختطاف. وأضاف أن الأمر "يأخذ في الحسبان احتمال تعريض حياة الجندي للخطر، نظرا لأن الأمور تسير وسط حركة معينة، غير أن الفرضية هي أن قوات الجيش الإسرائيلي تبذل جهدها لتجنب إلحاق أذى بالمخطوف. كما أن عملية إطلاق النار ممنوعة إذا كان احتمال إلحاق الأذى بالجندي كبيرا".
وبشأن ما ينطوي عليه "الإجراء" من إلحاق للأذى وإيقاع للضحايا في صفوف المدنيين ـ كما أكدت رسالة جمعية حقوق المواطن ـ قال كشير إن "هذا الادعاء أيضا مرفوض، لأن مسألة إلحاق الأذى بالسكان المدنيين غير الضالعين في القتال والمتواجدين في المنطقة المعنية ـ هذه المسألة لا علاقة لها بالإجراء موضوع الحديث. فالأمر العسكري الخاص بهذا الإجراء لا يتطرق إلى هذه المسألة، قط. إنما تتعلق هذه المسألة بموضوع التناسبية التي تقضي بأنه من الجائز والمسموح تنفيذ عمل عسكري ضد هدف عسكري ومسموح المسّ بأطراف غير ضالعة، شريطة أن يكون هذا المسّ تناسبياً"! ويضيف كشير، مبررا: "الخاطفون يمثلون هدفا عسكريا مشروعا بالطبع وفي أي عمل عسكري ضدهم يجوز إلحاق أذى بأشخاص لا علاقة لهم، طالما كان الأذى تناسبيا"!!
ويشار هنا إلى أن سلطات الجيش الإسرائيلي لم تنشر، رسميا، ما يذكره كشير عن نص الأمر العسكري الخاص بـ "إجراء هنيبعل" ويخلو كل ما تتداوله وسائل الإعلام الإسرائيلية حول الموضوع من أية إشارة إلى نص كامل، صريح ودقيق لهذا الإجراء. غير أن رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي السابق، أمنون ليبكين شاحك، كان قد قال، بصريح العبارة: "من الصحيح منعُ خطف الجنود، بأي ثمن"، طبقا لما نقلته عنه صحيفة "هآرتس" في العام 2003 (في 20/5، تحديدا).
هنيبعل... القائد العسكري القرطاجيّ
في تقرير نشرته صحيفة "معاريف" العبرية في أعقاب اختطاف وأسر الجندي الإسرائيلي غلعاد شاليت، قال الجنرال احتياط غيورا آيلاند، الذي ترأّس لجنة التحقيق في عملية خطف شاليت: "كانت ثمة قصورات في تنفيذ إجراء هنيبعل عندما اختطف شاليت... لقد مرّ نحو ساعة من الزمان منذ لحظة إصابة دبابة شاليت وحتى صدور الأمر بتنفيذ هذا الإجراء". واعتبر آيلاند أنه لو لم تقع تلك القصورات، لما حدث ما حدث.
و"إجراء هنيبعل" هو إجراء سري متبع في الجيش الإسرائيلي، في الحالات التي لا يمكن فيها إنقاذ جندي وتخليصه من محاولة اختطاف وأسر، إذ يقضي الإجراء باستخدام أقصى ما يمكن من كثافة النيران لقطع طرق الفرار أمام الخاطفين وإفشال محاولة الاختطاف، حتى لو أدى الأمر إلى قتل الجندي نفسه، لأنْ "جنديا مقتولا أفضل من جندي مخطوف"، كما يقول الشعار المتداول في إسرائيل في هذا الشأن. ويستدل مما ينشر في وسائل الإعلام الإسرائيلية حول الموضوع أن هذا الإجراء يقضي بأن "على الجندي الذي يتعرض لمحاولة اختطاف وأسر تحرير نفسه بنفسه، من خلال قتل نفسه وخاطفيه"، وإن لم يفعل ذلك بنفسه، فسيتولى زملاؤه المهمة!
وكان هذا "الإجراء" قد صعد إلى العناوين في أعقاب عملية تبادل الأسرى بين إسرائيل والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (القيادة العامة)، والتي تمت في أيار 1985 وتم في إطارها تحرير 1150 أسيرا فلسطينيا مقابل جثث ثلاثة جنود إسرائيليين كانوا وقعوا في الأسر في لبنان. ففي أعقاب ذلك، وفي العام 1986 تحديدا، قام ثلاثة من كبار الضباط في قيادة المنطقة العسكرية الشمالية في إسرائيل (هم: يوسي بيلد، يعقوب عميدرور وغابي أشكنازي) بوضع هذا الإجراء كوسيلة للحد من عمليات أسر الجنود. وقد عرض هؤلاء الضباط هذا الإجراء على الجنود الذين طولبوا بالعمل طبقا له. وعلى الرغم من محاولات عديدة بذلتها الرقابة العسكرية (التابعة لدائرة الناطق الرسمي بلسان الجيش الإسرائيلي) لإخفاء هذا الأمر العسكري وهذا الإجراء والتستر عليهما، إلا أن الجدل دار حوله وحول مدى أخلاقيته، إذ اعتبره كثيرون "أمراً غير قانوني، بصورة قطعية"!
وقد أطلق على هذا الإجراء العسكري هذا الاسم ""هنيبعل" (أو: حنيبعل / حنبعل / هانيبال) على اسم القائد العسكري القرطاجي، الذي يُنسَب إليه اختراع العديد من التكتيكات الحربية في المعارك، لكن الذي اشتهر أساساً بأنه فضّل قتل نفسه بتجرّع السمّ على أن يُسَلّم نفسه للرومان ويقع أسيراً في قبضتهم.
استخدام متكرر يعيد
طرح السؤال الأخلاقي
ويستفاد من تقارير الصحافة الإسرائيلية بأن المرات المعروفة التي استخدم فيها الجيش الإسرائيلي "إجراء هنيبعل" كثيرة نسبيا، لكن أبرزها: 1. عملية خطف الجنود الإسرائيليين الثلاثة من جانب حزب الله في منطقة جبل روس في مزارع شبعا في تشرين الأول 2000. فقد حاول الجيش الإسرائيلي إعاقة حركة الخاطفين بوابل من نيران المدفعية والراجمات، سوية مع الطائرات الحربية؛ 2. في أعقاب اختطاف الجندي غلعاد شاليت في قطاع غزة في حزيران 2006، بعد نحو ساعة كاملة من عملية الاختطاف، في مرحلة لم يُجدِ فيها الإجراء نفعاً؛ 3. عملية خطف الجنديين الإسرائيليين في تموز 2006 من جانب "حزب الله"؛ 4. خلال عدوان "الرصاص المصبوب" على قطاع غزة في العام 2008، إذ تم قصف منزل في غزة كان فيه جندي إسرائيلي مصاب؛ 5. خلال العدوان الأخير على غزة، وتحديدا يوم 20 تموز الماضي، لدى اختطاف الجندي أورون شاؤول، وهو الإجراء الذي ارتكب جيش الاحتلال من خلاله ذلك اليوم مجزرة الشجاعية في قلب غزة؛ 6. خلال العدوان الأخير على غزة، وتحديدا في الأول من آب الجاري لدى محاولة اختطاف الضابط هدار غولدين.
ويشار هنا إلى أن استخدام هذا الإجراء في قطاع غزة أول هذا الشهر أدى إلى قتل ما يزيد عن 130 مواطنا فلسطينيا في القطاع، طبقا للمصادر الطبية الفلسطينية هناك، إذ تعمد الجيش الإسرائيلي استخدام أقصى ما أمكنه من كثافة النيران، "من جميع الأنواع والمصادر ومن جميع الاتجاهات، لتدمير كل شيء في المنطقة التي جرت فيها محاولة الاختطاف وعزلها بالكامل بما يسدّ جميع الطرق والمنافذ المؤدية منها وإليها، كي لا يتمكن الخاطفون من نقل أو تهريب إنسان"، وفق ما صرح به "ضابط كبير" لصحيفة "هآرتس" (3/8).
ورغم أن نص الأمر بشأن "إجراء هنيبعل" لم يُنشر إطلاقا، كغيره من الأوامر العسكرية بشأن "تعليمات إطلاق النار"، ورغم قول بعض المطلعين بأن "هذا الإجراء كان شفويا في البداية، ثم تمت صياغته بواسطة أمر عسكري رسمي لاحقا" وبأنه "مُعَرّف بصورة ضبابية، بشكل متعمد"، غير أن "كل مَن أدى الخدمة العسكرية الميدانية خلال السنوات العشرين الأخيرة يفهم المقصود منه، تماما"، كما كتب أوري مسجاف في "هآرتس" (11/8/14). وأيا يكن الأمر، فإن هذا الإجراء يعني، في ترجمته العملية، اعتماد سياسة الأرض المحروقة، انطلاقا من الاعتقاد السياسي والأمني (ثم الجماهيري، أيضا!) القائل بأن خطف جندي إسرائيلي يمثّل حدثا استراتيجيا يستتبع ثمنا "باهظا" ستضطر الدولة إلى دفعه، عاجلا أم آجلا، ولذا ينبغي تجنبه، مهما يكن الثمن!
وعبارة "مهما يكن الثمن" تعني، في مفهوم الجنود وقادتهم في ساحة الحرب، ما أوضحه بصريح العبارة أحد الضباط الذين شاركوا في "إجراء هنيبعل" لإحباط عملية خطف الضابط غولدين في رفح مؤخرا، إذ قال ـ في مقابلات منظمة مع عدد من وسائل الإعلام الإسرائيلية الأسبوع الماضي: "نحن لا نحتار ولا نتردد. أعطيتُ توجيهات بإطلاق النار من دون الحاجة إلى إذن وتصريح، حتى لو كان ذلك بغية قتل هدار (غولدين) أو إصابته ـ هذا ما ينبغي علينا فعله. ومع كل الألم، هذا أفضل"!!
وعلى هذه الخلفية، أثار هذا الإجراء ويثير جدلا عاما واسعا في إسرائيل يتمحور، في جله، حول السؤال المركزي بشأن مدى أخلاقية هذا الإجراء! وتكمن مشكلة هذا "الإجراء" الأخلاقية، بالأساس، في أن هنيبعل (المسمى هذا الإجراء باسمه) اتخذ قرار موته هو بنفسه هو، أما الإجراء العسكري الإسرائيلي فيقوم على أساس أن قرار موت / قتل إنسان ما (الجندي هنا) يتخذه شخص آخر غيره!