الكلام الذي أدلى به رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون في شأن شعر محمود درويش ونشرته صحف ومواقع إلكترونية عدة، يستحق وقفة تأمل، ليس لأن قائله هو هذا السياسي المتهور والمتعنت الآتي من صفوف العسكر بل لأن الكلام يعبّر عن حقيقة طالما تغاضى عنها المحتل الإسرائيلي وتجاهلها قصداً. أبدى شارون إعجابه بشعر محمود درويش وقال إنه يحسده ويحسد الشعب الفلسطيني على علاقته بأرضه، وهي العلاقة التي كان درويش خير من عبّر عنها في قصائده. قال شارون هذا الكلام في سياق حديث له عن الأدب الإسرائيلي اليساري والمتمرد معلناً أن السياسة شيء والإبداع شيء آخر.
لا يحتاج محمود درويش إلى مثل هذه الشهادة، وقد تثير هذه الشهادة حفيظته وربما سخريته، حتى وإن كان ليحسده عليها شعراء عرب آخرون. فالشاعر الكبير لم ينس كيف قامت القيامة عليه في الكنيست الإسرائيلي عام 1988 عندما كتب قصيدته الشهيرة «عابرون في كلام عابر»، وكان اسحاق شامير على رأس الحملة التي أثارت سجالاً واسعاً، في الداخل والخارج. حملت تلك القصيدة غضب الشعب الفلسطيني في إحدى المراحل القاتمة وجاهرت بصرختها العميقة في وجه الاحتلال البشع واستحالت ما يشبه نشيد المقهورين الغاضبين والمتمسكين بأرضهم وأحلامهم ومستقبلهم. وبعدما هدأت عاصفة هذه القصيدة أثار شعر محمود درويش زوبعة أخرى عندما منعت الحكومة الإسرائيلية إدراج شعره في المناهج التربوية الأدبية عام 1995، علماً أن شعراء فلسطينيين آخرين كانوا مدرجين في تلك المناهج. تُرى هل يمثل شعر محمود درويش خطراً حقيقياً على الذاكرة الإسرائيلية حتى يمنع الطلاب من قراءته؟
هذا «الخطر» نمّ به كلام شارون عن شعر محمود درويش في ما حمل من «مديح» قسري ما كان الرئيس الإسرائيلي ليتفوه به لولا الألم الذي يحدثه في روحه هذا الشعر الأصيل والجميل والجارح كالسيف. لم يمدح شارون شعر درويش إلا مرغماً، فهو مثله مثل سائر السياسيين الإسرائيليين، لم يبق قادراً على تجاهل الحال الوجدانية والجمالية التي صنعها محمود درويش في تاريخ فلسطين الحديث وفي صميم الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. ولم يخلُ كلام شارون ايضاً من اعتراف علني بما استطاع ان يفعله هذا الشعر، بألمه وصفائه، في «وجدان» العدو الذي يحتل الأرض والذاكرة، وفي عمق كيانه «الروحي» والبشري. ولم يكتف شارون بمديح شعر درويش بل وازى بينه وبين علاقة الفلسطينيين بأرضهم وكأنه يقول ان الروح الفلسطينية تفتحت في شعر درويش مثلما تفتح هذا الشعر في قلب هذه الروح.
لا يخلو كلام شارون من الخبث او بعضه، فلو كان يحسد الفلسطينيين والشاعر على هذه العلاقة الوجدانية بالأرض فلماذا بنى جدار العار الذي يجتاز الأراضي الفلسطينية فاصلاً بين احيائها وحاراتها وحقولها؟ بل لماذا يستمر في عدائه المستميت للشعب الفلسطيني وفي نهجه التدميري والإرهابي؟ طبعاً لا اجوبة واضحة لدينا عن مثل هذه الأسئلة التي يعرف شارون انها شائكة على رغم بداهتها وعفويتها!
وإن كان يستحيل اعتبار شهادة شارون «المسالمة» و«الإيجابية» وساماً على صدر الشعر الفلسطيني، لئلا أقول على صدر محمود درويش الذي يرفضه تماماً، فهي يمكن اعتبارها اعترافاً بقدرة الشعر على التأثير، وبقوته التي لا تستطيع السياسة أن تقهرها. بل إن الشهادة لا تخلو من تمجيد الشعر سلاحاً روحياً وفكرياً ومن تبجيل دوره الذي ما برح يؤديه، والأثر الذي يحدثه في الفرد والجماعة.
مرة أخرى يخترق شعر محمود درويش «الحصار» الإسرائيلي مثيراً حفيظة السلطة السياسية والعسكرية، ليس من خلال المواقف الملتزمة والرافضة فحسب وإنما من خلال اللغة الباهرة والغنائية العالية والجمالية الشفيفة التي تتسم بها القصائد. إنها سلطة الشعر تنتصر على سلطة المحتل ولكن بعيداً عن صخب السياسة وضوضاء الخطب الحماسية. ("الحياة"- لندن)