في يوم 30.6.2004، وقبل أسبوع من نشر الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدوليّة بشأن الوضعية القانونية لبناء الجدار من قبل إسرائيل وإسقاطات هذا الجدار، أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية قرارها بشأن بناء الجدار في منطقة القدس. نُشر قرار المحكمة العليا الإسرائيلية في قضية بيت سوريك، في المقام نفسه، باللغة الإنجليزية، أيضًا، وكان متاحًا لكل من يهمّه الأمر على موقع المحكمة العليا في شبكة الإنترنت
ردع قضائي
في يوم 30.6.2004، وقبل أسبوع من نشر الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدوليّة بشأن الوضعية القانونية لبناء الجدار من قبل إسرائيل وإسقاطات هذا الجدار، أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية قرارها بشأن بناء الجدار في منطقة القدس. نُشر قرار المحكمة العليا الإسرائيلية في قضية بيت سوريك، في المقام نفسه، باللغة الإنجليزية، أيضًا، وكان متاحًا لكل من يهمّه الأمر على موقع المحكمة العليا في شبكة الإنترنت.
يُعتبر مثل هذا النشر حدثًا غير مسبوق في إسرائيل. وبالفعل، فلولا أن الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدوليّة كان يلوح في الأفق لكان الشكّ كبيرًا في ما إذا كان سيكلّف أحد نفسه، في الجهاز القضائي الإسرائيلي، نشرَ قرار الحكم، وفي المقام نفسه باللغة الإنجليزية، أيضًا.
تناول قرار المحكمة في قضيّة بيت سوريك موضوع مقطع من الجدار يبلغ طوله 40 كم في منطقة القدس. ولقد ألغت المحكمة العليا الإسرائيلية أغلبية المسار الذي حدّدته الدولة، مسوّغة ذلك بأنّ هذا المسار غير تناسبيّ. وفي يوم 9.7.2004 تمّ نشر الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدوليّة بشأن الوضعية القانونية للجدار وإسقاطاته، فأقرّت المحكمة بأغلبية 14 قاضيًا ضدّ قاضٍ واحد أنّ إقامة الجدار في المنطقة التي تمّ احتلالها عام 1967 ليست قانونية، وأنّ على إسرائيل أن تقوم بتفكيك المقاطع التي بُنيت في هذه المنطقة، وبتعويض السكّان الفلسطينيين الذين تضرّروا من بنائه.
لقد رفضت دولة إسرائيل المثول للمناقشة أمام محكمة العدل الدوليّة، إلاّ أنّها تقدّمت بوثيقة تفصّل ادعاءاتها الطاعنة في صلاحية المناقشة الدائرة في تلك المحكمة، وكذلك ادّعاءات حول الأسباب التي أدّت، على حدّ زعمها، إلى بناء الجدار والتي هي وفقًا للمنطق الإسرائيلي ليست إلاّ أسبابًا أمنيّة.
وفي التماس آخر قُدّم إلى المحكمة العليا الإسرائيلية بشأن الجدار، طُلب من الدولة تقديم ردّها على الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدوليّة. وفي يوم 23.2.2005 قدّمت الدولة موقفها الرافض للرأي الاستشاري للمحكمة، وذلك، في الأساس، بسبب قاعدة الحقائق الواهية، وفقًا للمنطق الإسرائيلي، التي وُضعت أمام المحكمة، والتي أدّت، وفقًا لمنطقها، إلى تأويلات قضائية مغلوطة. وقد جاء في الردّ، أيضًا، أنّ الدّولة تطلب التمسّك بالقرارات الصادرة عن المحكمة العليا الإسرائيلية في قضية بيت سوريك، بوصفها قراراتٍ ملزمة تجاه الدولة.
أوّد في هذه المقالة التمحور حول بعض التأويلات القضائية الإشكاليّة التي تم طرحها، إن كان ذلك في قرار المحكمة العليا الإسرائيلية في قضية بيت سوريك، أو في ردّ الدولة على الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدوليّة.
محتلون دون احتلال: مكانة معاهدة جنيف الرابعة في القانون الإسرائيلي
تعتبر معاهدات جنيف من العام 1949، لا سيما معاهدة جنيف الرابعة، تطورا جديا في القانون الملزم في فترة الاحتلال أو في فترة نزاع مسلح (Armed Conflict). تتمحور معاهدة جنيف الرابعة حول وضعية المدنيين المحميين (Protected Persons) في منطقة محتلة، حقوقهم والواجبات الملقاة على القوة المحتلة (Occupying Power) تجاههم. المادة 27 من هذه المعاهدة، مثلا، تنص على أنه من واجب القوة المحتلة، في كل ظرف، احترام الحقوق الأساسية للمدنيين المحميين.
مكانة معاهدة جنيف الرّابعة من عام 1949 في القانون الإسرائيلي غير واضحة. فوفقًا للقانون الإسرائيلي، لا تلزم هذه المعاهدة الدولة، وذلك لأنّها تصنّف ضمن فئة التشريعات الدولية القائمة على الاتفاقات. ويعني هذا أنه على الرغم من أن الحديث يدور عن معاهدةٌ دولةُ إسرائيل هي طرف فيها، فإن ذلك لا يُلزم، بالضرورة، هيئات الدولة بالتصرّف في إطار سياقها. وبغية أن تكون تعليمات معاهدة جنيف الرابعة ملزمة لدولة إسرائيل، فقد أقرّت المحكمة العليا الإسرائيلية أنّ على المشرّع الإسرائيلي أن يتبنّى تعليمات المعاهدة في تشريعات الكنيست.
وفي المقابل، فإنّ القانون الدولي العرفيّ، أي تلك الأعراف القانونيّة القائمة على الحلبة الدولية منذ سنوات طويلة، والتي تحظى بموافقة دوليّة واسعة بشأن عرفيّتها، يلزم دولة إسرائيل من دون الحاجة إلى تشريع محليّ يتبنّى تلك الأعراف. على هذا الأساس، مثلاً، يعترف القانون الإسرائيلي بأنظمة هاغ من العام 1907 كقوانين عرفية، وعليه، فإنها في حدّ ذاتها تلزم إسرائيل.
إلى جانب ذلك، لا تصرّح دولة إسرائيل أمام المحكمة الإسرائيلية برفضها المطلق لمعاهدة جنيف الرابعة من عام 1949. وقد تطوّر، عمليًّا، مسلك منهجي تصرّح الدولة في إطاره أمام المحكمة المحلية بأنّها ملزمة بـ"التعليمات الإنسانية" الواردة في معاهدة جنيف الرابعة، ثم بعد ذلك فورًا، تقرّ المحكمة العليا الإسرائيلية بأنّ لا حاجة إلى مناقشة مكانة المعاهدة، حيث إنّ الدولة من تلقاء نفسها تلزم نفسها بها، من دون أن تلتزم بأمر سريان المعاهدة في تلك المنطقة، في "التعليمات الإنسانية" الخاصة بمعاهدة جنيف الرابعة. وقد عبّرت عن ذلك المحكمة العليا الإسرائيلية في قضية بيت سوريك، بقولها:
"لقد أثيرت مسألة سريان مفعول معاهدة جنيف الرابعة غير مرّة أمام المحكمة العليا... المسألة لم تثر أمامنا؛ حيث إنّه من المتّفق عليه بين المدّعى عليهم أن التعليمات الإنسانية الخاصة بمعاهدة جنيف الرابعة تسري على قضيّتنا".
وفي ردّها على الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، تكرّر الدولة موقفها القائل بأنّ "دولة إسرائيل التزمت بالتصرّف، بشكل فعليّ، وفق التعليمات الإنسانية الخاصة بمعاهدة جنيف الرابعة، في المناطق الواقعة تحت سيطرتها". ويعود مصدر هذا التوجّه إلى رغبة إسرائيل في عدم الاعتراف بالمناطق الخاضعة لسيطرتها كمناطق محتلة. إنّ موقف إسرائيل الرسمي يقول إنّه لا يمكن تطبيق معاهدة جنيف الرابعة على الضفّة الغربية، قطاع غزة والقدس الشرقية لأنّ الأمر لا يتعلّق بمنطقة تابعة لدولة هي طرف في معاهدة جنيف الرابعة.
ما هي تلك "التعليمات الإنسانية" الواردة في معاهدة جنيف الرابعة؟ ما الذي يوحّدها مع، ويميّزها عن تلك التعليمات التي لا تحمل طابعًا إنسانيًّا في المعاهدة ذاتها؟ ما هي النتيجة القانونية النابعة عن الالتزام الذاتي بجزء من تعليمات معاهدة جنيف الرابعة، التعليمات الإنسانية، على فرض أنّه يمكن التمييز بين تعليمات مختلفة لمعاهدة مضمونها الأساسي هو مضمون إنساني؟ هل يمكن الادّعاء بأنّ التّعليمات غير الإنسانية في المعاهدة لا يمكن لها أن تشكّل مصدرًا معياريًّا لممارسات إسرائيل، حيث إنّها لا تلزم ذاتها بها من تلقاء نفسها، وذلك خلافًا للتعليمات الإنسانية الواردة في المعاهدة؟ هل من الممكن أن ترد مادة في معاهدة جنيف الرابعة تتضمّن بعدًا إنسانيًّا تلزم إسرائيل نفسها بالتصرّف وفقه، والى جانبه أمر غير إنسانيّ، لا يمكن له أنّ يشكّل مصدر شرعية لممارسة إسرائيل؟
استنادًا إلى التمييز النّاتج ما بين "تعليمات إنسانيّة" في معاهدة جنيف الرابعة وبين تعليمات ليست بتلك، يمكن الادّعاء بأنّ أيّ أمر ليس في صالح المواطنين المحميّين، حسب المعاهدة، هو ليس بأمر إنسانيّ. إضافة إلى ذلك، فإن أيّ أمر "عسكري" في هذه المعاهدة يشكّل هو، أيضًا، أمرًا "غير إنساني". ينتج عن ذلك أنّ التعليمات التي تتيح، ولو عن طريق الاستثناء، إمكانيّة المسّ بحقوق المواطنين المحميّين حسب معاهدة جنيف الرابعة، هي، بالضرورة، تعليمات غير إنسانيّة، حيث صرّحت إسرائيل بأنّ هذه الادّعاءات غير سارية المفعول بالنسبة إليها؛ هذه التعليمات محسوبة ضمن القسم غير الإنساني الوارد في معاهدة جنيف الرابعة. بكلمات أخرى، ووفقًا للمنطق الإسرائيلي، فإنّ هذه التعليمات الواردة في معاهدة جنيف الرابعة هي ليست قانونًا ملزمًا لها.
إنّ هذه الثنائية التي تسقطها إسرائيل على معاهدة جنيف الرابعة، كمعاهدة تحتوي على تعليمات إنسانيّة، وبالتالي، فهي تحتوي بالضرورة على تعليمات غير إنسانيّة، تقوّض ادّعاءها المركزي الذي يكمن مصدره في المعاهدة ذاتها، والذي من المفترض أن يشكّل مصدرًا معياريًّا لبناء الجدار بشكل عامّ، وفي منطقة واقعة تحت الاحتلال بشكل خاص. وهكذا، على سبيل المثال، فإنّ المحكمة العليا الإسرائيلية في قضية بيت سوريك وفي أعقابها، ردّ الدولة، يحيلان إلى البند 53 من معاهدة جنيف الرابعة كمصدر معياري لبناء الجدار في منطقة محتلة. يحدّد هذا البند قاعدةً بشأن منع هدم الأملاك، واستثناءً يسمح بالمصادرة وبالهدم في حال نشوء ضرورة عسكرية مطلقة.
نجد أمامنا أمرًا في معاهدة جنيف الرابعة يشمل بعدين: الأول بعد إنسانيًّ، أي حماية الأملاك من الهدم، بما في ذلك أملاك مدنيين محميّين؛ وهناك، من جهة أخرى، بعد غير إنسانيّ، عسكريّ بحت، غايته أنّ ثمة إمكانيّة متوافرة كشكل استثنائيّ تتيح هدم أملاك مدنيين محميّين. إنّ الموقف الإسرائيليّ الرسميّ يرفض سريان مفعول معاهدة جنيف، ما عدا التعليمات الإنسانية الواردة فيها. لهذا، فإنّ افتتاحية البند 53 من معاهدة جنيف الرابعة هي سارية المفعول وتلزم السّلطات الإسرائيلية. في المقابل، فإنّ خاتمة البند 53 ليست أمرًا إنسانيًّا، لهذا، لا تأخذ دولة إسرائيل على عاتقها سريان مفعولها، كما هي الحال في بقية التعليمات غير الإنسانية الواردة في المعاهدة. ينتج أنّه وفقًا للمنطق الإسرائيلي ذاته، وبقوّة التمييز الذي خلقته بين التزام التعليمات الإنسانية الواردة في معاهدة جنيف الرابعة وبين رفض بقيّة التعليمات الواردة في المعاهدة نفسها، لا يمكن الاستناد إلى البند 53 كمصدر معياريّ يمنح شرعيّة لبناء الجدار في منطقة محتلة.
أبدية المؤقّت: الاحترام شبه المطلق للقائد العسكري
عزّزت المحكمة العليا الإسرائيلية في قضية بيت سوريك، مرّة أخرى، وجهة نظر القائد العسكري الذي تخضع قراراته وممارساته إلى المعاينة القضائية. فوفقًا للمحكمة العليا الإسرائيلية، من الصعب إلى درجة المستحيل تحدّي وجهة نظر القائد العسكري، الذي يصرّح أمام المحكمة بأنّ مصدر قراراته وممارساته هو الاعتبار العسكري، وبأنّ العملية موضوع التحدّي القضائي هي مؤقّتة، وذلك رغم حجمها العظيم، والاستثمار المادي الضخم المنوط بتحقيقها.
بالإضافة إلى ذلك، يبدو أنه في أعقاب قضية بيت سوريك لن تنفع الملتمسين أمام المحكمة العليا الإسرائيلية محاولتهم تقديم وجهة نظر مهنية من قبل عنصر أمن رفيع لم يعد يشغل منصبه بعد. لقد أقرّت المحكمة العليا الإسرائيليّة بشكل قاطع بأنّها ستفضّل، دائمًا، وجهة نظر القائد العسكري الذي يشغل المنصب، وذلك في ضوء المسؤولية الواقعة على كاهله. مع أخذ هذه الإقرارات بعين الاعتبار، تتلاشى إمكانية الادّعاء ضدّ وجهة نظر القائد العسكري؛ حيث إنّ تصريحه أمام المحكمة العليا الإسرائيلية المسنود بقرار الحكومة، رغم أنه، في أحيان متقاربة، يناقض التصريحات العلنية للحكومة، فإنّه سيحظى دائمًا بمباركة قضائية من المحكمة العليا الإسرائيلية. لن تقوم الأخيرة بتفحّص نهج القائد العسكري في سياق أوسع من تصريحه، ولا تتوفر أمام الملتمسين أصلاً إمكانية المسّ بمصداقيّته في ضوء غياب عملية تحقيق مضادّ أمام المحكمة العليا الإسرائيلية.
لهذا، ليس من المستغرب أن منحت المحكمة العليا الإسرائيلية خلال سنوات طويلة شرعيّة لخروقات عديدة وفظّة للقانون الدولي الإنساني، ارتكبتها حكومة إسرائيل، تلك الخروقات التي ادّعيَ بأنها مؤقّتة فقط، حيث إن مصدرها وجهة النظر نفسها ذات المصداقيّة والمباركة دائمًا للقائد العسكري، الذي ترك في نهاية اليوم القليل من الأرض للمدنيين المحميّين: إقامة المستوطنات، الطرق الالتفافيّة، والقواعد العسكرية.
ولئن كانت معاهدة جنيف الرابعة تعترف بوجود حيز من الاجتهاد (discretion) للقائد العسكري في المنطقة المحتلة للقيام بأعمال بالضرورة تمس بحقوق مدنيين محميين، إلا أن هذا الحيز من الاجتهاد هو الاستثناء وليس القاعدة. القاعدة في معاهدة جنيف الرابعة هي منع المس في هذه الحقوق الأساسية. أي انه من الواجب فحص الاجتهاد الممارس من قبل القائد العسكري في ظل نظام الرقابة والمنع المنصوص عليه في وثيقة جنيف الرابعة. الفرضية هي أن اجتهاد القائد العسكري قد يمس، بشكل شبه مؤكد، بحقوق المدنيين المحميين. هذه الفرضية تسري أيضا عندما يعمل القائد العسكري وفقا لاستثناء في معاهدة جنيف الرابعة يسمح، في ظروف معينة، المس في حقوق المدنيين المحميين. ويؤكد خبراء قانونيون هذه الفرضية من خلال تحليلهم للاستثناء في المادة 53 من معاهدة جنيف الرابعة، والتي تنص قاعدتها على منع تدمير الممتلكات، إلا إذا توفرت "حاجة عسكرية مطلقة".
سهولة استثناء القاعدة
أقرّت المحكمة العليا الإسرائيلية في قضية بيت سوريك بأنّ الأمر الوارد في البند 53 من معاهدة جنيف الرابعة والبند 23(ج) من أنظمة هاغ، يشكّلان مصدرًا لقانونية بناء الجدار في الضفة الغربية. وأقرّت المحكمة العليا الإسرائيلية في هذا الصدد بأنه:
"بالنسبة إلى الادّعاء في مسألة الصلاحية التي طُرحت أمامنا، فإنّنا نعتقد بأنّ القائد العسكريّ مخوّل - وفقًا للقانون الدوليّ السّاري المفعول في المنطقة الخاضعة لمفهوم قتاليّ- بالسيطرة على الأراضي إذا كان الأمر مطلوبًا لاحتياجات الجيش (يُنظر البندان 23(ج) و52 من أنظمة هاغ؛ والبند 53 من معاهدة جنيف الرابعة)".
خلافًا لرأي المحكمة العليا الإسرائيلية، أقرّت محكمة العدل الدوليّة بأنه لا يمكن أنّ يسري مفعول البند 23(ج) من أنظمة هاغ في سياق الوضع في الضفة الغربية، حيث إنّ سياق هذا البند هو العمليات العسكرية الهجومية في أثناء نزاع مسلّح. تصرّ إسرائيل على سريان مفعول البند المذكور أعلاه وتذكر في ردّها للمحكمة العليا الإسرائيلية، وباستنادها إلى المقولة المقتضبة للمحكمة العليا الإسرائيلية في قضية بيت سوريك بالنسبة إلى سريان مفعول البند:
"... إنّ هذا النظام لا يمنع إقامة العائق حتى إذا استلزمت الاستيلاء على أراضٍ، حيث إنه ملح بصورة ملزمة؛ بغية صدّ الهجوم الإرهابي. لهذا ترى المدّعى عليها أنّ إسرائيل مخوّلة بأن تقيم العائق استنادًا إلى قوانين إدارة الحرب، حتى إذا كان الأمر منوطًا بالاستيلاء على أرض بملكيّة خاصة؛ حيث إنّ إقامة العائق تفي بالشّروط التي أقرّها البند 23(ج). كذلك أقرّ حتى في قضية بيت سوريك".
توجّه الدولة في ردّها نقدًا لقاعدة الحقائق التي وضعت أمام محكمة العدل الدوليّة، بما في ذلك قاعدة الحقائق التي أدّت بالمحكمة إلى الإقرار بأنّ الفصل الثّاني من أنظمة هاغ لا يسري مفعوله في سياق بناء الجدار في الضفة الغربية. ومع ذلك، ففي ردّ الدولة ذاته يمكن ملاحظة تعريفها لـ"النزاع المسلّح مع الفلسطينيين"، فهناك معنًى واسع جدًّا، يشمل، أيضًا "الإخلال الواسع بالنظام". إنّ هذا التعريف يشكّك بقوّةٍ في مصداقيّة استنتاجاتها بشأن القوانين التي تسري عليها، إضافةً إلى الخطر الملموس الناتج عن هذا التعريف، الواقع على المواطنين المحميّين في منطقة محتلّة. فحسب منطق الدّولة:
"وعليه، فإنّ النزاع المسلّح مع الفلسطينيين يتبدّل ويتجدّد. بدءًا من عمليات الإخلال بالنظام الواسعة، مرورًا بتنفيذ عمليات تفجيرية على يد مخربين منتحرين، وحتّى إطلاق صواريخ في اتجاه المراكز السكانية (الإسرائيلية – م. د.) في إسرائيل وفي مناطق قطاع غزة".
لم تؤكد المحكمة العليا الإسرائيلية في قضية بيت سوريك، وكذلك إسرائيل في ردها بصدد الرأي الاستشاري لمحكمة العدل العليا، بأن القاعدة في المادة 53 لمعاهدة جنيف الرابعة هي منع إمكانية تدمير الممتلكات من قبل القوة المحتلة. الاستثناء في هذه المادة ينص على أنه بالإمكان تدمير تلك الممتلكات فيما إذا توفرت "حاجة عسكرية مطلقة". ويخضع هذه الاستثناء إلى قيود عديدة مصدرها مبادئ القانون الإنساني الدولي.
ولكن بغض النظر عن مسألة مبدئية القاعدة في المادة 53، هناك إشكالية جدية في الاستناد إليها لإضفاء شرعية قانونية على بناء الجدار في منطقة محتلة. هناك بعدان لهذه الإشكالية. أولا، سياق الاستثناء في المادة 53 لمعاهدة جنيف الرابعة الذي يتيح إمكانية تدمير الممتلكات هو "حاجة عسكرية ملحة خلال عمليات عسكرية". إقحام عملية بناء الجدار ضمن مصطلح "العمليات العسكرية"، يوسع بشكل غير محتمل الاستثناء للقاعدة التي هدفها حماية ممتلكات في المنطقة المحتلة، لا سيما ممتلكات مدنيين محميين. اعتبار بناء الجدار عملية عسكرية ضمن الاستثناء في المادة 53، يفسح المجال أمام القائد العسكري للمس بالممتلكات في المنطقة المحتلة وفقا لاجتهاده، ودون وجود أي واجب يفرض عليه التعويض عن التدمير الحاصل. حقيقة غياب واجب التعويض من نص المادة 53 لمعاهدة جنيف الرابعة تؤكد السياق العيني والضيق لمصطلح عمليات عسكرية.
ثانيا، الاستثناء المذكور لا يكتفي بوجود "حاجة عسكرية" للقوة المحتلة، وإنما "حاجة عسكرية مطلقة". أي انه لا بد أن تكون علاقة قرابة زمنية بين الحاجة العسكرية وبين العملية العسكرية التي أدت إلى تدمير الممتلكات في المنطقة المحتلة. لا توجد مثل هذه العلاقة الزمنية بين التخطيط والبناء لإقامة جدار والحاجة العسكرية المطلقة المدعاة من قبل إسرائيل.
من الصعب أيضا اعتماد المادة 52 لتعليمات هاغ من العام 1907 كمصدر لقانونية بناء الجدار في منطقة محتلة. وفقا لهذه المادة، بإمكان القوة المحتلة الاستيلاء على ممتلكات المدنيين، مع دفع التعويض، وذلك فقط لتلبية حاجة القوة العسكرية المحتلة. ولا يمكن توسيع مفهوم هذه الاحتياجات لتشمل احتياجات مواطني دولة الاحتلال في المنطقة المحتلة، الذين استجلبوا إلى هناك بشكل مناف للمادة 49(6) لمعاهدة جنيف الرابعة، وهي قاعدة لا استثناء لها: لا يمكن لدولة الاحتلال نقل مواطنين لها من منطقتها إلى المنطقة المحتلة.
أضف إلى ذلك أن المادة 52 من تعليمات هاغ 1907 تقع في القسم الثالث من هذه التعليمات والذي يعنى بمسألة إدارة الأرض المحتلة "Military Authority Over the Territory of the Hostile State". هذا القسم من التعليمات يشمل مواد تعنى بواجبات القوة المحتلة تجاه المواطنين الذي وجدوا أنفسهم واقعين تحت الاحتلال. ويمكن بسهولة اعتبار هذا القسم من تعليمات هاغ كمصدر معاهدات جنيف 1949، لا سيما المعاهدة الرابعة التي تفصل نظاما كاملا لحماية حقوق المدنيين الواقعين تحت الاحتلال وواجبات دولة الاحتلال. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، تنص المادة 43 من تعليمات هاغ الموجودة هي أيضا في القسم الثالث من التعليمات، على واجبات دولة الاحتلال (Occupant) في التصرف وكأنها السلطة الشرعية في البلد.
كذلك الأمر مع المادة 46 لتعليمات هاغ، الواقعة هي أيضا ضمن القسم الثالث للتعليمات، التي تنص على واجب الدولة المحتلة احترام حقوق أساسية للمدنيين تحت الاحتلال، لا سيما عدم إمكانية مصادرة أملاك الأفراد الواقعين تحت الاحتلال. وتتشابه هذه المادة إلى حد بعيد مع المادة 27 لمعاهدة جنيف الرابعة، لدرجة إمكانية اعتبارها مصدر وأصل هذه المادة.
هناك مادة أخرى ضمن تعليمات هاغ 1907 التي تتعلق بالسياق المشار إليه من قبل إسرائيل، وهي المادة 23(g) الواقعة في القسم الثاني من تعليمات هاغ وعنوانه "Means of Injuring the Enemy, Sieges, and Bombardments". وفقا لهذه المادة بالإمكان المس في ممتلكات الأفراد في حال توفر احتياجات ضرورية نابعة عن الحرب "imperatively demanded by the necessities of war". كما ذكر أعلاه، محكمة العدل الدولية استخلصت أن هذه المادة لا تنطبق على وضعية إقامة الجدار في الضفة الغربية. كذلك، فإن إسرائيل لا تستطيع أن تدعي انطباق هذه المادة والمادة 52 في آن واحد، لأن لكل مادة سياقًا مختلفًا بل ويتناقض مع الآخر. المادة 52 تتعلق بإدارة المنطقة المحتلة، وليس بالصراع أو النزاع فيه. الأساس الذي يوثق انطباق المادة 52 هو ليس ذلك المدعى من قبل إسرائيل ذاتها.
قانون حقوق الإنسان الدولي
تخصّص محكمة العدل الدّوليّة في معرض رأيها الاستشاري حيّزًا كبيرًا لمناقشة خرق حقوق السكان الفلسطينيين نتيجة لبناء الجدار، وذلك وفقًا للقوانين الدولية لحقوق الإنسان، وخصوصًا وفق المعاهدة الصادرة بشأن الحقوق المدنية والسياسية من عام 1966؛ المعاهدة الخاصة بالحقوق الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية من عام 1966؛ والمعاهدة الخاصة بحقوق الطفل من عام 1989، التي صدّقت عليها إسرائيل عام 1991. استنادًا إلى تقارير مندوبين ولجان من قبل الأمم المتحدة، تتوصّل المحكمة إلى نتيجة مفادها أنّ الحقوق النافذة بقوّة هذه المعاهدات قد تمّ خرقها.
إنّ المحكمة العليا الإسرائيلية لا تجري أيّ نقاش في الحقوق النافذة بقوّة محكمة حقوق الإنسان الدولية. يبدو أنه، وفقًا لرئيس المحكمة العليا الإسرائيلية، أهارون باراك، على الأقلّ، لا تسري هذه الحقوق في مناطق محتلة. كذلك، ووفقًا لمنطق الدولة، فإنّ معاهدات حقوق الإنسان الدوليّة غير سارية المفعول في المناطق التي تمّ احتلالها عام 1967.
تضيف الدّولة وتدّعي في ردّها أنّ العلاقات المتبادلة بين الحقوق وفقًا للمعاهدات الدوليّة بشأن حقوق الإنسان وبين القانون الدولي الإنسانيّ، في إمكانها، طبعًا، أنّ تحدّ من الحقوق الأولى. إنّ الدّولة تأتي بمثال على ذلك في سياق حظر السلب التعسّفيّ للحقّ في الحياة بموجب البند 6 من المعاهدة حول الحقوق المدنية والسياسية. ادّعت الدولة في ردّها أنّ التوازن القائم في هذا البند يتلخّص في مصطلح التعسّف، في حين أنّ القانون الدولي الإنسانيّ يضفي مضمونًا على معادلة التوازن المذكورة. حسب منطق الدولة، فإنّ القانون الدّولي الإنسانيّ يسمح، بشروط معينة، بقتل الأبرياء، لهذا، فإنّه، فعلاً، يمسّ بالحظر القائم في البند 6 المذكور أعلاه. إنّ الدولة لا توفّر بندًا ما في القانون الدّولي الإنسانيّ يسمح بالقتل الذي ذكرته، ورغم ذلك فإنّ الادّعاء جاء وكأنّه مفهوم ضمنًا:
"... يمنع البند 6 من المعاهدة المذكورة أعلاه (الحقوق المدنية والسياسية – م. د.) السلب "التعسّفيّ" للحقّ في الحياة. إنّ مسألة تعسّفيّة سلب الحياة ستتمّ معاينتها وفقًا للمبادئ التي يقوم عليها القانون الإنساني، الذي يتيح سلب الحياة في شروط معيّنة، بما فيها حياة الأبرياء".
يبدو أن مصدر هذا التوجه لإسرائيل في تحليل العلاقة بين قانون حقوق الإنسان الدولي والقانون الدولي الإنساني هو في قرار استشاري آخر لمحكمة العدل الدولية بصدد خطر استعمال السلاح الذري من يوم 8.7.1996. ومن غير المفاجئ لا يتم ذكر المصدر، لمنع أي إمكانية لإضفاء أي مكانة قانونية لرأي استشاري من قبل محكمة العدل الدولية. وتقر محكمة العدل الدولية انطباق قانون حقوق الإنسان الدولي أيام النزاع المسلح أيضا ووقت الحرب، عكس موقف إسرائيل، وذلك بشكل لا يشوبه أي شك:
على الرغم من الشبه بين تحليل إسرائيل للعلاقة بين المجالين الحقوقيين: القانون الدولي الإنساني كقانون عيني لا يقصي انطباق قانون حقوق الإنسان الدولي أيام الاحتلال أو النزاع المسلح، ولكن يحدد معناه، إلا أن المحكمة الدولية لا تستخلص النتيجة التي استخلصها الموقف الإسرائيلي، أي أن القانون الدولي الإنساني يتيح إمكانية قتل الأبرياء، وفقا" لشروط معينة".
خلاصة
في حين تتركز أنظار المجتمع الدولي على خطة الانسحاب الإسرائيلية من غزة، التي كما يبدو لن تنهي الاحتلال هناك، فان أريئيل شارون وحكومته يبنون بنشاط المستوطنات والجدار في الضفة الغربية. هذا البناء يمس بالضرورة بحقوق المدنيين الفلسطينيين هناك.
نفت إسرائيل الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية ولن تطبقه. احد الادعاءات المركزية الموجهة من قبل إسرائيل لدحض موقف محكمة العدل الدولية يخص الحقائق التي مثلت أمام المحكمة. لا شك أن هناك اليوم حقائق أخرى، غير تلك التي كانت أمام محكمة العدل الدولية. إلا أن هذه الحقائق لا تغير من استنتاجات محكمة العدل الدولية: بناء الجدار يتم في عمق المنطقة الفلسطينية المحتلة، وعلى حساب حقوق أساسية لمدنيين محميين وفقا للقانون الدولي الإنساني.
لا يمكن اعتبار قرار المحكمة العليا الإسرائيلية في قضية بيت سوريك بديلا عن استخلاصات محكمة العدل الدولية. في أحسن الأحوال فان السلطات الإسرائيلية تدعي أن بناء الجدار يتم وفقا لمبدأ التناسب المقر في هذه القضية، دون الامتناع عن المس بشكل فظ بحقوق مدنيين محميين. في الحالة الأسوأ، فان قرار بيت سوريك يوفر شرعية شبه مطبقة لقرارات القائد العسكري بحيث من المستحيل أن يتم تحديها ضمن النظام القضائي الإسرائيلي.
إن اتخاذ قرار التوجه إلى الهيئات الدولية في مسألة الجدار كان مطلوبا وحكيما. بدون السياق الدولي لما كان قرار بيت سوريك الإسرائيلي. ويتعلق تطبيق استخلاصات محكمة العدل الدولية بالنشاط ضد الجدار. ولذا يكمن التحدي للناشطين ضد الجدار، في هذه الفترة البالغة التعقيد، في زيادة الوعي الدولي حول ممارسات الاحتلال الظالمة، وتكثيف النضال ضد حامل رايته الأبرز – الجدار.
(*) محام يعمل في مركز "عدالة" القانوني.