السؤال الذي أبتغي عرضه هنا هو الآتي: ما هي المدارك الخاصة بالديمقراطية الإسرائيلية التي وجّهت "لجنة أور"، كما انعكست في تقريرها؟ أو، بكلمات أخرى، ما هي المدارك الديمقراطية، أو أيّ نوع من الديمقراطية رغبت "لجنة أور" في ترميمه؟
السؤال الذي أبتغي عرضه هنا هو الآتي: ما هي المدارك الخاصة بالديمقراطية الإسرائيلية التي وجّهت "لجنة أور"، كما انعكست في تقريرها؟ أو، بكلمات أخرى، ما هي المدارك الديمقراطية، أو أيّ نوع من الديمقراطية رغبت "لجنة أور" في ترميمه؟
يبدو لي أنّ الطريق الأقوَم لفهم تقرير "لجنة أور" لا ينحصر في منحى المنظورات القضائية الضيقة فيه، بل يتعدى ذلك، أيضًا، نحو المنظورات السياسية الاجتماعية الرحيبة. أنا أعتقد أنه في الإمكان فهم التقرير على أنه محاولة من جهة اللجنة لترميم الديمقراطية التي كانت قائمة في دولة إسرائيل قبل "أحداث أكتوبر"، والتي مُسّت - في رأي اللجنة - مسًّا بالغًا في "أحداث أكتوبر". وعليه، فإنّ اللجنة ضربت لنفسها هدفًا مسعاه محاولة ترميم و"إعادة تأهيل" الوضع الذي ساد قبل احتجاجات السكان العرب في بداية أكتوبر 2000.
ويشكّل مصطلح "إعادة التأهيل" (الترميم) مصطلحًا مركزيًّا هنا، وفي هذا يندرج - في الواقع - ادعائي، أنّ اللجنة لم تحاول تحسين الوضع كما كان عليه قبل أكتوبر 2000، بل حاولت العودة به إلى ما كان عليه قبل أكتوبر 2000.
هناك الكثير جدًّا من النقاشات حول ماهية الطريق القويم لتوصيف التسوية الدستورية التي كانت قائمة في إسرائيل حتى أكتوبر 2000. وفي هذا الخضم برز مصطلح واحد، جذّره وسيّره البروفيسور سامي سموحا وحظي بعظيم الاعتراف والقبول، إلى جانب الكثير من النقد، وهو مصطلح "الديمقراطية الإثنية".
ويفيد مصطلح "الديمقراطية الإثنية" أنّ الحديث هو عن نوع من نظام الحكم، أو نوع من الإطار الدستوري، ينوجد فيه نوع ما من البنية التحتية لحقوق فردية متساوية، إلا أنّ السيطرة مُمَأسسَة قانونيًّا لصالح مجموعة إثنية واحدة، وهي مجموعة الأغلبية (وإذا لم تكن هذه المجموعة مجموعة الأغلبية، فمن النافل أنّ الحديث هنا لا يدور عن ديمقراطية أصلاً). ويدعي سموحة أنّه في الإمكان إطلاق كنية نظام ديمقراطي على مثل هذا النظام، ديمقراطية من نوع مختلف: هذه ليست ديمقراطية من النوع "أ" – ديمقراطية ليبرالية - بل هي ديمقراطية من النوع "ج" ، ومع ذلك تظل ديمقراطية.
حظي هذا النموذج النظري بكثير من النقد والانتقاد. فقد ادّعى البعض أنه لا يمكن تسمية أمر من هذا النوع بالديمقراطية. كما أنّ النقد وُجّه، أيضًا، في شأن القدرة على تطبيق هذا المصطلح في إسرائيل. وأنا على قناعة بأنّ هذه الانتقادات وهذه النقاشات معروفة للكثيرين من الحاضرين هنا، ولا حاجة إلى تكرارها.
وفي رأيي، فإنّ مصطلح "الديمقراطية الإثنية"، كمصطلح تحليلي، هو مصطلح عملي جدًّا؛ لأنه يمكّن من التمييز بين وضعية المواطنة لثلاث مجموعات مندرجة في ما يُكنى بـ "جهاز السيطرة الإسرائيلية"، أي - إسرائيل والمناطق المحتلة. وهذه المجموعات الثلاث هي:
· المواطنون اليهود.
· المواطنون الفلسطينيون .
· الفلسطينيون غير المواطنين في المناطق المحتلة.
من الواضح أنه لا يمكن تدعيم الادعاء القائل إنّه لا فرق في مكانة المواطنة الخاصة باليهود في مقابل الفلسطينيين المواطنين أو الفلسطينيين غير المواطنين.
أعتقد أنّ نظرة معقولة ستمكّننا من أن نرى بوضوح أنّ هناك ثلاث مجموعات تختلف في ما بينها من ناحية المواطنة، ثلاث مجموعات تتباين في موقعها المواطني، ومصطلح "ديمقراطية إثنية" يقف عند هذه الفروق، ويزوّدنا بالأدوات اللازمة للتمحيص الدقيق في مميزات مكانة المواطنة لكل واحدة من هذه المجموعات. ولذلك، وفي رأيي، فإنّ مصطلح "الديمقراطية الإثنية" هو مصطلح تحليليّ مفيد جدًّا. وفي الإمكان التناطح حول ما إذا كان وصفه بالديمقراطية صحيحًا أم لا، إلا أنّ هذا من ناحيتي أقل شأنًا، الآن.
ما أودّ ادعاءَه هو أن "لجنة أور"، التي ادّعت الإيمان بديمقراطية ليبرالية، والتي تكلمت بلغة الديمقراطية الليبرالية، افترضت كفرضية أساس لم تتناولها بالمساءلة والتساؤل أنّ للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل حقوقًا فردية متساوية مع تلك التي يملكها المواطنون اليهود. فقد قررت اللجنة ذلك ببساطة كنقطة انطلاق، وتظاهرت، ربما بشكل لا واعٍ، بأنّ هذا هو الوضع حقًّا. ولكن في الواقع، وإذا ما حللنا التقرير، فإنه في الإمكان وبسهولة التوصل إلى أنّ المدارك التي وجّهت اللجنة والتي توجّه التقرير ليست مدارك ديمقراطية ليبرالية، وهي ليست مدارك حقيقية للمساواة في الحقوق بين المواطنين اليهود وبين المواطنين الفلسطينيين في دولة إسرائيل، بل هي مدارك تلائم مصطلح "الديمقراطية الإثنية". بمعنى أن هناك مستوًى معينًا من الحقوق المتساوية، ولكن ما يتعدى هذا المستوى هو سيطرة معرّفة ومنصوصة في القانون والقضاء تتبع اليهود في الدولة وتتبع إلى الدولة التي تنشط باسم اليهود. وهذا الأمر لم تسعَ "لجنة أور" لتبديله، بل سعت لحفظه، أو سعيًا نحو الدقة، لإعادته إلى سالف حاله؛ لأنّ اللجنة شخّصت، وبصدق كبير في رأيي، أنّ خطبًا وقع في أكتوبر 2000 هزّ أركان الوضع الذي ساد سابقًا. وفي هذا المنحى صدقت اللجنة: فقد وقع خطبٌ فعلاً في أكتوبر 2000 كسّر - ربما ليس نهائيًّا ولكن بقسط كبير- التسوية الدستورية التي كانت سائدة قبل ذلك، وهذا ما رغبت اللجنة في إصلاحه. فقد رغبت في العودة إلى الواقع الذي ساد آنئذٍ، إلى ذلك الوضع الذي أسميه "ديمقراطية إثنية". فاللجنة لم ترغب في السعي قدمًا.
وهنا تعود المقارنة بـ "لجنة كيرنر" في الولايات المتحدة بالفائدة الجمة. فقد قامت "لجنة كيرنر"، مع بعض الزيادة أو النقصان، بالأمور نفسها التي قامت بها "لجنة أور" (مع أنها قامت بذلك في نصف سنة وليس في ثلاث سنوات). ولكن يسهل جدًّا أن نرى أن "لجنة كيرنر"، وخلافًا لـ "لجنة أور"، وجّهتها مدارك الديمقراطية الليبرالية. ويعود ذلك إلى أنّ هذه المدارك هي المدارك المتعارف عليها، ولا مدارك أخرى شائعة غيرها، لا سيما في الخطاب العام والسياسي أو القضائي. الديمقراطية الليبرالية هناك هي أمر مفروغ منه. وهنا، بالطبع، الديمقراطية ليست امرا مفروغا منه، والمقارنة بين اللجنتين يمكن أن تدلّ على ذلك.
ولكن قبل أن نصل إلى المقارنة أودّ أن أطرح نقاطًا عدة من تقرير "لجنة أور"، تقوّي - في نظري - الادعاء الذي طرحته.
لقد شخّصت اللجنة ما وصفته بـ "عوامل جوفية" من وراء أحداث أكتوبر 2000. وتُعتبر قائمة هذه العوامل الجوفية، أو تحليلها، لائحة اتهام حادة وحقيقية وعميقة ضد دولة إسرائيل. وتصف اللجنة ما حدث في دولة إسرائيل في حق المواطنين الفلسطينيين، منذ إقامة الدولة وحتى أحداث أكتوبر، بأنه تمييز وظلم. وفي رأيي، إنّ مصطلحي تمييز وظلم ليسا المصطلحيْن الملائميْن. أنا أعتقد أنّ هناك مصطلحات تفي أكثر في توصيف الوضع، مثل: القمع والغبن. ولكن التمييز والظلم يكفيان. ومضمون ما تحدثت عنه اللجنة وما كتبته في التقرير يدلّ بوضوح وتأكيد على الوضع.
بعد هذا، تقوم اللجنة بفعلة ذكية جدًّا. فهي تقول، هذه هي العوامل الجوفية، ولكنّ هناك أمرًا آخر بالإضافة. وما هو هذا الأمر الآخر؟ هناك راديكالية آخذة في التقوي في الاحتجاج الفلسطيني. بما معناه أنّ راديكالية الاحتجاج الفلسطيني ليست نتيجة للعوامل الجوفية، وليست ردّ فعلٍ لما تعرفه اللجنة على أنه تمييز وظلم امتدّا على خمسين ونيّفٍ من السنين، بل هي عامل آخر.
هذه الراديكالية، تقول اللجنة، هي في غالبيتها الكبيرة شرعية. وحتى الحركة الإسلامية - تقول اللجنة - حاولت - قبل أيّ شيء - أن تطرح ادعاءاتها في المؤسسات المُشرّعة وفي المؤسسات القضائية. وفي أعقاب عدم حصولها على أي ردٍ على هذه الادعاءات، الصحيحة في أغلبيتها الكبيرة - كما تقول اللجنة - عندها، فقط، التجأت الحركة الإسلامية إلى وسائل أكثر راديكالية.
ان راديكالية الاحتجاج - حتى نقطة معينة - كانت شرعية في نظر اللجنة. وتعرّف اللجنة "الراديكالي"، وهذا تعريف جميل جدًّا، بأنه الأمر الذي يسعى لمواجهة المشاكل جذريًّا. ما يعني أنّ الراديكالي ليس أمرًا سلبيًّا بالضرورة. وفي هامش الراديكالية، فقط، اكتشفت اللجنة أمورًا، بمفهوم تجاوز تقييدات القانون.
وتنشأ المشكلة في هامش الاحتجاج، في هامش عملية "ردْكَلة" الاحتجاج؛ لأنّ الاحتجاج هناك يتحول إلى غير قانوني. أي أنّ هناك عوامل جوفية وتمييزًا وظلمًا، كما تسميها اللجنة، وكل ذلك على مدار خمسين سنة ونيف، لم يتوافر في مقابلها أي رد أو أي علاج إيجابي- ما عدا، طبعًا، تلك الفترة القصيرة التي شكل ضمنها النواب العرب كتلة مانعة في الكنيست، التي نعرفها جميعًا والتي تعرفها اللجنة في دورها. لكن، عمومًا، ليس هناك أيّ تحسّن يُذكر في وضعية التمييز والظلم، وعلى هذا يردّ المواطنون الفلسطينيون بالاحتجاج الراديكالي، في واقع الأمر، وغير القانوني في هامشه، فقط. أي أنّ الاحتجاج بغالبيته هو احتجاج قانوني وشرعي.
والآن، يأتي رد فعل الشرطة. وردّ الشرطة - اللجنة نفسها قالت هذا - هو رد غير قانوني. وما الذي في هذا الرد ليجعله غير قانوني؟ هذا الرد هو غير قانوني لأنّ الشرطة استخدمت ضد المتظاهرين الوسائل نفسها المستخدمة يوميًّا في المناطق المحتلة ضد من هم غير مواطنين. وتخوض اللجنة، مثلاً، غمار جدال أساسي جدًّا في مسألة الأعيرة المغطاة بالمطاط، وتتوصل إلى استنتاج مفاده أنّ هذه الأعيرة هي أعيرة فتاكة. ولكن اللجنة لا تقول إنه من المحظور استعمال الأعيرة المغلفة بالمطاط ضد المواطنين. ما معناه أنّ ما يضايق اللجنة في تصرفات الشرطة وما يجعل من هذه التصرفات تصرفات غير قانونية، هو أنّ الشرطة تحاول تمييع الفارق بين المواطنين وغير المواطنين.
وكما ذكرت، فإنّ مصطلح "الديمقراطية الإثنية" مُنبَنٍ على مدماكين مميزيْن:
· التمييز بين مواطنين وغير مواطنين.
· التمييز بين مواطنين يهود ومواطنين فلسطينيين.
يجب أن ينوجد هذان التمييزان لكي تنوجد "الديمقراطية الإثنية".
تنتقد اللجنة الشرطة بلغة جلية جدًّا بأنها - أي الشرطة - ومن خلال تصرفاتها ومن خلال الوسائل التي استخدمتها، تميّع، أو ميّعت، عن قصد أو عن غير قصد - ويمكن إبقاء هذه النقطة مفتوحة، حاليًّا، فهناك شهادات توردها اللجنة تسري بالتفكير نحو التعمد، ولكن حتى لو لم يكن الأمر كذلك - ميّعت أو تميّع الفارق، الحيوي لـ "الديمقراطية الإثنية"، بين المواطنين وغير المواطنين، وقد عبرت اللجنة عن استيائها من هذا الموضوع.
تجسيد آخر لهذه النقطة يكمن في أنّ اللجنة غاضبة جدًّا من جراء استخدام مصطلح "انتفاضة"، من قبل الجانبين (من جانب القيادة المنتخبة لدى الأقلية العربية ومن جانب الدولة)؛ لأنّ استخدام هذا المصطلح، "انتفاضة" - في نظر اللجنة - معناه محو الخط الأخضر، وإلغاء الفروق المميزة بين المواطنين وغير المواطنين، وهذا أمر خطير جدًّا في نظر اللجنة.
وما لم تسأل عنه اللجنة، وهنا يأتي الجانب الثاني في ادعائي، هو كيفية تصرف الشرطة في حالات مشابهة تجاه متظاهرين يهود؟ لأنّ كل الأمور التي قام بها المتظاهرون في أكتوبر 2000، ربما ليس بالقوة نفسها وربما ليس بالكثافة نفسها وربما ليس بالحجم نفسه، إلا أنّ الأمور التفصيلية كلها سبق أن قام بها متظاهرون يهود في السابق: رشق السيارات بالحجارة - كانت هناك حالات كثيرة جدًّا من رشق السيارات في السبوت بيد حريديم، وقد شكّلوا أخطارًا على حيوات سائقي هذه السيارات، وكلنا نعرف القصص عن شارع "بار إيلان" في القدس؛ إحراق الإطارات في نزاعات العمل؛ سدّ المفارق. بماذا يمكن تسمية النشاط المركزي الذي انتهجته حركة "زو أرتسينو" (هذه بلادنا) ضد (رئيس الوزراء الأسبق إسحق) رابين وضد اتفاق أوسلو، إن لم يكن بسدّ المفارق، بما فيها مفارق مركزية مثل محور القدس- تل أبيب؟
أي أنّ كل عمل من الأعمال التي ارتكبها المتظاهرون في أكتوبر 2000 ارتكبه في الماضي متظاهرون يهود. هل خطر في بال أحدٍ أنّ الشرطة كانت ستستخدم، عندها، حتى عيارات مغطاة بالمطاط ضد متظاهرين يهود؟ دعك، طبعًا، من الذخيرة الحية، ودعك أكثر من الذخيرة الحية بأيدي القناصة.
وبالإضافة، لم يُعيّن المقدم أرييه عميت، الذي كان قائد لواء القدس في الشرطة، في وظيفة المفتش العام للشرطة؛ لأنّ شرطيين تحت إمرته استخدموا الخيل ضد متظاهرين حريديم رجموا السيارات بالحجارة. لم تعرض "لجنة أور" هذه المقارنة في تقريرها، بين تعامل الشرطة مع متظاهرين يهود في مقابل تعاملها مع المواطنين العرب في أحداث متشابهة. لماذا؟ لا جواب عن هذا في تقرير اللجنة.
بكلمات أخرى، قامت "لجنة أور" بجانب واحد، فقط، من المقارنة: كيف تتصرف الشرطة، أو قوات "الأمن" عمومًا، في المناطق (المحتلة) في مقابل تصرفاتهم في داخل الخط الأخضر. كما أنها لم تقم بالمقارنة الثانية اللازمة: كيف تصرفت الشرطة في حالات مشابهة ضد متظاهرين يهود؟ ولو طرحت اللجنة هذا السؤال، لكانت تصرفات الشرطة ستبدو، عندها، بضوء أخطر بكثير مما بدت عليه. وهذا لم تسأله اللجنة، ولم تطرحه. لماذا؟
إنني أدعي أنّ اللجنة تبنّت، كمُعطًى، الفارق المُميز بين مواطنين فلسطينيين ومواطنين يهود. وقد تبنّت هذا كمعطًى لم ترغب في مساءلته أو في التساؤل في شأنه. ما رغبت، حقًّا، في السؤال عنه هو الفارق المميز بين مواطنين وغير مواطنين، وهو الفارق المميز الذي مُسّ في أثناء أحداث أكتوبر، وهو الفارق المميز الذي رغبت اللجنة في إعادة ترميمه. ولم ترغب اللجنة في طرح الأسئلة بصدد الفارق المميز الآخر؛ لأنّ الديمقراطية الإثنية تُوجب وجود هذين الفارقين المميزين، وفي حال تضعضع أحدهما، فإنّ اللجنة ترغب في إعادة ترميمه. الفارق المميز الثاني ظلّ على حاله.
وقد انعكس هذا الأمر، أيضًا، في توصيات اللجنة. ولا أقصد هنا التوصيات في شأن المسؤولية الشخصية عن أعمال عديدة، المسؤولية الشخصية والمؤسساتية، وهي، طبعًا، تشغل حيزًا كبيرًا من التوصيات والاستخلاصات. أنا أتحدث عن التوصيات العامة، الجهازية والنظمية، التي تشغل حيزًا صغيرًا جدًّا في تقرير "لجنة أور"، أي التوصيات في شأن العوامل الجوفية المذكورة. وهنا يمكن للمقارنة بـ "لجنة كيرنر" أن تعود علينا بالفائدة الجمة.
أنهت "لجنة كيرنر" تقريرها، وهو تقرير طويل جدًّا، بالمقولة: نحن - أي الولايات المتحدة - نقف، الآن، في مواجهة ثلاثة خيارات، في أعقاب ما أسمته اللجنة بـ "الإخلالات بالنظام" التي وقعت في صيف 1967. وهذه الخيارات الثلاثة هي: إستمرار الوضع السائد (ستاتوس كوو)؛ تحسين الوضع في داخل ما يسمونه "الغيتو"، من دون اندماج؛ والاندماج. هذه هي الخيارات الثلاثة المتاحة، الآن، وعلى الإدارة الأميركية أن تقرر أيًا منها ستختار. ولكن اللجنة توصي ومن دون أيّ تردد ومن دون أيّ شك بخيار الاندماج. وفي رأي اللجنة، فإنّ الاندماج هو الحل للمشاكل التي ولّدت الأحداث في صيف 1967. وتعرّف "لجنة كيرنر" الاندماج بأنه تأسيس لهوية أميركية واحدة. ما يعني إلغاء هوية للبيض في مقابل هوية للسود، بل هوية أميركية واحدة.
ولذلك فإنّ "لجنة كيرنر"، في 35 صفحة من القطع الكبير، تورد توصيات مفصلة جدًّا ودقيقة، في المجالات كلها التي وجدت فيها تمييزًا وظلمًا ضد السود: الإسكان، التشغيل، الرفاه، تعامل الشرطة وغيرها. وكل هذا مرفق بمجموعة غنية جدًّا من المعطيات التي تشهد على ذلك التمييز. وفي تقرير كيرنر ملاحق إحصائية تدلّ على التمييز، والاقتراحات الواردة للتصحيح هي مقترحات مفصلة تشمل مقترحات تمويلية. وقد تمّ ذلك لأنّ "لجنة كيرنر" تطرقت، أيضًا، إلى السؤال حول كيفية تمويل الإصلاحات الواردة التي قررت وجوب القيام بها؟ (في ملاحظة اعتراضية - لا يستأهل قولها حتى - أقول إن التوصيات لم تُطبق، وهذا باب آخر، طبعًا. فتوصيات مثل هذه اللجان لا تُطبق، عادة).
لم تُوصِ "لجنة أور" بالاندماج - وهذا، أيضًا، يكاد لا يستأهل الذكر- كما أنها لم تُوصِ بأية إصلاحات تُذكر بصدد التعامل مع المواطنين الفلسطينيين في تلك المجالات كلها التي عددتها في البداية كعوامل جوفية من وراء الأحداث. فهي لم تدخل في هذا المنحى، قط. ولماذا لم تفعل ذلك؟
في رأيي، لو رغبت "لجنة أور" في الولوج في هذا لكان عليها أن تقول الحقيقة الواضحة والبسيطة: إنه في سبيل تصحيح وضعية التمييز والظلم، يجب، بادئ ذي بدء، اتخاذ قرار أنّ دولة إسرائيل هي دولة كل مواطنيها. لأنّ كون دولة إسرائيل دولة كل مواطنيها هو، فقط، ما سيمكّن من التغلب (على هذه الأمور)، وعندها، فقط، سيكون في الإمكان البدء بمعالجة مشاكل التمييز والظلم هذه. وما دامت الدولة معرفة - انطلاقًا من قاعدتها الدستورية - بأنها لا تتبع لجميع مواطنيها، فمن الواضح أنه لا يمكن توقع معاملة متساوية مع المواطنين كلهم.
هل في وسع أحدٍ أن يتخيل "لجنة أور" وهي توصي - على غرار "لجنة كيرنر" - بتأسيس هوية إسرائيلية واحدة؟ هل هناك، أصلاً، ما يمكن تسميته هوية إسرائيلية؟ وبكلمات أخرى، هل في وسع أحدٍ أن يتخيل اللجنة توصي بتأسيس ديمقراطية ليبرالية في إسرائيل، ما يعني تأسيس دولة كل مواطنيها؟ ولكن من دون هذا لا يمكنها الولوج في قضية التوصيات العينية في المجالات المختلفة؛ لأنه من الواضح جدًّا أنّ هذا شرط لازم لتطبيق تغيير حقيقي ما في هذه المجالات كلها التي عددتها بشكل جميل جدًّا، والتي تعاني التمييز والظلم.
وما حاولت "لجنة أور" عمله، حقًّا، هو إعادة وضعية "الديمقراطية الإثنية" على ما كانت عليه. لأنّ اللجنة أدركت أنّ هذا الوضع تضعضع نتيجة لأحداث أكتوبر. ولكن لم يكن هناك حاجة إلى الكثير من الذكاء للتكهن أنّ توصيات اللجنة - وبالتأكيد الهامة والأساسية فيها - لن تُنفذ. وهذا ناتج من أنّ الـ"الليكود" - وهم من كانوا سيركّبون الحكومة عند نشر اللجنة توصياتها، وكانت هوية الحكومة القادمة، عندها، واضحة - أعلن بوضوح أنه لا ينوي تطبيق توصيات اللجنة. لم يكن من المفترض أن يقابل هذا بالتفاجؤ. فالأمور قيلت وبصراحة. حتى إنهم قبل أن يُنتخبوا عارضوا إقامة اللجنة وأعلنوا بصراحة، ومنذ البداية، أنهم لا ينوون إيلاءها أي اهتمام.
في مثل هذا الوضع، وعندما تكون اللجنة على بيّنة من أنّ كل ما ستكتبه لن يحظى بأيّ احتمال لتطبيقه، فإنه كان من الممكن - في رأيي - التوقع منها أن تكون أكثر جرأة وإقدامًا، فيما لو كانت معنية حقًّا بذلك، وأن تقترح تغييرات في اتجاه الديمقراطية الليبرالية. إلا أنّ اللجنة، أو من أجل التدقيق، عضويها اليهوديين، على ما يبدو - وأعتقد أن هذا واضح في كل سيرورة عملها - لم يكونا مهتميْن، كلجنة، وأنا غير مقتنع، أيضًا، بأنهما مهتمان على المستوى الشخصي، بتأسيس ديمقراطية ليبرالية هنا. ولكنهما مهتمان وذَوَا التزام شخصي، في المقابل، في استمرار وجود الدولة كدولة يهودية، ما يعني استمرار وجود "الديمقراطية الإثنية". واليوم، يمكننا، فقط، التطلّع باشتياق إلى مثل هذا الوضع.
* محاضر في جامعة تل أبيب. النص أعلاه تلخيص لمحاضرة قدمت في يوم دراسي بعنوان "أكتوبر 2000: ذاكرة للإحتجاج" عقد في الناصرة يوم 2/10/2004 ، بمبادرة من مركز "عدالة" ولجنة المتابعة العليا لشؤون المواطنين العرب في إسرائيل ولجنة ذوي الشهداء.وننشره هنا بالتعاون مع "عدالة"