المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • ابحاث ودراسات
  • 2186

ليس لدي شك في ان النضال من اجل اقامة الدولة الفلسطينية على 22% من مساحة "ارض اسرائيل" الانتدابية يشكل من وجهة نظر الفلسطينيين اهون الشرور، ومع ذلك فان هذه التسوية المؤلمة لا تزال بعيدة عن متناول يدهم. نحن <المنتصرون> ونحن ننتصر اليوم تحت غطاء <محاربة الارهاب>. وتعود القصة القديمة حول الحتمية واللاحتمية في التاريخ وعن الممارسات والافعال السلبية التي يرتكبها الطرف المحق في صراعه (عمليات التفجير التي ينفذها الانتحاريون الفلسطينيون) لتكرر نفسها وان بمقاييس مختلفة بطبيعة الحال. يمكن للفلسطينيين ايضا وربما هم بالذات، اعادة طرح السؤال الساذج لـ بار اون بصيغة او ديباجه فلسطينية: <<ماهو الخيار المتاح لي ولزملائي في هذا الوقت؟ فهم من يملك الطائرات والدبابات ولسنا نحن من يملكها>>..<p>

الصهيونية و التاريخ / داني بيتر
هل حقا بيني موريس مؤرخ جديد؟ (مقال عن مقال)

ماركس، عن التاريخ: <<التاريخ لايفعل شيئا فهو لا يملك ثراء فاحشا، ولايقاتل في المعارك.. ان بشرًا من لحم ودم هم من يصنع كل شئ، يشترون العتاد ويخوضون الحروب>> - (اقتباس ا . هـ. كار في كتابه " ماهو التاريخ؟" ص59)

نشر المؤرخ بيني موريس في 16/4/2002 مقالاً في ملحق جريدة <هأرتس> ("سفَريم" – كتب) قيَّم فيه كتابين صدرا لـ مردخاي بار أون، الاول بعنوان <الذاكرة ككتاب> (حول تاريخ حرب 1948) والثاني <حدود من دخان> (وهو عبارة عن تأملات في تاريخ دولة اسرائيل 1948 – 1967).

بداية، تجدر الاشارة الى ان بيني موريس كان قد اصبح في الموعد الذي نشر فيه المقال، بيني موريس آخر.. إذ لم يعد من اهم <المؤرخين الجدد>، حيث كان قد كشف عن مشكلات أساسية في تاريخ الدولة، مثل مشكلتي اللاجئين والعمليات الانتقامية. قبل شهرين فقط من تاريخ نشر المقال المذكور، اي في شباط 2002، نشر مقالا في صحيفة " الغارديان" البريطانية، يتراجع فيه عن اسهامه الكبير في اماطة اللثام عن "النكبة" الفلسطينية والمسؤولين عنها. وقد كتب في مقاله هذا قائلاً: <<ان كل من استخدم بحوثي بهدف ابراز دور اسرائيل ومسؤوليتها، لم يأخذ بالحسبان أنني اكدت في الخلاصة أن مشكلة اللاجئين كانت حتمية، نتيجة للموقف الصهيوني باقامة دولة يهودية على ارض مأهولة في غالبيتها بالفلسطينيين، ونتيجة للرفض العربي للمشروع الصهيوني.>>

في ختام مقاله يؤكد موريس على وجهة نظره القائلة بأن (الرئيس الفلسطيني ياسر) عرفات لا يستطيع – او لايريد - اقامة سلام على 22% من ارض اسرائيل الانتدابية، تشكل دولة اسرائيل 78% من مساحتها وسط التنازل عن حق العودة.

وتأسيساً على ذلك يستنتج موريس مؤكداً: <<اعتقد ان التوازن بين التفوق العسكري (الاسرائيلي د .ب) والتفوق الديمغرافي (الفلسطيني- د . هو الذي سيقرر مصير الدولة: فاما ان تكون فلسطين دولة يهودية دون وجود اقلية عربية كبيرة، او ان تكون دولة عربية تعيش فيها اقلية يهودية تتضاءل تدريجياً، او ان تصبح ارضاً محروقة نتيجة لاستخدام سلاح ذري، فتغدو غير تابعة لأي من الشعبين>>.

بهذا الموقف الفكري يضع بيني موريس <الجديد> ( وربما <غير الجديد> الى حد كبير) نفسه في الطرف اليميني للمجتمع الاسرائيلي، وهو كتحصيل حاصل لهذا الموقف، وهذا ما سأبينه لاحقاً مما يسوقه في تقويمه لمواقف مردخاي بار أون.

بار أون شخص مختلف كليًا، اصبح مؤرخا في السنوات الاخيرة فقط وهو من مؤسسي حركة <السلام الان>، كان قبل ذلك عسكريًا في الجيش النظامي لسنوات عديدة وقائد سرية في لواء غبعاتي عام 1948 ومديرًا لمكتب رئيس هيئة الاركان العامة موشيه ديان في العام 1956، وضابط الثقافة الرئيسي المسؤول عن تنمية التراث القتالي في الجيش الاسرائيلي في الستينات. ويقتبس بيني موريس من مقاله بار اون، <الذاكرة الجماعية وحقيقة ماحدث> الفقرات الهامة التالية:

<<الصراع بيننا وبين العرب لم يكن بمكانة خطأ ارتكبه هذا الطرف او ذاك، وانما في التجربة الصهيونية ذاتها. فمنذ اللحظة التي سعى فيها اليهود الى اعادة بناء سيادتهم القومية في ارض اسرائيل...، لم يعد هناك مفر من الصراع المرير.. نظرًا لأن الصهيونية هي الطرف المدبر للعملية الاساسية بادخالها الى الشرق الاوسط طرفًا سعى الى قلب الوضع رأسًا على عقب، ومن واجبنا الاعتراف بأنها (الصهيونية) كانت ايضاً المحرك الرئيسي للصراع.. لم يبدأ الصراع في العام 1948، وانما عقب وصول اوائل الصهاينة الى ارض اسرائيل في نهاية القرن التاسع عشر. ويؤكد بار اون ان تجربته وتجربة الاخرين، اثر قرار الامم المتحدة (29 تشرين الثاني 1947) هي التي اوجدت الفوارق بشأن اسباب الحرب: رفض العرب قبول قرار الامم المتحدة، والعدوان العربي الذي عرض حياتنا للحظر ... وبناء عليه فقد كان القاء مسؤولية الحرب على عاتق الجانب العربي، نتيجة طبيعية لتلك التجربة الجماعية ذاتها...

<<لكن>>، يتساءل بار اورن قائلا: <<ما الذي يعنيه العدوان بالضبط؟ ربما كان من الأصح ان نرى في اعمال العرب محاولة يائسة للذود عن حقوق بدت لهم مكتسبة بحكم اقدميتهم ووجودهم بحد ذاته في هذه البلاد؟ هل حقا انه لا اساس للادعاء العربي بأن قرار الامم المتحدة واعلان قيام الدولة(اسرائيل) كانا تعدياً على حقوقهم الأساسية في هذه البلاد؟ وهل كان هناك حقًا رفض غير منطقي وغير اخلاقي الى هذا الحد من جانبهم مثلما تزعم الرواية الصهيونية؟

من جهة ثانية، ما هو الخيار الذي كان متاحاً لي ولزملائي في ذلك الوقت؟ فقد ولدت في هذه البلاد ولم يكن لي ثمة بيت اخر، وكنت ارغب بالعيش في ظل سيادة يهودية.. ولو تكررت الامور اليوم لكنت قد تصرفت تمامًا بنفس الطريقة التي تصرفت بها في العام 1948... ولكن طالما ان وجود الدولة اصبح امرًا لا شك فيه فإنني قادر على رؤية الامور ايضاً بمنظور مختلف واستيعاب انه.. في الصراع اليهودي - العربي لايوجد اخيار واشرار...>>

ويكتب موريس ان <<بار اون يذكر بصراحة مشاركته في عمليات انتقامية ضد احدى القرى العربية خلال الشهور الاولى للحرب، وواقعة مقتل قرويين ابرياء في نفس العملية...>>. كذلك ناقش بحث بار اون مسألة ميزان القوى بين التجمع اليهودي والجيوش العربية، عقب تدخلها اثر اعلان قيام الدولة وجلاء البريطانيين عن البلاد.

فهل حقا قاتل دافيد اليهودي ضد جوليات العربي؟ يصف بار اون التجربة التي مر بها هو ونفر من زملائه على حاجز للجيش المصري في الطريق الى تل ابيب. وقد كانت هذه تجربة تفوق هائل للعدو في اجتياحه للبلاد. وهو يؤكد عمليا بأن <<ذلك لم يكن انعكاسًا حقيقيًا لموازين القوى الفعلية طوال اشهر الحرب، على الجبهات المختلفة>>.

بالنسبة لمشكلة اللاجئين، يؤكد بار اون أنه شارك شخصياً في احتلال قرى خلَت من سكانها، وان زملاءه طردوا لاجئين من قراهم لأن <<مشكلة اللاجئين الفلسطينيين نشأت في المحصلة نتيجة لظهور الصهيونية في البلاد. فلولا قيام الحركة الصهيونية بمشروع جمع الشتات اليهودي واستيطان البلاد.. لكان مئات الاف اللاجئين (الفلسطينيين) لا زالوا يعيشون حتى يومنا هذا على ارضهم وديارهم>>.

على الرغم من وجود تباعد كبير بين موريس وبار اون في الواقع الاسرائيلي، الا ان هناك خلافاً جوهرياً واساسياً بيني وبين الاثنين، انه خلاف تاريخي مبدئي حول التاريخ. وليس صدفة على الاطلاق ان تقويمات بار اون تحوز الى حد كبير على اهتمام بيني موريس الحالي.

* مبادئ في التاريخ

ان ملاحظة فارق التواريخ البسيط بين مقاليَ بيني موريس، المقال المنشور في "الغارديان" والمقال المنشور في (سفاريم – هآرتس) تكفي بحد ذاتها لادراك ان موريس يرى في بار اون حجة ومعيناً يدعم اسنتاجاته الحالية او الراهنة. وبغية شرح وجهة نظري، سوف الجاَ الى محاضرات البروفسور ا. هـ. كار الانجلزي الرائعة التي قدمت تحت عنوان <ماهو التاريخ؟> (والتي يعود تاريخها الى العام 1961 وتمت ترجمتها الى العبرية عام 1986).

* عن الحتمي واللاحتمي في التاريخ.

<<عمليا فإن المؤرخين لايعتقدون ان الاحداث حتمية طالما انها لم تقع او تحدث فعليا. ويشير هؤلاء على وجه العموم الى دروب بديلة استطاع ابطال الرواية الرئيسيون السير فيها، وبذلك فهم يفترضون انه كان بالامكان الاختيار بين امكانيات مختلفة. ولكن مع ذلك يمضي المؤرخون ليشرحوا ما دعا في نهاية المطاف لاختيار طريق او درب محدد. ليس هناك في التاريخ شيئ حتمي، ما عدا بالفهم الشكلي. فحتى يحدث شيء ما بصورة مختلفة لا بد ان تكون مسبباتة ايضًا مختلفة>> (ماهو التاريخ؟ ص 103).

* عن المقاومة في التاريخ

<<لايجوز للمؤرخ التقليل من شأن المقاومة ... وقد كان للذين هزموا في بعض الاحيان، مساهمة هامة في النتيجة النهائية وبدرجة لاتقل عن مساهمة الذين انتصروا.>> (ص 131).

* عن المنتصرين والمهزومين

<<التاريخ عبارة عن صراع يوجد فيه على الدوام منتصرون ومهزومون.. المنتصرون ينتصرون دوماً، احياناً بصورة غير مباشرة وفي الغالب بصورة مباشرة، على حساب شخص ما ... ونحن في الحياة اليومية نساوم ونهادن كثيرًا مع أهون الشرَّين او بوسائل سلبية من اجل اهداف ايجابية>> (ص86).

* عن المؤرخ المعاصر(الحالي)

<<الصعوبة التي يواجهها المؤرخ الحالي (المعاصر) في فصل شخصيته عن كونه مؤرخًا حينما يبحث ويتناول فظائع عصرنا – ستالين ، هتلر، مكارتي - تنبع بالذات من كون هؤلاء من ابناء عصرنا، ولأن مئات الالاف من الناس الذين عانوا من اعمالهم لا زالوا يعيشون معنا. لهذا السبب بالذات يصعب علينا كمؤرخين التوجه اليهم كمايجب والتغاضي عن حقنا الانساني في محاكمتهم على اعمالهم>> (ص 85).

* عن السياسي

<<مهمة رجل السياسة ان يأخذ بالحسبان ليس فقط الجانب الاخلاقي والنظري وانما ايضًا القوى المؤثرة في العالم والقدرة على توجيهها او تغعيلها من اجل تحقيق اهدافه ولو بصورة جزئية على الاقل>> (ص 132)

* عن الماضى والحاضر

<<كل مؤرخ يكتب عن الموضوع من وجهة نظره، وزمانه ومكانه.. والتاريخ حوار لا نهائي بين الماضي والحاضر..>> (ص64).

<<يجب السعي لفهم الماضي في ضوء الحاضر وفهم الحاضر في ضوء الماضي.. ومن وجهة نظر المؤرخ فان ما لا يسهم في هذه المهمة المزدوجة يعتبر عقيما ولاقيمة له>> (ص 59).

* الذي كان حتميا والذي لم يكن حتميا

حيث ان <<كل مؤرخ يكتب عن الموضوع من وجهة نظره وزمانه ومكانه..>>، فان هذا الامر ينسحب تلقائياً على المؤرخين موضع نقاشنا. فكلاهما يكتبان عن الحاضر (موريس) وعن الماضي (بار اون) من نقطة انطلاق تاريخية مشتركة، تركز على عدم الحتمية. وترتبط لدى موريس بوضوح عدم حتمية الحاضر، وبالتالي المستقبل مع عدم حتمية الماضي.

وفيما يتعلق بماضينا فانني اميز بين الاثنين: بين حقيقة تحول فلسطين الى وطن للشعبين وبين طرق تحقق هذه العملية التاريخية. وبالنسبة لتحقق وحصول العملية في حد ذاته فقد بات ذلك حتميا في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين، وذلك من حيث ان اللاسامية والضائقة الاقتصادية راحا يتفاقمان بشكل مطرد الى ان بلغا أوجهما في الكارثة (المحرقة النازية) التي تعتبر (العامل المحرك). وقد حصلت النهضة القومية اليهودية في نفس الفترة التي شهد فيها العالم اجمع نهضة قومية (العامل المحفز)، وعندما اصبح تقرير المصير القومي لليهود قابلاً للتحقق في هذه البلاد فقط، والتي رأى اليهود أنفسهم مرتبطين بها تاريخياً ودينيا (وقد كانت هناك محاولات اخرى لم تتكلل بالنجاح).

بهذا المفهوم كانت هذه العملية التاريخية حتمية حقاً. وقد تأسست الحركة الصهيونية كحركة قومية وضعت نصب عينيها دفع اليهود للهجرة من اماكن اقامتهم الى وطن الفلسطينيين والقيام بنشاطات كولونيالية واسعة قدر المستطاع في هذه البلاد، بحيث يتطور هذا المشروع الكولونيالي الى دولة. وبهذا المفهوم لم يكن بوسع المجتمع الفلسطيني استقبال <الغزو> الصهيوني لبلاده بالترحاب، هذا <الغزو> الذي لم يشاور فيه المجتمع الفلسطيني ولا قيادته.

ولأجل تحقيق هدف الحركة الصهيونية استعانت قيادة الحركة على مر السنين بسائر القوى العظمى التي امتلكت نفوذًا وسيطرة في هذه البلاد او رغبت بامتلاك السيطرة والنفوذ فيها في المستقبل (تركيا، بريطانيا، الولايات المتحدة، فرنسا، الاتحاد السوفياتي). وفي مقابل ما قامت به زعامة الحركة الصهيونية من تحركات واسعة بهدف اقامة صلات مساعدة وتحالف مع شتى القوى العظمى في فترات مختلفة فانه لم تجر اي خطوة ذات بال باتجاه تطوير واقامة علاقات تفاهم واعتراف بوجود مصالح مشتركة مع الفلسطينيين وزعامتهم.

ان اقامة وخلق هذه الصلات والنأي عن الصلات والسياقات الاخرى لم يكن باستطاعه احد القيام به سوى زعامة قومية متعصبة اسشتراقية في نظرتها الى العرب عامة والى الفلسطينيين على وجه الخصوص (كما هو معروف، لم تظهر الزعامة الصهيونية نظرة استعلائية تجاه العرب فحسب، بل وتجاه اليهود الذين قدموا من اسيا وافريقيا ايضاً. كذلك فقد ترفعت الزعامة ذاتها على يهود اوروبا، الذين كانت الايديش لغة ثقافتهم المزدهرة).

وقد لجأت القيادة الصهيونية في سبيل تحقيق هذه الايديولوجية الى سلسلة من الاعمال: <احتلال الارض> (لغاية العام 1948 عن طريق الشراء والطرد لاصحابها العرب) <احتلال العمل>، <الانتاج العبري> بانشاء اتحاد مهني لليهود فقط (الهستدروت) وبانشاء جهاز تعليم منفصل بشكل دائم وتنمية وتطوير لغة وثقافة منفصلين.

معظم هذه الطرق والاساليب في تحقيق الصهيونية، رفضت منذ البداية من جانب اقلية صغيرة من الصهيونيين. وفي اعتقادي فانه سيأتي اليوم الذي سيدرَّس فيه المقالان الهامان جدًا اللذان كتبهما المفكر اليهودي احاد هعام <حقيقة من ارض اسرائيل> (1891) واسحق افشتاين <مسألة غامضة> (1907) في كافة المدارس. من هذين المقالين سأقتبس هنا عبارة واحدة فقط من مقال افشتاين والتي تتعلق مباشرة بموضوعنا ... حيث دعا اليهود الى <<الابتعاد عن القومية ضيقة الافق التي لاترى سوى نفسها.. والى التحالف مع العرب بابرام ميثاق معهم يكون كبير الفائدة للجانبين وللانسانية جمعاء>>.

اعداد رافضي السياسة المهيمنة لدى الزعامات الصهيونية ازدادت قليلاً بمرور السنوات عبر <تحالف السلام> (اكاديميين من اصل الماني) وحتى <العصبة من اجل التقارب والتعاون اليهودي العربي>، التي اقيمت في العام 1939 وتصمن برنامجها الموقّع في حزيران 1942 بندين ميزاها عن الخط السائد جاء فيهما: <<ستقوم في هذه البلاد دائمًا دولة ثنائية القومية ودون فرق بين الاغلبية او الاقلية داخل هذه الدولة>>، و <<يمكن التوصل، الى حصص (نسب) هجرة متفق عليها لسنوات عديدة>>. وقد جرى التوقيع على البرنامج من جانب اشخاص كانوا في السابق اعضاء في <تحالف السلام> وانضمت اليهم احزاب صهيونية يسارية: <هشومير هتسعير>، و <العصبة الاشتراكية>، و<عمال صهيون يساريون>. وكما هو معروف، لم يستمر نشاط العصبة سوى حتى تشرين الثاني من العام 1947 وهي الفترة التي شهدت صدور قرار الامم المتحدة (قرار التقسيم) واندلاع الحرب.

<اللجنة العربية العليا> (التي مثلت الزعامة الفلسطينية) والتي ترأسها لسنوات طوال الحاج امين الحسيني لم تبحث بدورها ايضاً - ولأسباب مفهومة لكنها مغلوطة كليًا - عن وسيلة للاتصال مع حركة المهاجرين الى موطنها (موطن الزعامة الفلسطينية) <<بغية ابرام ميثاق معها ينطوي على فائدة جمة للطرفين>> (ي . افشتاين).

وقد تمادى الحاج امين الحسيني عندما زار خلال الحرب العالمية الثانية، في اوج ايام الابادة، مقر قيادة هتلر، مُعرباً عن اسعدادة لتقديم العون له.

خلاصة القول، ان هجرة اليهود الى هذه البلاد كانت بحد ذاتها من وجهة نظري عملية حتمية، كوَّنت هنا بالتدريج امة يهودية – اسرائيلية، اما طرق تحقيق العملية ورغم العوائق الصعبة فقد كان بامكانها ان تكون مختلفة جدًا.

لكن التاريخ يصنعه البشر وقد تغلب القوميون المتعصبون - كما حدث في حالات وامثلة تاريخية عديدة اخرى - على الأقلية الرافضة. فهل <<قدم الرافضون (او المقاومون) مساهمة هامة في النتيجة النهائية؟>>.

* الذي حدث في 1948

هل يجب أن يكون المرء مؤرخاً مرموقاً لكي يتفق مع بار اون بأن الصراع القومي لم يبدأ في العام 1948، وانما منذ هجرة اليهود غير المتفق عليها الى بلاد الفلسطينيين. ولكن، هل استنتاج بار اون بأنه <<لم يكن هناك مناص من الصراع المرير>> هو الاستنتاج الوحيد الذي ينبغي التوصل اليه (والذي يتفق معه بيني موريس). هل حقاً كان قرار الامم المتحدة (قرار التقسيم) واعلان قيام الدولة عملاً عدوانياً ضد الجانب العربي؟

انا لا اتفق مع ذلك بل وارفضة . فقرار الامم المتحدة بتقسيم البلاد الى دولتين مرتبطتين بعلاقات اقتصادية وتدويل القدس اقترح كحل وسط في نزاع قومي كان الجانب اليهودي العامل او المسبب الرئيسي في نشوبه (جدير بالذكر ان الموقف الذي فضلته لجنة الامم المتحدة التي بحثت القضية تمثل في الدعوة لإقامة دولة ثنائية القومية ولكن عندما ادركت اللجنة ان العلاقات بين الشعبين لا تسمح بذلك لجأت اللجنة الى خيار التقسيم) .

ولكن ألم يكن رفض قرار التقسيم خطأ تاريخيا فادحًا ارتكبه الجانب العربي؟

اود اعادة القراء الى اقوال < كار> عن رجل السياسة <<الذي يتعين عليه ان يأخذ بالحسبان.. القوى الفاعلة والمؤثرة في العالم والقدرة على توجيهها او تفعيلها من اجل تحقيق اهدافه بصورة جزئية على الاقل>>. وفي اعتقادي فان من الجدير بالاشارة الى ان بن غوريون تصرف بقبوله لقرار التقسيم، حسب اسلوبه ونهجه كرجل سياسة حسب مواصفات كار. اما الزعماء الفلسطينيون وقادة الدول العربية المجاورة فقد اخطأوا في حساباتهم. اضافة الى ذلك فقد سعى بن غوريون دوماً خلال الحرب الى كسب المزيد من الارض الـ "نظيفة من العرب" وابرم خلالها ايضاً الاتفاق مع الاردن حول منع قيام الدولة الفلسطينية. لكنه (بن غريون) قدَّر بصورة سليمة موازين القوى العالمية بعد الحرب وفي اعقاب الكارثة، وموازين القوى في المنطقة، في حين اخطأت الزعامة العربية الفلسطينية في غالبيتها الساحقة في تقديراتها. واقول غالبيتها وليس كلها لأن الجزء الرئيسي في <عصبة التحرر الوطني> الفلسطينية بزعامة توفيق طوبي واميل حبيبي، قبل مشروع التقسيم، وقد قادت <العصبة> كتحصيل حاصل لهذا القبول، الوحدة اليهودية – العربية للحزب الشيوعي في العام 1948.

ماالذي يقصده بار اون عندما يقرر بصورة قاطعة ان موازين القوى بين الجيوش العربية التي اجتاحت البلاد لم تكن بالصورة التي رأيناها في ذلك الوقت؟ هو لا يبرر بذلك الاجتياح ومؤكد انه لا يعيد التفكير فيما يتعلق بالتصدي لهذا الاجتياح العربي. ألم يؤد هذا الرفض الذي اتخذه الشبان الشجعان الى صد الغزاه؟!

ان حقيقة كون الواقع قد برهن لنا جميعاً، يهودًا وعربًا بأن موازين القوى كانت وقتئذ مغايرة لما تصوره الجانبان (على الأقل اولئك الذين قاتلوا في الميدان) لا تغير شيئًا في سلبية الغزو ولا تلغي ما قيل في صالح الذين دحروا هذا الغزو وردوة على اعقابه.

كذلك لا داعي لأن يكون الانسان مؤرخاً بارعاً لكي يتفق مع بار اون بأنه <<لو لم تقم الحركة الصهيونية بمشروع جمع الشتات واستيطان البلاد.. لكان مئات الاف اللاجئين الفلسطينيين ما برحوا يعيشون حتى يومنا هذا فوق ارضهم>>.

ولكن وفي مقابل اتفاقي مع رأي بار اون هذا فان وجهة نظري تختلف اختلافًا جوهرياً مع طرحه (الذي يتفق معه بيني موريس) بأنه .. <<لو تكررت الامور اليوم فانني سوف اتصرف تماماً بنفس الصورة الى تصرفت بها في العام 1948>>..

وبصفتي واحدًا من المقاتلين في العام 1948 استطيع القول بثقة ان تعاملي في ظل المعلومات التوفرة لدينا اليوم وليس اليوم فقط سيكون مختلفا كلية مع جوانب ومجالات هامة من الحرب ولا سيما فيما يتعلق بنشوء مشكلة اللاجئين.

لماذا يتغاضى بار اون في ملاحظاته حول مشكلة اللاجئين عن خطط <الترانسفير> التي قبعت في عقول وجوارير العديد من الزعماء الهامين لحزب <مباي> التاريخي والتي بدأت تشق طريقها الى التنفيذ بصورة منهاجية اعتبارًا من نيسان 1948، عبر التدمير المنهجي لأكثر من 400 قرية عربية، وعبر اجبار حوالي 750 الف فلسطيني على النزوح هرباً او طردًا؟! وللتدليل على خطط الترانسفير التي تبناها زعماء <مباي> (كان رحبعام زئفي محقاً بادعائه انه لم يكن اول من طرح فكرة الترانسفير وانما ورثها من قادة في <مباي>) سأقتبس هنا فقرة من مذكرات يوسف فايتس الذي عمل منذ العام 1932 رئيسًا للصندوق القومي (كيرن كيميت) حيث كتب يقول في العام 1940:

<<يجب ان يكون واضحاً أنه لا مجال اطلاقًا لوجود شعبين في هذه البلاد. لن يكون بمقدور اي تطور ان يقربنا من هدفنا في ان نكون شعبًا مستقلاً في هذه البلاد الصغيرة. اذا رحل العرب عن هذه الديار فانها ستصبح واسعة ومشرعة فسيحة امامنا، اما اذا بقي العرب فستبقى البلاد صغيرة وبائسة ... ان شراء الارض لن يفضي الى اقامة دولة اسرائيل. لا سبيل الا بترحيل (ترانسفير) العرب من هنا الى البلدان المجاورة، ترانسفير لجميع العرب (باستثناء بيت لحم والناصرة والقدس القديمة)... لا يجوز لنا الابقاء على قرية واحدة او عشيرة واحدة.. عبر ترانسفير كهذا فقط يمكن لهذه البلاد استيعاب الملايين من اخوتنا لتحل مشكلة اليهود مرة والى الابد. ما من سبيل اخر>>. عندما يتحدث ا . هـ. كار عن صعوبات خاصة يواجهها المؤرخ الحالي المعاصر <<الذي لا يستطيع التجرد من شخصيته لدى محاكمة المتهمين بفظائع العصر، بينما لا يزال مئات الاف الضحايا يعيشون معنا>>، اوّلاً ينطبق ذلك علينا ايضًا نحن الذين شاركنا في حرب 1948 من الجانب الاسرائيلي ولعبنا دوراً حاسماً في التسبب بالنكبة الفلسطينية؟

* عن الخيار

ليس لدي شك في ان النضال من اجل اقامة الدولة الفلسطينية على 22% من مساحة "ارض اسرائيل" الانتدابية يشكل من وجهة نظر الفلسطينيين اهون الشرور، ومع ذلك فان هذه التسوية المؤلمة لا تزال بعيدة عن متناول يدهم. نحن <المنتصرون> ونحن ننتصر اليوم تحت غطاء <محاربة الارهاب>. وتعود القصة القديمة حول الحتمية واللاحتمية في التاريخ وعن الممارسات والافعال السلبية التي يرتكبها الطرف المحق في صراعه (عمليات التفجير التي ينفذها الانتحاريون الفلسطينيون) لتكرر نفسها وان بمقاييس مختلفة بطبيعة الحال. يمكن للفلسطينيين ايضا وربما هم بالذات، اعادة طرح السؤال الساذج لـ بار اون بصيغة او ديباجه فلسطينية: <<ماهو الخيار المتاح لي ولزملائي في هذا الوقت؟ فهم من يملك الطائرات والدبابات ولسنا نحن من يملكها>>..

لكن هذا سؤال كاذب مخادع. فالخيار حتى في ظل واقع اوسع من الحتمية قائم ومتاح دوماً امام كل انسان وكل مجموعة. الشئ المختلف دائماً هو درجة او حجم ذلك الخيار ودرجة اللاحتمية مقابل الحتمية.

يقول كار عن المقاومة: <<لايجوز للمؤرخ التقليل من شأن المقاومة.. فقد كان للذين هزموا احياناً اسهام مهم في النتيجة النهائية بدرجة لاتقل عن اسهام الذين انتصروا>>.

ومن هذه الزاوية فقد كان لدينا (اي الذين حاربوا عام 1948) خيار مقاومة هدم القرى العربية وتشريد الفلسطينيين بدرجة لا تقل عن الدرجة المتاحة لكل فلسطيني – اذا كان ذلك رأيه حقاً - بالتصدي للانتحاريين ومن يقف وراءهم (الكاتب البارز س. يزهار فعل ذلك حقاً في قصصه عن تلك الايام، في "خربه خزعة " و "اسير")

لقد كان الخيار متاحًا لكننا وبسبب جهلنا وعدم وعينا لم نجسد هذا الخيار. ولكن ما الصلة بين هذه الحقيقة المؤسفة وبين قول بار اون اليوم بأنه <<كان سيتصرف على هذا النحو تماما>> (كلمة تماما مهمة جدا).

* من الحاضر الى المستقبل

في ظل الواقع الفلسطيني المريع الذي نشهده، يطالب بني موريس سري نسيبة بأن <<يشتري الشيكل الصهيوني>> لا اقل ولا اكثر بقوله: <<لا زال يتعين عليَّ ان ارى زعيمًا فلسطينيًا محبًا للسلام مثلما يبدو سري نسيبة، ينهض ويقول: الصهيونية هي حركة تحرر وطني مشروعة، كحال حركتنا، وان لليهود نفس الحق الذي نملكه في فلسطين>>.

هذا هو بالضبط المعنى الحقيقي لتماثل بيني موريس مع الحتمية الصريحة لـ "باراون" ومع انعدام خياره .

وحيث انه لا يوجد اي امل في ان يسمع من سري نسيبة خطباً صهيونية، فان الحتمية تنتقل في نظره الى المستبقل: اما بلاد يهودية بأكملها او عربية بأكملها.

وطالما ان حتمية الماضي الجارفة ليست مقبولة لديّ، فمن الجدير بي ان ارفضها بالنسبة للمستقبل.

وفي الواقع فان الشعب الفلسطيني يجتاز اليوم مرحلة هامه جدًا من كفاحه للاستقلال الوطني، ضد الاحتلال الاسرائيلي وضد معسكر بوش الذي <يحارب الارهاب> ويساند هذا الاحتلال. وعليه فان كفاح الفلسطينيين ومن يقف الى جانبهم هو كفاح من اجل الحياة، صراع من اجل البقاء ومن اجل الارض التي لا زلوا يعيشون فوقها.. صراع ضد الجوع.

وستكون المرحلة التالية مرة اخرى مرحلة في الصراع حول التسويات المؤلمة، حول دولة فلسطينية على مساحة لا تزيد عن 22% من ارض اسرائيل الانتدابية .

فهل ستكون هذه، اذا ماحدث ذلك، خاتمة القصة او نهاية المطاف؟ لا اعتقد ذلك.

فقصة المصالحة الحقيقية ستبدأ حسب رأيي فقط عندما تتحقق مقولة كار حول <اهمية المقاومة>، وفي ظروفنا، <<في النتيجة النهائية>>، عندما <<ترتقي مساهمة الذين هزموا الى مستوى مساهمة اولئك الذين انتصروا>>.

وبطبعة الحال فان ما اقصده هو العودة التدريجية لتجسيد فكرة دولة ثنائية القومية الواحدة، والتي تبناها الشيوعيون منذ اواسط الاربعينيات.

ان مبدأ التقارب بين الشعبين، كنقيض في الجوهر لتقديس الانفصال، هو الكفيل فقط بتحقيق المصالحة الحقيقية في يوم ما، وهذه المصالحة يمكن لها ان تتحقق فقط اذا رغب الشعبان بذلك وسط خلق ادوات قوامها المساواة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بين الشعبين.

انني على قناعة تامة بأن مثل هذه المصالحة سوف تتحقق على ارضية رؤية تاريخية اساسية مشتركة، والتي سمعنا عنها ايضا من خلال العديد من المتحدثين العرب، بحيث: نعترف نحن الاسرائيليون بـ <النكبة> الفلسطينية الفظيعة التي لعبنا دورًا كبيرًا للغاية في صنعها، ويعترفون هم، الفلسطينيون، بالكارثة الفظيعة التي احاقت بالشعب اليهودي، والتي كانت تتويجًا لحملة لاسامية امتدت لأجيال.

ان مد جسر كهذا من المستقبل الثنائي القومية باتجاه الشعبين، من شأنه ان يجسد مقولة كار حول دور المؤرخ، والذي يبقى دون تحققه، دورًا عقيمًا لا قيمة له: <<العمل من اجل فهم الماضي في ضوء الحاضر وفهم الحاضر في ضوء الماضي>>.

(هذه المقالة سترى النور في العدد الجديد من فصلية "قضايا اسرائيلية" الصادرة عن "مدار" في رام الله.). للحصول على منشورات المركز يمكن الكتابة الى العنوان التالي: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات