المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تندرج فضيحة الحرب على لبنان في إطار الفساد الأكبر، لكن النخبة الفاسدة أذنت بالمبالغة الإعلامية بالفساد الأصغر (المال والجنس والتعيينات..) حتى لا يتم تركيز نقاد السياسة بشكل كبير على الفساد الأكبر الذي يشكل خطرا على تفوق إسرائيل ووجودها؛ مما يحدّ من إمكانيات الجمهور الإسرائيلي من طرح وجهة نظره حيال العملية السياسية والحربية القائمة بين العرب والإسرائيليين، والتي إن تركت لها حرية الرأي فإنها ستقترب من الحقيقة كما ستقترب من الحلول السلمية التسووية،

بعيدا عن ارتهان رأيها وفكرها لدى نخبة سياسية أسيرة فكر سياسي عنصري مريض يقوم على استمرار الحرب وديمومتها، غير آبهة بضحايا اليهود الإسرائيليين وبالطبع ولا بضحايا الشعب الفلسطيني؛ حيث ما زالت النخب الحالكة تخوّف الشعب الإسرائيلي من حماس والجهاد الإسلامي وكتائب الأقصى ومن الشعب الفلسطيني ومن العرب ومن المسلمين، حتى من العرب الفلسطينيين داخل المجتمع الإسرائيلي! وسبب التخويف أن النخب الفاسدة فكريا لا تملك برنامجا للسلام ومنح العرب والفلسطينيين حقوقهم، ويكفي أن نستمع لآراء الحكام الإسرائيليين في المبادرة السعودية (العربية) للتدليل على أي حدّ وصل استبداد العسكر والساسة (الذين كانوا عسكرا وظلوا كذلك) بتقرير مستقبل الشعب الإسرائيلي وتركه أسير الخوف والشك والارتباك والعدوانية بالطبع.

إنها لعبة إعلامية تتقن النخبة الحاكمة اللعب بها، ولها في الإعلام الغربي خصوصا الأميركي قدوة في صرف ذهن الرأي العام عن المهم وشغله فيما هو قشور! حيث أن بعض الفساد المالي وبعض التحرش لن يعرّض النخبة الحاكمة لخطر المساءلة والتمرد!

في هذه العجالة سنتوقف عند فساد النخبة الحاكمة كما يظهر على السطح، حيث هناك ما هو أخطر تحت السطح مما لا نعلمه ولا يعلمه الجمهور الإسرائيلي!

ولنبدأ بسؤال عمره 10 سنوات وأكثر: هل انتقلت عدوى دول الشرق الأوسط إلى دولة إسرائيل؟

للأمانة الصحافية هو ليس تساؤلي، رغم إعجابي به كسؤال مبتكر، بل هو سؤال أطلقه كتاب غربيون،عندما اغتيل رئيس الحكومة الإسرائيلي، إسحق رابين، على يد متطرّف إسرائيلي. وقصد هؤلاء الكتاب بالطبع عدوى معينة هي عدوى التطرف التي انتشرت في شعوب ودول الشرق الأوسط من منظورهم.

والسؤال هو استشراقي بالطبع، حيث يفترض المثالية في المجتمع الإسرائيلي، وينفيها عن الآخرين تحت تأثير صورة نمطية سابقة لديه عن ثقافات المنطقة وشعوبها وعلاقاتها الداخلية واختلافاتها ونزاعاتها حول الحكم وامتيازاته!

ولا أدري ماذا سيكتب كتاب آخرون أو الكتاب أنفسهم عن حال المجتمع الإسرائيلي الذي يعج اليوم بأشكال مختلفة من أمراض النخبة الحاكمة، وليس فقط رجل من عامة الجمهور؟! فحينما يخلف سياسي غرّ من أمثال البيبي baby بيبي (بنيامين نتنياهو) سياسيا ناضجا من أمثال رابين، فمعنى ذلك أن هناك مشكلة في وعي ولا وعي الجمهور وقياداته الإعلامية والسياسية التي أعمتها العنصرية المقيتة عن النظرة الموضوعية المسؤولة للأمور!

لم يعد هناك الكثير مما تباهي به دولة إسرائيل دول جوارها بل الدول العربية والإسلامية والأفريقية ودول العالم الثالث.

انتهى عصر العذرية في الشعر والحب منذ زمن بعيد، فكيف لا تنسجم الدولة النبيلة الديمقراطية مع ما حولها!

كان لا بد من تكسّر الصورة يوما ما، وقد كان؛ فالصورة الطاهرة المرسومة والتي أغرت دول العالم الأول الذي ساهم في صنع الدولة قبل أكثر من نصف قرن، لم تعد تجذب رائيها كما كانت من قبل!

فساد في الحكم والجيش والخلق والإدارة، فساد طال صغار الشخصيات وكبارها على حدّ سواء، فساد كثير لدرجة لم يعد من السهل التكتم عليه؛ فما بال هؤلاء الأنقياء من فئة السوبر يرتشون ويعينون كبار الموظفين لصلة تربطهم بهم، وما بالهم لا يراعون القوانين المالية ويلقون بها عرض الحائط..؟ وما بال هؤلاء المحترمين من فئة وزير ورئيس وزراء ورئيس يتحرشون جنسيا بسكرتيراتهم اللاتي في عمر بناتهم وحفيداتهم؟

أما فساد إيهود أولمرت المالي والسياسي والعسكري فهو ظاهر، وله في أستاذه اليميني أريئيل شارون أسوة حسنة وهو الذي خفف عنه مرضه أمراضه الأخرى في مجال المال، تلك الأمراض التي شاركه فيها أبناؤه وعلى رأسهم عومري الابن المدلل!

دان حالوتس أبى إلا الاقتداء بمعلميه شارون وأولمرت، فكان ما كان من فساد مالي، ولولا عقوبة الهزيمة في الحرب السادسة وإسراعه بالاستقالة لاضطر إلى ذلك.

كتساف، رئيس الدولة المعفي من المهام السياسية والعسكرية إلا ما كان شكليا منها، لديه الوقت الكافي لينصرف إلى اتجاهات أخرى، فتجده يمد يديه وأعضاء أخرى إلى أماكن أكثر أمنا من لبنان وغزة!

كتساف ذو الأصل الإيراني يذكرنا بإسحق مردخاي ذي الأصل العراقي، الذي طيّرته تحرشاته الجنسية ليس بعيدا عن كرسي وزير الدفاع الذي كان يشغله فقط، بل طيرته عن كرسي رئيس الحكومة.

وبالطبع سيحلو لليهود الإشكنازيين من أصول غربية أن يتشفوا بهؤلاء السذّج الذين أوقع بهم بسهولة على مذبح الحب!

وربما سيؤكدان هما وغيرهما الجواب لطارح السؤال الأول الذي ابتدأنا به!

لكن ما بال حاييم رامون؟ هل كان سفارادي هو الآخر!؟

لقد تسارعت أخبار الفسادين المالي والإداري والتحرش الجنسي لكبار شخصيات الدولة مع أخبار معارك إسرائيل في لبنان وغزة والضفة الغربية.

لا صوت يعلو على صوت المعركة لم تعد سارية المفعول كما كانت من قبل.

"حرب الأغبياء الثلاثة، هذا الاسم يعفينا من أسئلة من قبيل من المسؤول عن الحرب، ويصف بصورة دقيقة نتائجها النهائية"- ذلك هو وصف شاي ودرور في زاوية" ساتيرا" في صحيفة معاريف بتاريخ 19 آذار والذي نشر "المشهد الإسرائيلي" جزءا منه في عدد سابق. أما الأغبياء الثلاثة فهم أهم ثلاثة أشخاص في الحماية والأمن، ماء حياة إسرائيل، وهم رئيس الحكومة أولمرت ووزير الدفاع عمير بيرتس ورئيس الأركان المستقيل حالوتس.

والأغبياء بهذا المنطق إنما هم الأكثر فسادا كونهم وضعوا رأس الدولة، التي ما انفكت تتباهى بأن جيشها لا يقهر، في الطين.

فما الذي ستقوله لجنة فينوغراد غير ما قيل عن فشل وعدم تخطيط واستهانة وغرور؟

يقتبس الزميل حلمي موسى، في مقالته في "المشهد الإسرائيلي" والتي جاءت بعنوان "في انتظار القول الفصل حول مصير أولمرت وحكومته"، مما كتبه عوزي بنزيمان في "هآرتس" من حيث أن "حرب لبنان الثانية جسدت الفجوة بين صورة القادة السياسيين والعسكريين لأنفسهم وبين قدراتهم، وأوضحت المسافة بين توقعات الجمهور وبين قدرة الحكومة على التنفيذ. ونتيجة لهذا التناقض، تلف الساحة السياسية الآن أجواء تآمرية أصبح فيها الحزب الحاكم مجرد غلاف فارغ، وصار الحزب الشريك الرئيس منقسما على نفسه حتى درجة التفكك، وحزب المعارضة الصغير (الليكود) يتنافس على جلد الدب قبل اصطياده. الجميع يوجهون أنظارهم إلى كرسي الحكومة من قبل أن يصبح شاغرا، محدثين جلبة تضفي على دولة إسرائيل صورة الدولة المارقة الهوجاء".

أما توقعات الجمهور وتقييماته فقد ظهرت في استطلاعات الرأي المتتابعة والتي ركزت عليها أكثر من ورقة في مؤتمر هرتسليا السابع، وبذلك فقد ظهر ما تحت الثلج حين كان لا بد من ذوبانه وسط حرارة الحرب السادسة في لبنان والحروب غير المعدودة في غزة (والضفة بدرجة أقل).

أليس الإهمال والتكالب على السلطة هما صفتان تقليديتان مرتبطتان بالقادة الشرق أوسطيين والعرب منهم خصوصا منذ الهزيمة الكبرى؟!

أما التطرف الذي ربط بنا جبرا، فإن الإسرائيليين أساتذة فيه بامتياز، لأنه إذا كانت هناك قطاعات شعبية متطرفة في شعوب الشرق الأوسط، فإن التطرف في دولة إسرائيل ممنهج تشرف عليه الدولة وقيادات المجتمع، ويكفي أن تستمع في أي يوم تشاء إلى تصريحات الساسة الإسرائيليين.

فالذي فرّق بين دم الأسرى الفلسطينيين ودم الأسرى المصريين الذين قتلوا إثر حرب العام 1967 في سيناء، كما جاء في الفيلم الذي بثته القناة الإسرائيلية الثانية قبل أكثر من شهر، كيف نصنّفه هو وزملاءه في الوظيفة والمتقاعدين؟ أين نضعهم؟

وإذا أضفنا الفساد المالي والجنسي لعدد كبير من المسؤولين الشرق أوسطيين، تكون الصورة المرضية الإسرائيلية قد اكتملت، ولم تعد الدولة النقية التقية كما كانت من قبل. و"ما في حدا أحسن من حدا"، عندنا وعند الإسرائيليين أمراض متشابهة.

من ثقافة المجتمع الزراعي البريء بما أسسه من كيبوتسات وموشافات وتعاونيات اشتراكية لصالح المجموع وبما توفره من طعام ووفرة مالية بسيطة، إلى ثقافة "الهاي تك" غير البريئة، بما تدرّه من ربح وفير التي تبالغ في زيادة ثروات الأفراد. وفي ظل هكذا ثقافة ازداد العنف الاجتماعي والأسري وضرب النساء بشكل ملفت للنظر.

عشية تأسيس وبناء الدولة التي قامت بمعارك، واستمرت بمعارك، ويبدو أنها لن تظل بدون المزيد من المعارك الهجومية قبل الدفاعية، كان هم المجتمع هما واحدا، حيث لم تكن هناك المشاريع الفردية باعتبار أن الكل، كل الدولة، معرض للخطر، لذلك طغى الاهتمام بالمصلحة العامة.

ومع نجاح المشروع الصهيوني، خصوصا بعد الانتصار العظيم العام 1967، أي مع الإحساس بشيء من الأمن والاستقرار، ظهرت الفردانية التي تتمثل بالرأسمالية بشكل واسع.

لذلك لم يكن غريبا أن يصعد حزب الليكود على حساب حزب العمل العريق باني الدولة.

لقد ركزت الصهيونية على بناء مجتمع غير عادي، مجتمع عسكري حربي، مجتمع مجنّد للدولة وفكرتها، مجتمع مكّن الدولة من نفسه، وتنازل عن أملاكه وحقوقه لصالحها، وحيث أن الدولة أصبحت مشروعا شخصيا لكل مستوطن، وحيث أنها دوليا مشروع خلق ليكون موقعا متقدما للاستعمار، فقد توفرت كل الفرص لتكون دولة سوبر.

مجتمع جنّد حتى الأطفال الإسرائيليين للمعركة ولم يرحم طفولتهم البريئة!

وعلى صوت المعارك خفت الانتقادات الموجهة للعسكر والساسة! وهو مجتمع فاق مجتمع اسبارطة كما نرى!

العنصرية هي بيت الداء بما تحمله من فساد ولا إنسانية ونفي للآخر.

هي التي هجّرت اليهود من أنحاء العالم إلى الوطن الموعود "أرض الميعاد"، وهي التي هجرت شعبا عريقا من أرضه لأنه من الأغيار!

ينسجم إذن فساد النخب الحاكمة في إسرائيل مع فساد الفكرة الصهيونية القائمة على أسوأ أنواع الفساد الأخلاقي والفكري: العنصرية.

فهل هذا الفساد الذي كان يخضع للتكتم له علاقة بما تحدث فيه اليهود أنفسهم عن اليهودي السوي وغير السوي؟ وهل ذكر هذا التساؤل سيضع المتسائل في موقع الاتهام بمعاداة اليهود؟

الحقيقة أن الساسة الإسرائيليين بأعمالهم وخططهم السياسية والإستراتيجية اليوم يشكلون خطرا على اليهود هنا ربما يوازي أو يفوق الأخطار الإيرانية المختلقة والمزعومة. وهذا ما يحتاج أن يبدأ اليهود الحديث فيه أكثر من مجرد فساد مالي هنا أو تحرش جنسي هناك.

وبالطبع فإن فضيحة الحرب على لبنان تندرج في إطار الفساد الأكبر، لكن النخبة الفاسدة أذنت بالمبالغة الإعلامية في الفساد الأصغر (المال والجنس والتعيينات..) حتى لا يتم تركيز نقاد السياسة على الفساد الأكبر الذي يشكل خطرا على تفوق إسرائيل ووجودها.

نذكّر أنه بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية، أخرج الحاوي الإسرائيلي و"الأميركي" من جرابه ملفات فساد السلطة الوطنية والتي جمّعها مدة 5 سنوات، وهي المدة التي كان يغض الطرف إعلاميا فيها عما كان يرصده لأمر ما في نفسه، وهو عدم تقديم استحقاقات ولوازم العملية السياسية التي أوقفتها إسرائيل لأن الفلسطينيين لم يوقعوا للإسرائيليين على بياض.

إنها فرصة للفلسطينيين الذين عانوا من التشهير الإسرائيلي بهم أن يذكروا للعالم عن شريكهم الفاسد الذي ما زال يردد أن ليس هناك شريك فلسطيني للمفاوضات!

أمراض النخبة الحاكمة في إسرائيل أصل أم عدوى، أم أنهم مجرد بشر عاديون لا سوبرمان حقيقي في عالم البشر؟ لقد آن الأوان لأن ينظر العالم خصوصا الولايات المتحدة إلى دولة إسرائيل من هذا المنظار العادي، الذي لا يصغّر ولا يضخّم، فإنه بهذه النظرة يمكن أن تكون هناك واقعية، ويمكن أن يكون هناك نقد لسياسة إسرائيل وبالتالي أخذ وردّ.

(رام الله)

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات