كشفت الحرب الإسرائيلية ضد لبنان، في تموز- آب 2006، زيف العديد من الفرضيات الإستراتيجية والمفاهيم الحربية الإسرائيلية، وبالتالي أماطت اللثام عن الخلل الواضح في بنية ووظائف القوات العسكرية.
ومن أبرز الفرضيات الخاطئة تلك المتمثلة في "السيطرة الجوية" المطلقة، بمعنى أن سلاح الجو الإسرائيلي يستطيع، خلال أيام قليلة، القضاء على إطلاق الصواريخ بكافة أصنافها، ومن ثم السيطرة على ساحة المعركة. كما تبين خطأ المفهوم الحربي الشائع بأن سبب كون إسرائيل غير مهددة من الجيوش التقليدية، إنما يكمن في فرضية أن العرب الرسميين يعتبرون القوة الإسرائيلية، في هذا المجال، هائلة ولا تقهر. ومن المفاهيم الحربية التي ثبت خطأها أيضا، أن الجيش الإسرائيلي يستطيع دائما فرملة العدو وتدمير قواته، دون تحديد أهداف أرضية لاحتلالها بالضرورة. أي، حسب هذا المفهوم، يجب أن يعرف أعداء إسرائيل بأن خسائرهم ستكون فادحة في حال شنهم حربا ضدها.
وقد تجلت هشاشة تلك الفرضيات والمفاهيم في حقيقة نيل المقاومة اللبنانية (في حرب الصيف الماضي) من العنصر البشري الإسرائيلي، حيث تحول هذا العنصر، إلى جانب بعض الأهداف الإستراتيجية الاقتصادية والعسكرية، إلى الهدف الأول لضربات المقاومة والحلقة المركزية لنشاطها. وهذا ما شكل توازنا للرعب، بدلا من توازن القوى التقليدية، علما بأن المجتمع الإسرائيلي لا يستطيع تحمل عمليات الاستنزاف والخسائر المتواصلة في بنيته البشرية، ما جعل الهروب الإسرائيلي الجماعي من مناطق الشمال الفلسطيني الممتد من الحدود مع لبنان وحتى مشارف تل أبيب الجنوبية، مطلبا إسرائيليا "شعبيا". بل، وكما تشير الإحصائيات الإسرائيلية، توقفت في الأشهر الأخيرة، "الهجرة" الإسرائيلية إلى فلسطين، وارتفعت نسبة "الهجرة" إلى خارجها. وهذا يؤكد بأن نقطة الضعف المركزية في المجتمع الإسرائيلي تتمثل في العنصر البشري الذي يعد بالمنظور الإسرائيلي عنصرا أمنيا من الدرجة الأولى، خاصة وأن الدولة اليهودية، كدولة هجرة واستيطان كولونيالي، لم يكتمل بنائها بعد من الناحيتين الديمغرافية والجيوسياسية، وهي تخطط، إستراتيجيا، لاستجلاب المزيد من ملايين اليهود من روسيا وأميركا اللاتينية بشكل خاص. بمعنى أن مستقبل إسرائيل، وجوديا وإستراتيجيا، منوط بمدى قدرتها على استيراد المزيد من القوة البشرية الضرورية لمنع التفاقم المتوقع في "الخلل" الديمغرافي بين اليهود والعرب في فلسطين التاريخية، لصالح العرب، والضرورية أيضا، لتطعيم البنية البشرية العسكريتارية في الدولة اليهودية، ولتسمين بشري وكمي للآلة العسكرية بمختلف أجنحتها.
بالإضافة إلى ذلك، حطمت حرب الصيف الماضي، الوهم الشائع عربيا، بأن السياسيين والعسكريين الإسرائيليين أذكياء ومحنكون. إذ، وكما يقول "غابي شيفر"، خبير الصراع العربي الإسرائيلي من الجامعة العبرية، فإن العديد من الإسرائيليين يدركون، حاليا، بأن حسن نصر الله ومستشاريه، هم سياسيون وقياديون أكثر ذكاء وحنكة من القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية التي افتقرت، بشكل صارخ، إلى الذكاء والحنكة أثناء إدارتها للمعركة العسكرية وللجبهة الإسرائيلية الخلفية، والتي لا تزال تفتقر إلى الكثير من الحكمة والحنكة في تقييمها وتقديرها للوضع العسكري والأمني، قبل وبعد الحرب ("غابي شيفر"، "أوفِك حداش"، العدد 33). وهذا ما أكد عليه مؤخرا، ضباط إسرائيليون كبار في الجيش الإسرائيلي، حيث تساءلوا عن أسباب عدم إعداد جيشهم للحرب على لبنان في تموز 2006، علما بأن رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت قد خطط لها قبل أشهر من اندلاعها، كما تبين من شهادته أمام لجنة فينوغراد المكلفة بالتحقيق في الحرب (هآرتس، 2007/3/9). وهذا يعني، كما يقول نفس الضباط، بأن إخفاقات الحرب تصبح أخطر بكثير مما اعتقد الكثيرون سابقا (نفس المصدر). وقد تجلى العجز القيادي الإسرائيلي الكبير، أثناء الحرب، في امتناع أولمرت، منذ بداية الحرب وطيلة ثلاثة أسابيع، عن إصدار الأوامر لجيشه بشن هجوم بري جدي وواسع في الجنوب اللبناني، وذلك بالرغم عن أن الخطط الهجومية البرية كانت قد أعدت منذ بضعة أشهر قبل الحرب، وبالرغم عن ثبوت فشل القصف الجوي المكثف والهجمات البرية المحدودة في وقف سقوط الصواريخ على التجمعات السكانية الإسرائيلية (هآرتس، 2007/3/12). وفيما عدا دان حالوتس، قائد الأركان الإسرائيلي المستقيل الذي عارض خطة الهجوم البري الواسع ولم يناقشها مع رئيس الحكومة، فإن كل قيادات الألوية القتالية وقائد "المنطقة الشمالية"، إلى جانب وزير الدفاع بيرتس، أيدوا الخطة (المصدر السابق).
ويشير تخبط وارتباك القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية وعجزها عن اتخاذ القرارات العسكرية الحاسمة، أثناء حرب الصيف الماضي، إلى فقدان إسرائيل قدرتها العسكرية الرادعة. لذا، فإن بعض القيادات الإسرائيلية تدعو إلى أن تستعيد إسرائيل قدرتها الرادعة، من خلال ضرب حزب الله وسورية ضربة قاضية وسريعة. ومع ذلك، لم يتردد أولمرت، إثر قبول إسرائيل وقف إطلاق النار في 2006/8/14، عن الإعلان في الكنيست، بأن "إنجازات إسرائيل في الحرب أعادت لها قدرتها الرادعة، وبأن حزب الله والدول العربية لا يستطيعون المس بهذه القدرة ("غابي شيفر"، مصدر سابق). وفي الواقع، ما يسمى القوة الرادعة لإسرائيل، ليست سوى أكذوبة شائعة. إذ، ومنذ هزيمة حزيران 1967، لم تمتلك إسرائيل، عمليا، قوة رادعة. حيث اندلعت حرب الاستنزاف وتصاعدت المقاومة الفلسطينية في أواخر الستينيات، بالرغم عن النصر العسكري الإسرائيلي العام 1967. وينسحب هذا الأمر على حرب أكتوبر العام 1973، والعمليات الفدائية التي تلتها، ومن ثم المقاومة الوطنية والإسلامية النوعية في لبنان في الثمانينيات والتسعينيات، وصولا إلى حرب تموز- آب الماضي. بل إن امتلاك إسرائيل للسلاح النووي لم يشكل رادعا للقوى المقاومة لإسرائيل. كما أن اتفاقيات التسوية مع مصر والأردن، لم يكن سببها أساسا القوة الرادعة الإسرائيلية، بل اعتبارات وأهداف ذاتية خاصة بالنظامين في البلدين.
الواقع العسكري الراهن للجيش الإسرائيلي
في كانون الثاني من هذا العام، قال قائد القوات البرية الإسرائيلية السابق "عمانوئيل سيكل"، بأنه يجب إعادة بناء القوات الأخيرة، وقوات الاحتياط، علما بأن الجيش الإسرائيلي، ومنذ العام 1982، توقف عن تطوير قواته البرية وواصل تقليصها لأسباب مالية، وذلك إلى جانب انتشار المفهوم العسكري الخاطئ بأن عصر الحروب التقليدية التي تهدد إسرائيل قد ولى ("تيك دفكا"، 2007/1/20). وتابع سيكل قائلا: "في حرب لبنان انهار هذا المفهوم كليا... حيث دفعت الوحدات المشاركة في الحرب ثمنا غاليا، بسبب عدم خضوعها للتدريب طيلة سنوات طويلة، وبالتالي، لم تعرف تلك القوات ماذا عليها أن تفعل وكيف تتصرف في ساحة المعركة... كما أن قوات الاحتياط في الجيش الإسرائيلي انهارت أثناء الحرب، وبالتالي، يجب إعادة بنائها بسرعة" (المصدر السابق). وانتقد سيكل بشدة المفهوم الحربي الخاطئ والقائل بأن سلاح الجو يستطيع حسم المعركة. كما انتقد الخطط الحربية التي حاولت قيادة الأركان الإسرائيلية تنفيذها في حرب لبنان، واعتبر بأن الجيش الإسرائيلي لم يحقق أية نجاحات في تلك الحرب، ودعا إلى إعادة بنائه بسرعة، ومنحه الأفضلية في الأموال والقوة البشرية التي كان يتمتع بها في الستينيات والسبعينيات، وإلا، حسب سيكل، لن يكون الجيش جاهزا للحرب القادمة (نفس المصدر).
وبالرغم عن تشخيص بعض القيادات العسكرية الإسرائيلية الواضح لحالة الجيش الإسرائيلي، من ناحية ضعف التدريب والترهل الداخلي، وشيوع بعض المفاهيم والإستراتيجيات العسكرية الخاطئة التي تشكل أساس عمل وتحرك الجيش، فلم يتورع إيهود أولمرت وعمير بيرتس وبعض المحللين الإسرائيليين، في أعقاب الحرب، عن التبجح بأن إسرائيل انتصرت، وبأنها قادرة على هزيمة فصائل المقاومة اللبنانية والفلسطينية والدول العربية ("غابي شيفر"، مصدر سابق). وفي الواقع، لا تستند تلك التبجحات المتجذرة في وعي معظم السياسيين والعسكريين الإسرائيليين المشوه، إلى المعطيات والوقائع والتجارب الصلبة على الأرض، بل إنها تستند إلى خرافة القوة المطلقة القادرة على كل شيء. علاوة على أن غالبية الإسرائيليين يؤمنون بحتمية تحقيق الانتصار الإسرائيلي المطلق على اللبنانيين والفلسطينيين، بل والسوريين. لكن، وعلى ضوء التشخيص السابق لحالة الجيش الإسرائيلي، تبدو احتمالات النصر الإسرائيلي، في المستقبل، على المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، بل وعلى سورية، مشكوكًا بها وضعيفة. وما يؤكد ذلك، بعض المؤشرات السلبية المتصلة بالجهوزية القتالية للجيش الإسرائيلي، ويمكننا إيجازها بما يلي:
•أولا: لم يبدأ الجيش الإسرائيلي بعد، عملية تدريب جدية لقوات الاحتياط، استنادا إلى الدروس المستقاة من حرب لبنان، علما بأن معظم الوحدات العسكرية غير جاهزة للحرب. والجانب الوحيد الذي تم تحسينه هو التزود بالعتاد اللازم، أثناء عملية التجنيد في وحدات الاحتياط، فضلا عن عملية الدعم اللوجستي للقوات، أثناء انتشارها في الميدان.
•ثانيا: لا تزال حالة الانفصام بين المراتب القيادية العليا والجنود في الميدان قائمة.
•ثالثا: لم يجد الجيش الإسرائيلي، لغاية الآن، ردا على شبكة الأسلحة المضادة للدبابات، والتي يمتلكها حزب الله وسورية، وإلى حد ما، بعض فصائل المقاومة في غزة.
•رابعا: لم يتمكن الجيش الإسرائيلي، لغاية الآن، من بلورة رد على قصف العمق الإسرائيلي بالصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى.
•خامسا: بعكس ادعاء وزير الدفاع الإسرائيلي عمير بيرتس، لا يوجد حاليا ولن يتوفر في المستقبل القريب سلاح مضاد للصواريخ.
•سادسا: لم تجر، لغاية اليوم، أية استعدادات لوجستية للعناية بالسكان المدنيين في الجبهة الخلفية، وتوفير الحماية لهم، علما بأنه في الحرب القادمة، لن تنهمر الصواريخ على الإسرائيليين في شمال فلسطين فقط، بل أيضا في منطقة الوسط.
•سابعا: بالرغم عن إعلان الجيش الإسرائيلي، في أعقاب حرب لبنان، بأنه سيدخل دبابات "ميركافا 4" إلى المعركة القادمة، كي تقف في طليعة التشكيلات البرية الجديدة، إلا أنه، ولغاية الآن، لم يتم عمل أي شيء فعلي لتنفيذ هذه التصريحات، بل إن مستقبل إنتاج هذه الدبابات غير مضمون، حيث أن 10 آلاف عامل إسرائيلي يعملون في إنتاجها مهددون بالبطالة.
•ثامنا: منذ أن قُصِفَت المدمرة الإسرائيلية "حَنيت"، في الأسبوع الأول من الحرب اللبنانية في تموز 2006، لا يزال الانفصام القيادي والتنفيذي في سلاح البحرية قائما. ويقول ضباط كبار في قيادة الأركان الإسرائيلية، بأن الوضع في سلاح البحرية يعد فضيحة مستمرة قد تكلف إسرائيل ثمنا غاليا. فالمراتب القيادية في سلاح البحرية لم تصح بعد من انتكاسة الحرب، ولم تأخذ زمام القيادة، فتصلح ما يحتاج إلى إصلاح.
إذن، لدى تقديرنا لقوة الآلة العسكرية الإسرائيلية، من الضروري التعامل بموضوعية مع هذه الآلة، بمعنى أن لا نهول نقاط قوتها أو نستصغرها، خاصة وأن جزءا هاما من صورة إسرائيل المسوقة لنا حول "قوتها" يعتمد على المبالغة والترهيب والحرب النفسية، أكثر من اعتماده على الواقع.
فالعيوب والثغرات البنيوية والعملياتية الجدية لا تزال تعطل جهوزية الجيش الإسرائيلي القتالية للحرب القادمة، الأمر الذي سيقوي، بالمقابل، منظور وخطط المقاومة في تعاملها مع العنصر البشري الإسرائيلي، باعتباره الحلقة المركزية في فعلها المقاوم المرتكز على "حرب العصابات وحرب الشوارع"، ما يعني إفشال الفلسفة العسكرية الإسرائيلية القائمة على زرع الرعب في صفوف العرب، وعلى المبادرة بالهجوم "الوقائي" الخاطف ونقل المعركة إلى أرض العدو، وما يعني أيضا حرمان الجيش الإسرائيلي من الاستفادة من تفوقه النوعي في الحرب التقليدية، وبالتالي إرغامه على المواجهة طويلة الأمد.
(حيفا)