المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

على خلاف التوقعات لم يأت خطاب الرئيس الأميركي جورج بوش (11/1)، والمتعلق بتوضيح السياسة التي ستعتمدها الإدارة الأميركية، في العراق والمنطقة، بأي تغيّر نوعي جديد في هذا المجال.

فقد أكد الرئيس بوش في خطابه المذكور على السياسة التي تنتهجها إدارته لجهة مكافحة الجماعات الإرهابية المتطرفة، ولجهة إصرار الولايات المتحدة على استخدام قوتها العسكرية لعدم السماح لها بالانتصار بالعراق، وجعله مركزا لتقويض الاستقرار في عموم المنطقة، مع ما يتطلبه ذلك من تعزيز الوجود العسكري الأميركي في العراق وفي المنطقة. كذلك أكد الرئيس بوش في هذا الخطاب على الاستمرار بدعم الحكومة العراقية، ونقل المسؤولية إليها بشكل متدرج، وتوفير إطارات دولية وإقليمية لتدعيمها سياسيا وماديا، منوّها بدور دول الجوار في تحقيق الاستقرار الأمني والسياسي في العراق. كما ركز بقوة على احتواء النفوذين الإيراني والسوري فيه، بمختلف الوسائل.

هكذا يمكن الاستنتاج بأن هذا الخطاب، الذي شكّل استمرارية للسياسة التي انتهجتها إدارة بوش في الشرق الأوسط، خيّب آمال البعض بشأن إمكان حدوث تغيير ما في الإستراتيجية الأميركية في هذه المنطقة، على خلفية التوصيات المتضمنة في تقرير بيكر ـ هاملتون، وخصوصا تلك التي دعت إلى تخفيض عديد القوات الأميركية في العراق، وجدولة الانسحاب منه، وفتح الحوار مع كل من إيران وسورية بما يتعلق بملفات المنطقة، وبذل مزيد من الجهود لفتح مسارات لحل الصراع العربي ـ الإسرائيلي على مختلف الجبهات.

ولعل مشكلة تلك الآمال، التي تعلّق على تغييرات مفترضة في السياسة الأميركية، أنها غالبا ما تنطلق من رؤية تبسيطية متسرّعة ورغبوية وآنية.

وفي الحقيقة فإن السياسة الأميركية، التي يصوغها البيت الأبيض، محكومة بصفة الثبات في القضايا التي تمس المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية، وهي بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، تتمثل بالجوانب التالية: أولا، الحفاظ على المصالح النفطية، من المنابع إلى الممرات إلى أماكن التكرير والتسويق. ثانيا، الحفاظ على أمن إسرائيل واستقرارها وتفوقها النوعي في المنطقة. ثالثا، الحفاظ على الهيمنة الأميركية في المنطقة، بوجه أية قوة دولية أو إقليمية منافسة. رابعا، دعم الأنظمة الصديقة والمعتدلة. وبعد حدث 11 سبتمبر (2001)، في الولايات المتحدة، أضيف لهذه الثوابت التاريخية المعروفة بندان أساسيان: أولهما، مكافحة الإرهاب والقوى المتطرفة. ثانيا، وضع حد لطموحات إيران تعزيز نفوذها الإقليمي، وخصوصا الحؤول دون تملكها للسلاح النووي.

على ضوء ذلك لم يكن من المفيد انتظار تغيرات جوهرية في السياسة الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط، لأن أي تغير (من وجهة نظر الإدارة الأميركية)، لا سيما لجهة الانسحاب من العراق، في هذه الظروف والمعطيات، يعني تركه للفوضى، وكلقمة سائغة للإرهابيين والمتطرفين، وللنفوذ الإيراني، ويعني التخلي عن أصدقائها وحلفائها في هذه المنطقة، وتركهم يصارعون أقدارهم في مواجهة قوى التطرف الإسلاموي والنفوذ الإيراني؛ ما يعني إقرارا من الولايات المتحدة بهزيمتها في العراق، وتخليها عن مصالحها فيه وفي المنطقة (النفط ـ إسرائيل ـ النفوذ الإقليمي ـ مكافحة الإرهاب ـ الحد من نفوذ إيران)، وهذا ما رفضه بوش في خطابه.

عموما كان ثمة تسرع وتبسيط في التعويل على تغيير جذري في سياسة الولايات المتحدة الأميركية، بدعوى هزيمتها (على ما يرى البعض)، بمجرد تخبطها في العراق، وإخفاقها في مشاريعها التغييرية في عموم المنطقة (نشر الديمقراطية ـ الإصلاح السياسي ـ الشرق أوسطية ـ مكافحة الإرهاب).

وفي الحقيقة فإن عدم انتصار الولايات المتحدة، في ما قدمناه، لا يعني بالضرورة هزيمتها. فقد أحدثت الولايات المتحدة تغيرات كبيرة ونوعية في المنطقة، من أفغانستان إلى العراق، بغض النظر عن رأينا أو تقييمنا لهذه التغيرات والسياسات.

كذلك فإن عدم نجاح الولايات المتحدة لا يعني أنها باتت في أزمة مستعصية (على ما يروّج البعض)، ذلك لأن الولايات المتحدة هذه تستطيع تأزيم غيرها، وتصدير الأزمات لغيرها، كما أنها ما زالت تمتلك الكثير من مقومات القوة ومن عوامل التغيير، التي تستطيع عبرها إحداث المزيد من التغيرات والتحولات في العراق وفي عموم المنطقة. وفوق كل ذلك فإن الولايات المتحدة، وهي بعيدة بآلاف الأميال عن الشرق الأوسط، لا تتأثر كثيرا بتأزم الأحوال عندنا، برغم الخسائر المادية والبشرية التي تتكبّدها.

المعنى فإننا نحن (خصوصا في العراق) الذين نمر بمرحلة من التفسخ والتدهور والتأزم الأمني والسياسي والاجتماعي (لاحظ أيضا الأوضاع في لبنان وفلسطين والصومال والسودان..)، في حين أن الولايات المتحدة الأميركية تتطور وتزدهر وتقوى برغم كل شيء، أي برغم سياساتها الخارجية، وهذا هو الفارق البيّن بيننا وبينهم؛ وهذا ما ينبغي أن ينتبه إليه جيدا صانعو القرارات والمحللون في المنطقة.

بديهي أن السياسة التي انتهجتها الإدارة الأميركية في المنطقة، في السنوات القليلة الماضية، خصوصا المتمثلة في، أولا، استخدام القوة لفرض سياسات الولايات المتحدة؛ ثانيا، تجاهل الصراع العربي ـ الإسرائيلي، دعما لإسرائيل. ثالثا، فرض مشاريع التغيير بدعوى "نشر الديمقراطية" و"الشرق الأوسط الكبير" ومحاربة الإرهاب، أخفقت في تعزيز مكانة الولايات المتحدة في المنطقة، وعززت من واقع عدم الاستقرار السياسي والأمني فيها. أما السياسة الأميركية التي تم انتهاجها في العراق، والمتمثلة خصوصا بتقويض هياكل الدولة، وحل الجيش العراقي، والاتكال على البعد الطائفي، والتعويل على القوة العسكرية، وتغييب الدور العربي، فقد جلبت الكثير من المصاعب والتعقيدات للولايات المتحدة، في العراق، وأضعفت من صدقيتها، على الصعيدين العربي والدولي.

مع كل ذلك حري بنا الاعتراف بأنه ثمة مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الأطراف العربية، وخصوصا العراقية، في كل ما جرى. مثلا، منذ البداية استنكف العرب عن إيجاد حال من الإجماع السياسي فيما بينهم إزاء ما يجري في العراق، واختلفت مواقفهم تجاه المساهمة في رسم مستقبله، تاركين للولايات المتحدة وحدها القيام بهذه المهمة. ولا شك أن غياب الدور العربي الفاعل في العراق هو الذي فتح المجال أمام تعاظم النفوذ الإيراني فيه، وبالتالي في عموم المنطقة. ولا شك أيضا أن هذا الأمر ساهم في تسعير النعرات الطائفية الكامنة في العراق، وحدوث هذه الفوضى الأمنية والسياسية فيه؛ الذي لا تدفع الولايات المتحدة ثمنها، بقدر ما يدفعه شعب العراق، من دموعه ودمه ومعاناته واستقراره ومستقبله، كما تدفعه الأمة العربية.

هكذا فإن المدخل لإحداث تغييرات في السياسة الأميركية في العراق والمنطقة، يتطلب إعادة الاعتبار للإجماعات السياسية العربية، وتفعيل الدور العربي، أولا، بما يخص تحقيق الاستقرار في العراق، وإيجاد وضع يسهم في تخليصه من الاحتلال، ويعزز وحدته الجغرافية والوطنية. وثانيا، بما يخص بذل الضغوط على الولايات المتحدة الأميركية لتحريك ملف تسوية الصراع العربي ـ الإسرائيلي على مختلف الجبهات، باعتبار ذلك مدخلا مهما لتسهيل لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة؛ بغض النظر عن وجاهة الجدل بشأن ربط هذه المسألة بوضع العراق من عدم ذلك. ثالثا، ترشيد العلاقات مع إيران وبعث رسائل واضحة لها بشأن وضع حد لطموحاتها الإقليمية غير المشروعة، والتي تتعارض مع المصالح العربية.

باختصار فإن المطلوب بإلحاح توافق عربي إستراتيجي، على مختلف الملفات السياسية العالقة والساخنة والمعقدة، بعيدا عن الحساسيات والحسابات الآنية الضيقة. وهذا التوافق وحده هو الذي يسمح باستعادة الدور العربي، وتفعيله، لتمكين العرب من تقرير مصيرهم في هذه المنطقة، بدلا من جعلها منطقة يجري التصارع عليها، سواء من قبل الولايات المتحدة أو إيران أو غيرهما، وكأن العرب لا شأن لهم فيها!

_______________________________

* ماجد كيالي- باحث فلسطيني مقيم في دمشق.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات