شكّلت المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية حالة فريدة من نوعها، في مجال العلاقات الدولية، فهذه المفاوضات، مثلاً، تجري بين طرفين لا يعترف أحدهما بالآخر تماماً، بما لذلك الاعتراف من معنى قانوني وسياسي وأمني وتاريخي وأخلاقي. وهي تجري انطلاقا من رؤية مسبقة، لدى كل من طرفيها، بأن وجود الآخر سيكون على حساب وجوده، أو نفياً له.
أيضا فإن هذه المفاوضات تجري من دون أي مرجعية، دولية أو قانونية، أو زمنية، سوى المفاوضات ذاتها، ما يعني أن إسرائيل، من موقعها القوي، والمسيطر، هي التي تتحكّم بمسارات العملية التفاوضية، وقضاياها، وأولوياتها، ونتائجها، وبشكل خاص بمداها الزمني: التفاوضي والتطبيقي.
وفوق ذلك كله فإن إسرائيل، وبغض النظر عن واقعة قيامها، ترفض الاعتراف ولو بمجرد كونها دولة محتلة لأراضي الفلسطينيين في الضفة والقطاع (العام 1967)!
الّلافت أن الإسرائيليين، على رغم الاختلال الهائل في موازين القوى لصالحهم، لم يقتنعوا بصدقية توجه الفلسطينيين (الطرف الضحية الذي يخضع للاحتلال) نحو القبول بحلّ وسط تاريخي يتأسّس على تقسيم أرضهم التاريخية إلى دولتين: إسرائيلية وفلسطينية، والرضوخ بمجرد دولة لهم بالضفة الغربية وقطاع غزة.
وتواظب إسرائيل على التشكيك بنوايا الفلسطينيين، بربط هؤلاء قبولهم بحل الدولتين، باعترافها بالقرار 194، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، والقاضي بالسماح للاجئين بالعودة إلى ديارهم، التي شردوا منها العام 1984، والتعويض على من لا يرغب بالعودة؛ باعتبار هذا الشرط دليلا على عدم صدق نواياهم، وأن قبولهم بالتسوية للتحايل على الضغوط الدولية والإقليمية.
وتعتبر قطاعات واسعة من الإسرائيليين الكيان الفلسطيني الناشئ بمثابة حصان "طروادة"، غرضه تهديد الدولة الإسرائيلية، أما حق العودة للاجئين فتعتبره مجرد محاولة فلسطينية لتقويض الطابع العبري للدولة الإسرائيلية.
عموما فإن إسرائيل تعتقد بأن القبول الفلسطيني بحل الدولتين، هو مجرد مرحلة ونوع من مخاتلة، من قبل الفلسطينيين، على الواقع السائد، للتعويض عن الخلل في موازين القوى والمعطيات الدولية والإقليمية غير المواتية بالنسبة لهم.
طبعا لا يفوت إسرائيل أن تؤكد وجهة نظرها هذه بنمو نزعات التطرف والتشدّد والعنف في الساحة الفلسطينية، على حساب نزعات الاعتدال والمفاوضة، كما تدلّل على ذلك بصعود نفوذ حماس، وبتوجه عديد من الجماعات الفلسطينية نحو انتهاج المقاومة وفق نمط العمليات التفجيرية في المدن الإسرائيلية.
انطلاقا من هذه الخلفيات تعمّدت إسرائيل، منذ توقيعها اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين (1993)، التملص من الاستحقاقات المطلوبة منها، بحيث أن الفلسطينيين لم يسيطروا إلا على حوالي 27 بالمئة من أراضي الضفة الغربية، بصورة مباشرة وغير مباشرة، طوال المرحلة التفاوضية السابقة.
ويمكن تحقيب العملية التفاوضية الفلسطينية ـ الإسرائيلية، في المسارات والتحولات التي مرت فيها، بخمس مراحل:
الأولى، وهي التي أعقبت التوقيع على اتفاق أوسلو، إلى حين سقوط حزب العمل وصعود "الليكود" إلى رئاسة الحكومة (1993 ـ 1996). وهي مرحلة مهدت لقيام السلطة الوطنية، بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من المدن الفلسطينية، كما شهدت إجراء انتخابات المجلس التشريعي (1996). لكن حزب العمل لم يذهب في هذه المرحلة نحو تحقيق انسحابات واسعة وجدية من الضفة الغربية وقطاع غزة، ولم تجر حلحلة لموضوع المعابر. وفي تلك المرحلة ابتدع اسحق رابين، رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، مقولة أن "ليس ثمة مواعيد مقدسة" في التفاوض مع الفلسطينيين، للتملص من استحقاقات الانتشار في المرحلة الانتقالية.
المرحلة الثانية يمكن التأريخ لها مع صعود بنيامين نتنياهو وحزبه الليكود إلى رئاسة الحكومة (1996)، إلى حين سقوطه في الانتخابات (1999). وتبين في تلك المرحلة أن طبيعة النظام السياسي الإسرائيلي تساعد على التملص من الاتفاقات التي تم التوقيع عليها، كما تبين أن الولايات المتحدة الأميركية لا يمكن أن تذهب بعيدا في الضغط على إسرائيل، لإرغام حكومتها على تغيير موقفها، مراعاة لحساسياتها، وأيديولوجيتها، وطريقة عمل نظامها السياسي. وفي هذه المرحلة ابتدع نتنياهو فكرة "التبادلية"، بحيث ضيّع ثلاثة أعوام من عمر عملية التسوية، في الجدل بشأن إمكان الانسحاب من 13.1 بالمئة من أراضي الضفة والقطاع، مع تحويل 3 بالمئة منها إلى محمية طبيعية. وهذه المرحلة شهدت انتفاضة النفق (المسجد الأقصى) واتفاقي الخليل (1997)، وواي ريفر (1998).
ويمكن التأريخ للمرحلة الثالثة من المفاوضات باحتلال باراك (زعيم العمل)، موقع رئاسة الحكومة (1999ـ 2001), حيث استمرت التملصات الإسرائيلية المتعلقة بتنفيذ استحقاقات اتفاق أوسلو الانتقالية، عبر طلب باراك التحول للتفاوض على قضايا الحل النهائي، الأمر الذي تم له بدعم أميركي، في مفاوضات كامب ديفيد 2 (يوليو 2000). وفي الحقيقة فإن باراك حينها لم يكن متحمسا للتسوية، بقدر ما كان يريد تجنّب استحقاقات المرحلة الانتقالية، وتجنيب إسرائيل المسؤولية عن انهيار اتفاق أوسلو، وتحميلها للفلسطينيين. وهكذا عندما باءت مفاوضات كامب ديفيد بالفشل، بسبب المناورات والإملاءات الإسرائيلية، قامت إدارة كلينتون بتحميل المسؤولية عن ذلك للقيادة الفلسطينية، من غير وجه حق. وفي هذه المرحلة اندلعت الانتفاضة، في محاولة من الفلسطينيين للمزاوجة بين الانتفاضة والمفاوضة، كذلك فقد شهدت هذه المرحلة مفاوضات طابا (2001)، وتم فيها إطلاق مقولة عدم وجود شريك للتسوية في الطرف الفلسطيني.
أما المرحلة الرابعة فهي التي شهدت صعود نجم أريئيل شارون واحتلاله موقع رئاسة الحكومة (2001 ـ 2005) ثم تأسيسه حزب كديما، ثم مجيء حكومة (كديما ـ العمل) برئاسة إيهود أولمرت. وقد شهدت غالبية هذه المرحلة (إلى حين رحيل الرئيس ياسر عرفات) انقطاع المسار التفاوضي، بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومعاودة إسرائيل احتلال مناطق السلطة، ومنعها من أي تواجد أو نشاط سياسي في مدينة القدس، إضافة إلى قيام إسرائيل بتقويض مؤسسات السلطة، وتدمير البني التحتية للأراضي الفلسطينية، وتشديد الحصار الاقتصادي والعسكري عليها، من خلال مئات الحواجز العسكرية وبناء الجدار الفاصل. وفي المراحل الأخيرة لهذه الحقبة، وللتملص من خطة "خريطة الطريق"، التي طرحتها إدارة بوش (2003)، اتجهت إسرائيل نحو طرح خطة الانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة، ونفذتها في العام 2005، ولكن على شكل تحويل قطاع غزة إلى سجن كبير.
الآن يبدو أن المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، تمهد لمرحلة خامسة، تتأسس على تداعيات الدعوة الأميركية للاجتماع الدولي، في أنابوليس (في ولاية ميريلاند). ومن الواضح أن هذه الدعوة تأتي على خلفية الأوضاع المتأزمة في الشرق الأوسط، بنتيجة تعثر الترتيبات الأميركية في العراق، وصعود نفوذ إيران في المنطقة، وتنامي مكانة تيارات الإسلام السياسي المتحالف معها (مثل حزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين)، وتراجع هيبة الولايات المتحدة في السيطرة على الأوضاع في الشرق الأوسط.
على ذلك فإن هذه المرحلة من الصراع التفاوضي الفلسطيني ـ الإسرائيلي، باتت مرتبطة بعقدة الصراع على الشرق الأوسط. والمفارقة أن إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة، قبل أربعة عشر عاما، كانتا فضلتا فصل القضية الفلسطينية عن قضايا المنطقة.
بكل الأحوال ليس لدى الطرفين المعنيين، ولا في الأوضاع الإقليمية والدولية المضطربة، ما يرجح بأن هذه المرحلة ستكون خاتمة المطاف في الصراع التفاوضي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، على قضايا التسوية. وقد بينت التجربة أن استعصاء هذه التسوية، هو تعبير عن استعصاء السياسة في المنطقة برمتها، وتعبير عن أزمة التوازن في النظام الدولي السائد، وإلى حين تعديل المعطيات، في هذين المستويين، فإن هذه التسوية ستشهد مزيدًا من الاستعصاءات والإحباطات، ومزيدًا من المسارات والتحولات.
_____________________
* ماجد كيالي- صحافي وباحث فلسطيني مقيم في دمشق.
المصطلحات المستخدمة:
حق العودة, باراك, كديما, الليكود, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو