حين يدور الحديث عن الفساد يستدعي ذلك الحديث عن السلطة بما هي آلية لتحقيق مصالح ومنافع لا يغطيها القانون، ولكن يوفرها الاقتراب من السلطة أي الحلول فيها، أو ممن في السلطة. وهذه أمور عامة في المجتمعات، لا يمكن لمجتمع يقوم على الملكية الخاصة، أن يزعم النأي عنها، وإن كانت تنتشر في مجتمعات بعينها أكثر من غيرها، كما أن شفافية مجتمعات ما، تكشفها سريعاً في حين أن بيروقراطية مجتمعات أخرى، تغطيها لمدى أطول.
الدارج لدى العرب، أن إسرائيل دولة مثالية في كافة الأمور، وهو ما يشجع العرب كثيرا على جلد الذات، حين مقارنة أنفسهم بإسرائيل، دون ضرورة. وفي الجانب الآخر، يحرص الإسرائيليون على الظهور بمظهر المثال وذلك ضمن مشروع التميز استعانة بالحرب النفسية من جهة، ولاكتساب قوة إضافية بلا رصيد من جهة ثانية، أي مصدرها الاقتناع حتى الامتلاء بأن العرب ضعفاء بامتياز. لذا، مثلاً صُدموا حينما اخترق المصريون خط بارليف وصدموا من موجات الهجوم السوري بالمدرعات المكشوفة في الجولان، ومن دور المقاتلين الفلسطينيين الجريء فوق العادة في أعلى المواقع في جبل الشيخ، وأخيراً من حزب الله.
لكن هذا البناء الذي يزعم أنه "إسبارطي" تعرض في الأشهر الأخيرة لمستويات ثلاث من الانكشاف:
•الانكشاف الأخلاقي، سواء في شخص رئيس الدولة أو وزير العدل، وهو الأمر الذي سمح لبوتين بالاستهزاء برئيس الدولة أثناء زيارة أولمرت لروسيا قبل شهرين: "كيف كان له- يقصد كتساف أن يفعل كل هذا؟". وهذا الانكشاف هو في جوهره فساد أخلاقي لمن هم في موقع السلطة ووجوب الظهور كقوة "مثال".
•ثم الانكشاف العسكري، الهزيمة في حرب لبنان، رغم استماتة إسرائيل وأميركا لإنهائها كنهاية حرب أكتوبر 1973، ولكن لم يكن هناك من سبيل، فانتهت على غير ما انتهت إليه الحروب السابقة.
•وأخيراً، وربما ليس آخراً، كان الفساد المألوف في كل الأنظمة، والذي لم يتصور الإسرائيلي العادي أنه سيقع فيه! . صحيح أن الاقتصاديين طالما نسبوا الفساد إلى "الدولة الرخوة" كما وضعها الاقتصادي السويدي جونار ميردال. والدولة الرخوة بالنسبة لميردال ليست غربية أوروبية على الأرجح، بل عالمثالثية، لا يسود فيها حكم القانون، ولا تزعم أنها دولة المجتمع المدني. فهي رخوة أساساً لأن فيها فسادًا يعيش ضمن النظام العام، ويتم احترامه كما لو كان هو النظام العام. وهذا أمر تربأ إسرائيل بنفسها عنه.
لكن هذا ما وجدت حكومة أولمرت نفسها متورطة فيه، بل كان التورط في مكتب أولمرت نفسه حيث وضعت سكرتيرته الخاصة قيد الإقامة الجبرية بتهمة التورط في الغش والفساد وإساءة الإئتمان واستخدام موقعها الحساس في توظيف موظفين كبار في الدولة. كيف لا والسيدة ترافق أولمرت منذ ثلاثين عاماً، كما اعتقل إلى جانبها رئيس سلطة الضرائب جاكي ماتسا. ويتم التحقيق مع 20 مسؤولا في الجهاز الضريبي وأربعة مقاولين بتهم تلقي وتقديم رشىً.
ولكي لا نتصور إسرائيل في وضع متهالك، لا بد من الإشارة إلى أن عيون مراقب الدولة مفتوحة هناك، وهذا ما كشف غطاء برميل الفساد للجمهور. على سبيل المثال، حتى الأمور الصغار جرت مراقبتها. كان رئيس الطاقم في ديوان أولمرت، يورام توربوفيتش، قد تسلم هدية من مفعال هبايس بقيمة 300 شيكل، ولم يسلمها لمخزون الدولة، لكنها سجلت عليه، حتى لو لم يكن يعرف بها كما يزعم هو.
إنما، هل هذا الفساد طارئ، أم ضروري؟
هذا يستدعي الحديث في أمرين:
الأمر الأول: أن إسرائيل لم تعد الدولة التي تمثل المجتمع بأسره، بمعنى أنها في وضع "ثوري" يمنع، ولو أخلاقياً، الانحراف، على الأقل لشعور كل فرد أنها دولته. فمع السنوات، تزايدت الفوارق الطبقية، وتبلورت طبقة متداخلة برأس المال الدولي، وتمكنت هذه الطبقة من تحويل الدولة كأداة لتوسيع حصتها في كل شيء. ولمن رفض رؤية ذلك عليه أن يعود إلى الوراء قرابة ثلاثين عاماً، حينما صعد الليكود إلى الحكم، في حالة أو لحظة شعبوية فريدة. فقد استفاد مناحيم بيغن، ذلك الإرهابي الخبيث، من تورط رابين في الفساد حيث قيد لنفسه حساباً بالعملة الصعبة في الخارج بينما كان رئيساً للوزراء وهو ما أطاح به على أية حال، وطرح نفسه ممثلاً للبرالية الجديدة والاتجاه النقودي في الاقتصاد فعين إيرليخ للمالية وجلب هذا أستاذه ملتون فريدمان ليكون مستشاراً لحكومتين فقط في العالم، تشيلي بينوشيت وحكومة بيغن.
والأمر الثاني: هو شعور هذه الطبقة بأن الدولة (أي موظفيها) في خدمة تلك الطبقة.
والمهم أن بيغن وصل للحكم ممثلاً للنقيضين، فحافظ على شعور المواطن أن الدولة دولته، لكنه شعور زائف:
النقيض الأول: الرأسمالية المعولمة، التي تجد مصالحها على صعيد عالمي وليس فقط داخل إسرائيل، وبالتالي فهي جاهزة للخصخصة، والانفتاح.
والنقيض الثاني، وهو الأكثر فقراً وتخلفاً، اليهود الشرقيون الذين صبوا أصواتهم لصالح الليكود. ولهذا ارتباط عميق على ما يبدو بإسهام غرامشي في قدرة "الدولة- السلطة- الطبقة الحاكمة"، على خداع الطبقات الفقيرة بحيث تتمثل تثقيف الدولة وتستدخله كما لو كان لصالحها وهو على جلدها. إذن كان بيغن أو حزبه مكتشف الكنزين، فاستثمرهما.
لا عجب من حصول الفساد. فأصحاب الأعمال يهتمون جداً بأن يكون لهم تأثير على الحكومة لتسهيل أعمالهم الخاصة، وتسريع معاملاتهم، أو بما يجعل الأبواب إلى أصحاب القرار مفتوحا أمامهم، دون انتظار باعتبار الوقت هو "رأسمال". وهنا علينا التنبه إلى عدم الخلط بين كون السلطة أو الدولة في خدمة رأس المال أو أداة للأغنياء كمجموع، كطبقة، وبين تنافس نفس الرأسماليين فيما بينهم، أي التنافس داخل شرائح وحتى أفراد الطبقة الواحدة.
فمسؤول الجهاز الضريبي أمام خيارين: إما أن تكون له شخصيته القوية التي لا تسمح لرجال السياسة بإخضاعه، وإما أن يحتووه هؤلاء فيصبح في خدمتهم. أي إما خدمة المهمة أو أصحاب النفوذ.
ولكن، متى يمكن أن يحصل أمر كهذا بمستوى أعلى؟
للسياسة الاقتصادية لبلد ما دور في خلق مناخ الفساد ولا سيما في المستوى الضريبي. فقد اعتمدت الحكومة الإسرائيلية في السنوات الأخيرة السياسة الضريبية الجديدة في الولايات المتحدة- "خطة ويسكونسن"- التي تقضي بتقليص نسبة المدفوعات الضريبية وهي تخدم الأغنياء بالتحديد، سياسة تصب في مصلحة الأكثر غنى في المجتمع، بمعنى أن هذه السياسة توفر على أصحاب المداخيل العالية مبالغ ضخمة، في حين أن أصحاب الدخل المحدود لا يوفرون شيئاً يذكر. وبالطبع تبرّر السلطات هذه السياسة بأنها آلية لإنعاش الاقتصاد حيث تتوفر سيولة عالية بأيدي الأغنياء مما يشجعهم على الاستثمار، وهو الأمر الذي ينتهي إلى الازدهار الاقتصادي. لكن هذا التفسير الاقتصادي "الصحيح" يقوم على أرضية طبقية، خدمة الأغنياء واستحلاب الفقراء للحفاظ على النمو، فالنمو هو الأساس، شاء الفقراء أم أبوا! فهل هذا فساد؟ بمعنى ما، نعم، لأن هناك أكثر من آلية لإنعاش الاقتصاد.
وهنا علينا إدخال بعد آخر، هو بعد التشبه بالسيدة الوالدة. "من شابه أباه فما ظلم". فرأس المال في إسرائيل ممعن في تعولمه، ولا سيما على الطراز الأميركي، وتحديداً الجمهوري. فتقليص الضرائب، وحتى إعادة مرتجعات ضريبية للمواطن، هي سياسة اتبعتها حكومة الرئيس الأميركي الحالي منذ فترته الأولى، وكان ملخصها إعادة ملاليم للطبقات الشعبية وإعادة ملايين للشركات الكبرى، بعبارة أخرى، كلما تضخم حجمك، أعدنا إليك أكثر! هذه السياسة التي تبنتها إسرائيل ولا تزال، من طبيعي أن تصل إلى هذه النتائج، ولا يهم بعد ذلك إن أسميناه فساداً أو اجتهاداً.
وطالما أن سياسة الحكومة ممالئة للطبقة العليا مالياً، فلا بد لهؤلاء أن يجدوا طريقهم إلى من يمسكون بالمناصب الحساسة في القطاع الضريبي ويؤثرون عليهم، مما يخلق مصلحة متبادلة بين الفئتين. وحينما تكون الحكومة في سلسلة من الإخفاقات، يكون الجو للفساد أكثر دفئاً.
ولكن، أي نوع هو هذا الفساد في إسرائيل؟ فالفساد متنوع أيضاً، هناك فساد العالم الثالث، "الدول الرخوة" وهو الفساد الاستهلاكي، أو التبذيري والتصديري، أي ضخ الفائض إلى الخارج حيث الأمان والفوائد الأعلى من البنوك التي تستخدم هذا الفائض في قروض عالية الفائدة. وهناك الفساد الاستثماري، أي توظيف الأموال المتحققة في البلد نفسها، مما يحرك الاقتصاد ويزيد النمو كما هو شأن دول النمور الأربعة. ويبدو أن الفساد في إسرائيل هو فساد مركّب، أي من الاثنين. ففي حقبة العولمة، وإسرائيل معولمة منذ اختلاقها، لا يمكن لاقتصادها أن ينعزل عن الشركات المختلطة ولا سيما بعد الخصخصة التي بدأها شمعون بيريس منذ منتصف الثمانينيات، وكانت الولايات المتحدة تلح عليه للإسراع في ذلك. ولأن في إسرائيل قاعدة صناعية متقدمة، فإن فرص الاستثمار المحلي المربح متوفرة للاستثمارين المحلي والأجنبي، لا سيما بعد أن هيمن الاستثمار الأجنبي المباشر Foreign Direct Investment FDI على الحراك المالي العالمي.
على العموم، هناك أكثر من لون من الفساد، وهناك كذلك عيون مفتوحة، عيون مراقب الدولة، ولكن، من يدري أين يتجه التحقيق في كل منها. مثلاً، حتى الآن، الصورة مطمئنة لرئيس الأركان الذي نجح في تحويل التحقيق في هزيمة الجيش إلى مشروع للإصلاح. أي ضمن الرجل عدم طرده من الخدمة، رغم أنه يوم أسر حزب الله للجنديين كان يمارس فساداً صغيراً، كان يتابع أسهمه في البورصة، وإن كان معه في ذلك حق، فهو شخص، يفهم العولمة ويعرف كم هو مربح إتقان لعبة المضاربة، ناهيك عن أن وضع العرب مطمئن لإسرائيل! وقريباً سوف يعلنون نتائج التحقيق في الفساد الأخلاقي، لنرى مصير كتساف ورامون. أما فساد مكتب رئيس الوزراء، فقراءته لا تزال طازجة.
بيت القصيد، ربما يكمن في مجال آخر. فالحكومة الحالية، و"حكومة العسكر"، أي قيادة الجيش، كل يمسك بالآخر بطريقتين:
•الإمساك بتلابيب زميله حنقاً وتناقضاً، مثلا أولمرت وبيرتس، أو بيرتس وحالوتس، أو أولمرت وليفني،
•ولكن الجميع يتخانق على حافة ظهر سفينة بلا "إطار" فكل حريص على عدم إلقاء زميله/ خصمه في البحر لأنه سيجره معه.
هذا الوضع تحديداً هو درجة من الفساد، وهو ما لم تعتد عليه إسبارطة، أو ربما هو هناك ونحن لا ندري.