المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في أواخر شباط 2005 أنهت "لجنة عبري" المسماة رسميًا "لجنة إنشاء الخدمة الوطنية – المدنية" تقريرها، وقدمت توصياتها إلى رئيس الحكومة أريئيل شارون. وعلى الرغم من التستّر على هذا التقرير فقد كشفه رئيس كتلة الجبهة الديمقراطية والعربية للتغيير في الكنيست، النائب محمد بركة.

يقع هذا التقرير الذي جاء تحت عنوان "توصيات مرحلية"، والمقدم إلى رئيس الحكومة، وزير الدفاع ووزير الرفاه في 15 صفحة، وهو يفصّل المبنى المقترح من حيث الهيكل وتدريج الصلاحيات، للسلطة التي ستتولى تنفيذ مشروع "الخدمة المدنية". وبما يتلاءم مع لغة الفصل والتقسيمات القومية والإثنية المعتمدة في إسرائيل الرسمية، فإن هذا التقرير أيضًا يتحدث بمفردات "الأوساط" وليس المواطنين أو المواطنة. وبما أنه تقرير عسكري مكتوب بأقلام العسكريين رغم عنوانه "المدني" فهو لا يتعامل مع القضية بأدنى المفاهيم المدنية. وهذا ما يفسّر لماذا جاء كما جاء، إذ أن العقلية والتصور فرضا النتائج.

ضمت أجزاء التقرير العديد من الشروحات الإدارية عن مركبات الأجسام المقترحة لتولي المشروع، وسأكتفي بالإشارة إلى، واقتباس، أهم النقاط، وتقديم خلفيات موجزة لها متى أمكن. ولكن قبل ذلك يجب الإشارة إلى أن التقرير يتعاطى مع "الخدمة القومية" و"الخدمة المدنية" بنفـَس واحد تقريبًا، على الرغم من فصلهما الشكلي، وهو ما يتجلى في العرض وفي الاستنتاج والتوصية على السواء.

يبدأ التقرير بتحديد المبادئ الأساس للمشروع، وفيها تأكيد لطابعه الرسمي رغم الحديث عن استقلاليته. واللافت للانتباه هنا هو تأكيد معدّيه على اعتمادهم منطلق: "النجاعة والمرونة، من خلال الاستناد الأكبر في الموارد على مصادر غير حكومية". فمنذ البداية "تـُحرّر" الحكومة نفسها من تكاليف ما تنسجه. ويرتبط هذا المبدأ الموجّه مع التوصية الصريحة بأن تخصص الحكومة سنويًا 10 ملايين شيكل لمشروعها كميزانية جزئية، إذ أن العبء الأساس سيقع على كاهل الجمعيات التي ستقام كشريكة في إدارة المشروع، وأيضًا على المؤسسات التي ستستوعب المتطوعين..
وهذا ليس تقديرًا بل إنه جاء صراحة في فصل "الميزانية والإدارة"، حيث يكتب معدو التقرير: "تؤكد اللجنة أن الأجسام التفعيلية ستكون مطالـَبة بالمساهمة في تمويل التكلفة المباشرة لمن يؤدون الخدمة، والمقدرة بـ 20 ألف شيكل سنويا مقابل كل شخص". ومن غير الواضح هنا إن كان المقصود هو أن يتم إلزام المؤسسات التي سيتم التطوع فيها بدفع أجر ما للأشخاص الذين يتطوعون، مما يلقي علامة استفهام كبيرة على معنى هذا التطوع. فهل سيُطالب مستشفى ما بتحمل تكاليف المتطوعين، وما الذي سيدعوه لذلك في ظل الأزمة الخانقة التي يعاني منها قطاع الصحة، بسبب السياسة المدمّرة التي تنتهجها نفس الحكومة التي تقترح هذا التطوّع العجيب!

وبالطبع فإن مثال الصحة ينطبق على كل القطاعات الاجتماعية التي يمكن افتراضها عناوين للتطوع. وممّا يمكن استشفافه، فإن إعفاء الحكومة لنفسها (من خلال ميزانية الدولة) من تغطية كامل تكاليف مشروعها المفترض، هو أمر يقول الكثير.. ليس أقله أن المشروع سيساعد مؤسسات قوية أصلا وهي قائمة في بلدات وبين شرائح قوية اقتصاديا، وهذا ما لا يشمل البلدات والمؤسسات العربية! فأين يخططون للشباب العربي "التطوع"؟!

بالإضافة فإن واحدًا من بين المبادئ الأساس التي وجّهت واضعي التقرير، كما يكتبون، هو "الحفاظ على أفضلية وأولوية الخدمة العسكرية الإلزامية"، وهنا يُثار السؤال حول صحة تلك الوعودات التي قد يسمعها الشبان من "فوائد الخدمة". ويزيد من التشكيك ما ورد صراحة في بند آخر منفصل. وقد جاء فيه: "إن اللجنة تتبنى النظام السائد بشأن حقوق من يخدم في الخدمة القومية والامتيازات التي يستحقها، والموازية للحقوق والامتيازات المعطاة للجنود من الوحدات (العسكرية) غير المقاتلة. وهي (اللجنة) توصي بسريانها على من يخدمون في الخدمة القومية والمدنية من الآن فصاعدًا".

تكتسب هذه النقاط أهمية، لا بل خطورة، في ظل الرسم الذي أُلحق بتقرير التوصيات والذي يقسم مجموعات الخدمة إلى "وطنية" وأخرى "مدنية" بحيث يضع العرب في الثانية. ويمكن الإدعاء هنا أن العرب سيكونون هنا في الدرجة الثانية، وسيصبحون في الدرجة الثالثة إذا أخذنا بالاعتبار أن فوق هاتين الخدمتين (القومية والمدنية) هناك الخدمة العسكرية، التي يدعو التقرير إلى إبقائها ذات "الأفضلية والأولوية" الأولى!

وما سلف يناقض الادعاء الوارد في التقرير، بأن التوصيات من شأنها خلق "التسوية بين مبدأ المساواة والواجبات المدنية المرافقة لها، وبين المشكلة القومية الموضوعية التي تمنع تجنيدهم للجيش". فحتى في حال جرى جرّ شبان وشابات عربًا إلى مشروع الخدمة هذا، سيظلون خُدّامًا من الدرجة الثالثة. وهو ما يناقض مفهوم المساواة بالشكل الذي تفهمه وتطالب به الجماهير العربية. ونشير هنا إلى ذلك الاشتراط المفهوم ضمنًا لحق المساواة بتقديم خدمات، الذي يتعارض مع الديباجة الأساسية لكل مواثيق حقوق الإنسان التي لا تشترط الحق بأية واجبات لدولة، كون حقوق الإنسان (وبينها الحق في المساواة) كونية وأساسية لا يسبقها أي اشتراط. ولكن غني عن القول إن المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة لا تخاطب الجماهير العربية بهذه اللغة، بل بمفاهيمها هي عن المساواة وكأنها سلعة يجب أن يُدفع مقابلها للحصول عليها.. ومن يعلم، ففي دولة يُخَصخَص فيها كل شيء، لماذا تبقى حقوق الإنسان خارج منطق السوق المسماة حرّة؟!

في بند "الوسط العربي" يقول التقرير: "اللجنة توصي بفتح... إطار الخدمة المدنية لأبناء وبنات الوسط العربي... بهدف إيجاد بديل للخدمة العسكرية لهم، و(توصي) بإقامة إطار بديل يسمح للشباب العرب بخدمة الجمهور والمجتمع والدولة معًا".

وحتى نفهم كيف يمكن تقديم هذه الخدمات "معًا"، يجب أن نقرأ ببعض التمعّن.. فالتقرير يعلن أنه يتبنى توصيات "لجنة لبيد" (نسبة الى وزير القضاء السابق يوسيف لبيد) التي شكلتها الحكومة لتنفيذ توصيات "لجنة أور" التي حققت في القتل البوليسي لـ 13 شابا عربيا في أكتوبر 2000. توصيات لبيد شملت بندين مرتبطين كالتالي:

أولاً- تقوم الحكومة بدفع فكرة إنشاء خدمة قومية رسمية مدنية، يقوم بها مواطنو إسرائيل الذين لا يُستدعون إلى الخدمة العسكرية. هذه الخدمة يمكن القيام بها تطوعًا وفي إطار جمهورهم كمرحلة مبكرة".
أما البند الثاني مباشرة بعد "المرحلة المبكرة" المذكورة فيقول بالحرف:

- "الحكومة ستشجّع إمكانيات توسيع دائرة المتطوعين من أبناء الوسط العربي الى الجيش، شرطة إسرائيل وأطر إضافية، وتفحص الطرق لدفع خطوات التطوع هذه".

ومع أن البندين صريحان بشكل "يثير الإعجاب"، فيجب إعادة التأكيد هنا على أن التقرير يقول صراحة انه يرى في "الخدمة المدنية" خطوة أولية أو "مبكرة" كما يصفها، بحيث تسبق الهدف المعلن للحكومة وهو استعمال قاعدة التطوع هذه لفرض الخدمة العسكرية بالإغراء والترغيب، وتجنيد الشباب العرب للشرطة و"أطر إضافية" (ما هي هذه" الأطر"؟!).

هذه النقطة الأخيرة بشأن نوايا الحكومة المعلنة ترتبط بما توصي به اللجنة بوضوح، وهو ما يُشتق من "رسمية" المؤسسة التي يراد لها إدارة هذا المشروع الحكومي. ففي الحديث حول "المجلس الجماهيري" الذي جرت التوصية بإقامته ليكون الجسم صاحب الصلاحية العليا، توصي لجنة عبري بأن يضم المجلس 25 عضوا "يعيّنهم رئيس الدولة، حسب توصية الحكومة"..
بين هؤلاء الأعضاء:

10 شخصيات جماهيرية "تختارها الحكومة".

4 ممثلين للحكم المحلي.

و11 ممثلا للحكومة مباشرة، عن الوزارات المختلفة ومكتب رئيس الحكومة، بمن فيهم "ممثل لوزارة الأمن أو الجيش".

ومن الواضح هنا أن القرارات والسياسات ستكون سلطوية حكومية بحتة. فليس فقط أن هناك 11 ممثلا مباشرًا للحكومة، بل إن قائمة الشخصيات الجماهيرية المذكورة ستضعها الحكومة بنفسها. وكل التركيبة النهائية بمن فيها ممثلو الحكم المحلي ستخرج من طاولة الحكومة. إذن، من الواضح أن العنصر المدني الذي يفترض أن يترك مساحة للمجتمع والجمهور لصياغة أولوياته بعيدا عن اعتبارات السلطة بكل ما تعج به من معايير واعتبارات فوقية وحزبية ومصلحيّة وغيرها، هي مساحة تكاد تكون معدومة. أي أن المشروع الذي يختبئ تحت التعريف "المدني" إنما يواصل تضييق المساحات المدنية ومصادرتها.

ومما يؤكد ما سلف هو ما جاء حرفيًا في مكان آخر في التقرير: "بما أن المبنى الدستوري القائم في دولة إسرائيل لا يتيح إقامة سلطة الخدمة المدنية كسلطة Agency (بالمعنى المتعارف عليه في النظام الأميركي) مستقلة تمامًا، فقد فحصت اللجنة البديل ووجدت أنه من المفضل إلحاق معالجة موضوع الخدمة المدنية بمكتب رئيس الحكومة". ونشير هنا إلى أن ممثل وزارة الرفاه يعارض هذا التوجه ويطالب بإلحاق الخدمة بوزارته. ومن غير المعروف ما هي الاعتبارات التي اعتمدتها اللجنة ضد هذا الموقف. ولكن من الممكن أنها الاعتبارات الأمنية المعهودة. وهي نفس الاعتبارات التي قامت عليها هذه الخدمة "المدنية" التي يجري الاعتراف في التقرير الرسمي بشأنها صراحة أنها ليست سوى الرافعة للمرحلة القادمة التي ستشجّع فيها الحكومة "توسيع دائرة المتطوعين من أبناء الوسط العربي إلى الجيش، شرطة إسرائيل وأطر إضافية". ولا حاجة لأي تعليق على هذا الاقتباس الصريح..

المصطلحات المستخدمة:

رئيس الحكومة, الكنيست, لجنة أور

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات