المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

ما من شك في أن إخلاء وتفكيك المستوطنات اليهودية في قطاع غزة سيسجل في تاريخ الصهيونية الدينية وبالأخص جناحها المركزي الاستيطاني، كانتكاسة شديدة ثانية (خلال عقد واحد) لهذا التيار وما يمثله من فكر أيديولوجي مسيحاني (خلاصي) موغل في التطرف، وذلك بعد انتكاسته الأولى الناجمة عن اتفاقيات أوسلو وملحقاتها ونتائجها، والتي شكلت بكيفية ما إقراراً وتسليماً من جانب إسرائيل الرسمية والتيار المركزي في الحركة الصهيونية برمتها بـ"تقسيم البلاد" ["أرض إسرائيل"/ فلسطين/ التاريخية] إلى كيانين سياسيين سياديين.

من الواضح أن خطة "الانفصال والإخلاء" بصيغتها الشارونية المثيرة للجدل، قد أحدثت منذ البدء نوعاً من الاهتزاز والشرخ في صفوف المعسكر الصهيوني القومي عامة، نظراً لما يعنيه تطبيق الخطة، وبصرف النظر عن أهدافها ومراميها الحقيقية، من انكسار لحلم "أرض إسرائيل الكبرى" وهزيمة ولو جزئية لأيديولوجية هذا المعسكر القومي وفكره السياسي الكولونيالي التوسعي، في المقام الأول.

غير أن أنظار وأقلام معظم المراقبين والمحللين في إسرائيل انصرفت لسبب ما عن مناقشة وتحليل تداعيات وإسقاطات الخطة وتطبيقاتها على المعسكر الصهيوني – القومي العلماني المنزاح إلى اليمين، وذهبت لصب جل اهتمامها وتركيزها على انعكاسات وآثار الخطة ذاتها الآنية، الواقعة، والمستقبلية المتوقعة أو المحتملة، على معسكر الصهيونية- الدينية وجناحها الاستيطاني ذي الأيديولوجية الشمولية – المسيحانية المتعصبة.

وفي اعتقادنا فإن هذا التركيز الذي تجلى في كم هائل من المقالات والتحليلات والتقارير التي غصت بها صفحات الجرائد العبرية اليومية على مدى الأسبوع المنصرم (منذ بدء تنفيذ خطة إخلاء مستوطنات قطاع غزة والمستوطنات الأربع في شمال الضفة الغربية) والتي جاءت في الغالب الأعم بأقلام كتاب ومراسلين صحافيين ومعلقين محسوبين على التيار المركزي العلماني في الحركة الصهيونية، لم يأت من باب الصدفة أو العفوية المحضة، كما وأنه ليس منزهاً أو بريئاً على الإطلاق، بل له غايات ومآرب محددة لها دلالات شديدة الوضوح في رأينا، يمكن أن نوجزها في النقاط التالية:

* إن تركيز الأنظار على انعكاسات خطة "الانفصال والإخلاء" على معسكر الصهيونية – الدينية وجناحها الاستيطاني على وجه التحديد يهدف على الصعيد الداخلي بالدرجة الأولى إلى صرف الأنظار عن حقيقة أن إخلاء وتفكيك جميع مستوطنات قطاع غزة والجلاء الإسرائيلي الكامل المرتقب عن هذه المنطقة يشكل في المقام الأول هزيمة واندحاراً لمشروع الحركة الصهيونية الكولونيالي التوسعي برمته ولو في جزء على الأقل (حتى الآن) من الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967، وبعد ذلك فقط، وليس قبله، انتكاسة لفرع التيار القومي – الديني وعقيدته المسيحانية المتطرفة.

* هذا التركيز، الذي أوحى في تغطياته وترجماته الإعلامية الواسعة، كما لو أن تنفيذ الخطة (الفصل والإخلاء) وتداعياتها لا يعنيان إلا أتباع هذا التيار القومي – الديني وجناحه الاستيطاني، وأن الدولة الإسرائيلية تقف بغالبيتها صفاً واحداً وراء الخطة، يهدف إلى صرف الأنظار عن الأزمات والاحتقانات التي تصاعدت حدتها وخطورتها، جراء الخطة ذاتها، داخل صفوف الطبقة السياسية الحاكمة في إسرائيل وأحزابها الرئيسية ولا سيما حزب الليكود بزعامة رئيس الوزراء أريئيل شارون.

* ينطوي هذا التركيز على محاولة واضحة من جانب التيار المركزي في الحركة الصهيونية والدولة الرسمية برمتها للتنصل من المسؤولية المباشرة عن هذا الفشل الذريع الذي آل إليه المشروع الاستيطاني التوسعي في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 (ولو جزئياً حتى الآن) والذي لا نظن أن أحداً يجهل مسؤولية ودور حكومات إسرائيل المتعاقبة منذ العام 1967، وأولها حكومات حزب "العمل"، في الوقوف وراء إطلاقه ودعمه وتشجيعه بكل الوسائل.

* يحمل (التركيز) في ثناياه رسائل "دعائية" موجهة إلى دول العالم عامة والعربية خاصة، والتي تهدف خطة حكومة شارون – بيريس من ضمن ما ترمي إليه أساساً، إلى قبض ثمن تنفيذ تفكيك المستوطنات والانسحاب من قطاع غزة منها بمد جسور التطبيع والتعاون و"الانفتاح الاقتصادي" رسمياً معها، رسائل مؤداها أن الحكومة والدولة الإسرائيلية تقف قوية ومتراصة الصفوف وجادة في رغبتها بالسلام مع جيرانها الفلسطينيين والعرب وأن أية آثار أو تداعيات سلبية داخلية لتنفيذ الخطة لن تطال سوى فئة أو تيار هامشي متطرف في المجتمع الإسرائيلي.

هذه الغايات والمقاصد الرئيسية التي شف عنها تركيز جل الخطاب الإعلامي المرتبط بتنفيذ خطة "الانفصال والإخلاء"، وجدت كما أسلفنا تجليات وترجمات وفيرة لها في الصحافة العبرية خلال الأيام الأخيرة، وأحياناً في صيغ وأشكال مختلفة ومتباينة في الظاهر، لكنها تصب بمعظمها في ذات المصب، الذاهب إلى التركيز على "الضربة المؤلمة" التي وجهتها الخطة للفكر الصهيوني – الديني الخلاصي مثلما عنون الكاتب الصحافي (العلماني) يهودا ليطاني مقالة له ("يديعوت أحرونوت" 19/8/2005) أو زميله الكاتب "اليساري" يارون لندن في نفس العدد من الصحيفة ذاتها، حيث كتب يقول "الحقيقة أن ما يجري في غزة ليس صراعاً بين العقيدة والأوامر [...] وإنما هو صراع بين عقيدتين ونوعين من الأوامر المشتقة من هذه العقيدة أو تلك".

وذهبت هيئة تحرير صحيفة "هآرتس" في مقالها الافتتاحي (الاثنين 22/8/2005) إلى أبعد من ذلك عندما أنشأت تقول: "إنهم [المقصود حاخامات اليمين الصهيوني – الديني] هم، وليس الدولة، الذين حولوا الصراع على غوش قطيف من خلاف سياسي مشروع إلى حرب ضروس بين الدولة والدين". ورأت هيئة تحرير الصحيفة أن "حاخامات التيار المسيحاني – بتحريضهم غير المثمر لأتباعهم وللجنود على عصيان ومقاومة أوامر الإخلاء – ألحقوا خيبة أمل بجمهور كبير يدعون زعامته". ولخصت الصحيفة مقالها بلهجة تصالحية قائلة: "سير تنفيذ عملية الانفصال لغاية الآن يبقي أساساً ما زال من الممكن أن تبنى عليه حياة مشتركة بين الأغلبية العظمى من الجمهور الديني وبين الأغلبية العلمانية ... [إن] تكشف العبث والكذب في الرؤية المسيحانية المتطرفة يٌلقي على زعماء متدينين آخرين أكثر اعتدالاً واجب إسماع صوتهم بشجاعة وإعادة هذا الجمهور الحيوي (الصهيوني – الديني) إلى أحضان العقلانية الصهيونية".

من ناحية أخرى كان اللافت تجند عدد من رجال الفكر والكتاب المحسوبين على التيار المركزي العلماني في الحركة الصهيونية لمجهود "تعظيم الحزن الجماعي" المتولد لدى قطاع واسع من المجتمع الإسرائيلي في ضوء مشاهد إخلاء المستوطنات اليهودية في قطاع غزة، كما ورد على سبيل المثال في مقالٍ للكاتب "اليساري" المعروف أ.ب يهوشواع ("يديعوت أحرونوت"- 21/8/2005) والذي لخص فيه تأثره ببكاء المستوطنين في عنوان مقاله "عيون أطفال المستوطنين تلاحقني وتقض مضجعي".

ولعل الرأي "النشاز" المميز بين كل ما كتب في هذا الصدد هو ذاك الذي عبّر عنه الكاتب المحسوب على تيار "ما بعد الصهيونية" باروخ كيمرلينغ (باحث معروف في المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني وقضايا الصراع في الشرق الأوسط) في مقالٍ له (في صحيفة "هآرتس" 21/8/2005) والذي اعتبر فيه أن كل عملية إخلاء مستوطنات قطاع غزة وما رافقها من مشاهد حظيت بتغطية إعلامية منقطعة النظير، ما هي إلا مسرحية مفبركة جيداً تهدف إسرائيل من ورائها، وخاصةً مخرجها صاحب خطة الفصل والإخلاء رئيس الوزراء أريئيل شارون، إلى إيصال رسالة إلى العالم قاطبةً مؤداها أن إسرائيل "غير قادرة على الصمود في إخلاءات (انسحابات) أخرى" وتصوير شارون نفسه ودولة إسرائيل كـ"أبطال سلام" يمنحون هدية أحادية الجانب للفلسطينيين وينتظرون قبض الثمن المناسب من الفلسطينيين والعرب والعالم.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات