وسط هدير الملايين الرافضة للحرب التي غزت شوارع عواصم العالم، والحركة الخفية لمندوبي شركات النفط بحثاً عن توقيع عقود نفطية لمرحلة >عراق ما بعد صدام<، وفي خضم الدور القيادي الدولي المتنامي لفرنسا تتضح تفاصيل صورة الحرب القادمة - التي بدأت بالفعل - ، وتترسخ على شاشة الوعي العالمي أهدافها، ولا يوفر مسؤولو الإدارة الأميركية فرصة لأن يمتلك أي شخص شكوكاً حول نواياهم الحقيقية، ولإدراك أن المسألة أبعد من العراق وأكثر من النفط. فللمرة الأولى منذ سقوط حائط برلين وقيام ميخائيل غورباتشوف بالتصفية المجانية للامبراطورية السوفياتية المريضة، يبدو العالم على موعد مع مخاض ولادة نظام عالمي جديد.
يقول خبير عسكري وسط حوار عن الحرب المنتظرة على العراق: الحرب بدأت فعلاً، فعندما تحشد 200 ألف جندي ومئات الطائرات وعشرات حاملات الطائرات والسفن الحربية قرب ساحة المعركة فأنت في واقع الأمر بدأت بالحرب.
ووسط الضجيج الهادر للحشد العسكري، والدوي المزعج لتصريحات <حمائم> الإدارة الأميركية و<صقورها> تبدو المسألة متعلقة بموعد شنّ الحرب أكثر من تعلقها باحتمال وقوعها من عدمه، وتبدو النشاطات الدبلوماسية وكأنها في النهاية محاولة محكومة بسقف لا يتجاوز تأجيل موعد الحرب أكثر من منع وقوعها.
ووسط هدير الملايين الرافضة للحرب التي غزت شوارع عواصم العالم، والحركة الخفية لمندوبي شركات النفط بحثاً عن توقيع عقود نفطية لمرحلة >عراق ما بعد صدام<، وفي خضم الدور القيادي الدولي المتنامي لفرنسا تتضح تفاصيل صورة الحرب القادمة - التي بدأت بالفعل - ، وتترسخ على شاشة الوعي العالمي أهدافها، ولا يوفر مسؤولو الإدارة الأميركية فرصة لأن يمتلك أي شخص شكوكاً حول نواياهم الحقيقية، ولإدراك أن المسألة أبعد من العراق وأكثر من النفط.
فللمرة الأولى منذ سقوط حائط برلين وقيام ميخائيل غورباتشوف بالتصفية المجانية للامبراطورية السوفياتية المريضة، يبدو العالم على موعد مع مخاض ولادة نظام عالمي جديد.
والمعادلة بسيطة، والخيارات محددة: فإما عالم تتفرد بحكمه أميركا بمهووسيها، وإما عالم متعدد الأقطاب يحاول إضفاء لمسة إنسانية (أو أقل وحشية وأقل ظلماً) على وجه العولمة التي باتت تشكل الحقيقة الأبرز في القرن الحادي والعشرين. وأصبحت العراق هي كلمة السر، وهي ساحة المعركة التي ستقدّم لأميركا مفاتيح السيطرة على العالم، أو يجبرها على قبول الشراكة مع أقطاب آخرين.
فجاك شيراك الذي يحارب منذ ستة شهور بشجاعة (تضيف لها لباقة وبلاغة وزير خارجيته دي فيلبان كثيراً) ضد التفرد الأميركي في حكم العالم بعيداً عن الأمم المتحدة. لا يسعى في المقام الأول لحماية مصالح باريس التجارية في العراق (وهي بالمناسبة تقع في المرتبة التاسعة والثلاثين في سلم التجارة الخارجية العراقية)، بل انه يدافع في واقع الأمر عن فرنسا الدولة، وفرنسا القارة الأوروبية، وفرنسا القيم التي يعلن التمسك بها، وعندما يرتفع صوت ألمانيا للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية معترضاً على خطة أميركية، وعندما ينجح حزب المستشار الحاكم في الانتخابات لأنه يرفض الحرب الأميركية فإن الأمر يتجاوز هنا شجاعة >جنونية< لمستشار يساري ووزير خارجية كان ثورياً سابقاً إلى مسألة كيان أوروبي يقود محور باريس - برلين محاولة تطويره ليصبح قطباً في هيكل نظام عالمي جديد.
وعندما تراقب باريس وبرلين المحاولة الأميركية لتأديب دولتين كبيرتين بتحريض دول صغيرة كانت في المدار السوفياتي وأصبحت الآن تسعى باستماتة مهينة لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي والأطلسي، فيحق لهما حينذاك أن تشعرا بالقلق ازاء محاولات واشنطن لإعادة صياغة التوازنات داخل أوروبا (القديمة والجديدة) نفسها لمنع تبلور أوروبا كقوة دولية تمتلك كل المؤهلات للعب دور يحقق التوازن في نظام عالمي جديد. وهو نموذج نلحظ قيام واشنطن بتطبيقه في منطقتنا، ففي مواجهة ما تراه واشنطن تردداً من مصر (الدولة المركز في الوطن العربي) في دعم سياساتها، وما تعتبره احجاماً من السعودية (دولة الأثقال المتعددة) عن نصرتها، فإنها تلجأ لتضخيم دور دول كقطر (دولة قناة الجزيرة) والكويت والبحرين لاعطاء اشارة للقاهرة والرياض بأن هناك بديلاً لهما في استراتيجيات المنطقة في مرحلة ما بعد صدام.
وربما كان دور باريس (مدعوماً ببرلين) في مواجهة الحرب الأميركية هو نافذة الأمل الأولى لمنع حدوث الحرب، لأن هذا الدور يخلق تموجات عديدة تجعل كثيراً من دول العالم تجد الجرأة لإعلان معارضتها للحرب الأميركية، لذلك من المهم مراقبة التحشيد الداعم للموقف الفرنسي كما تمثل في قمة شاركت فيها 25 دولة افريقية قبل أيام في باريس وأعلنت فيها دعماً بلا شروط لموقف جاك شيراك، وسبقتها بشهور قمة الفرانكوفونية في بيروت، وستليها هذا الأسبوع قمة عدم الانحياز في كوالالمبور.
كما أن الموقف الفرنسي، الذي يقترب منه موقف موسكو في أحيان كثيرة وبوتائر مختلفة وأصوات ذات طبقات متنوعة تتداخل فيها هواجس صفقات النفط ومليارات صندوق النقد الدولي وقنابل الشيشان، والذي يدعمه بصوت خفيض الموقف الصيني قادر أن يشكل نقطة ارتكاز تجعل دولاً ككندا والمكسيك (الجيران الأقرب لأميركا) تتحفظان على حرب الجار الأكبر، وأن يشكل مركزاً لكتلة مانعة في مجلس الأمن لمنع مصادرة شرعيته لصالح خطط واشنطن الحربية.
ويوفر هذا الموقف الرسمي المعارض للحرب (والذي يجعل فرنسا في مصاف الدول العظمى الثانية في العالم) بؤرة دعم وسّعت قاعدة المعارضة الشعبية الدولية للحرب كما تجلت في مظاهرات الأسبوع الماضي التي شارك فيها عشرات الملايين في مختلف دول العالم، وهي المظاهرات التي اتسمت بالضخامة في الدول التي ارتضت أن تؤيد بوش دون شروط: بريطانيا (التي يؤمن سياسيوها بأن لا وزن أوروبياً ودولياً لبلادهم دون علاقة وثيقة بواشنطن). واسبانيا (التي يأمل حكامها المحافظون بتحويل دولتهم الى دولة أوروبية من الدرجة الأولى سياسياً عبر العلاقة مع واشنطن) وايطاليا (التي يحكمها بيرلسكوني والذي لا توجد ضرورة لتفسير سياساته) واستراليا (التي أصيب رئيس وزرائها بنوبة الرغبة بلعب دور سياسي دولي دون مناسبة ودون منطق ودون مبرر).
وإذا كانت هناك نافذة أمل أخرى لمنع وقوع هذه الحرب فإنها يجب أن يأتي بالتأكيد من بغداد، وقد أعطت العراق في الشهور الماضية اشارات تعبر عن استعداد ايجابي ومرن لسد الذرائع ونزع فتيل المبررات. ومن الواضح أن هناك قراراً عراقياً استراتيجياً بالتعاون غير المحدود مع المفتشين لحرمان بوش من التسلح بأية ذريعة لشن حرب ما زال الكثيرون - على أية حال - يعتقدون أنها واقعة مهما قدمت بغداد من اشارات حسن النوايا... والسلوك.
أما نافذة الأمل الثالثة فإنها تأتي من تحديات >اليوم التالي< لغزو العراق وهي التي قد تدفع بعض الأصوات الخجولة في واشنطن ـ إن كان هناك وقت ـ للإشارة لمخاطر الاقدام على الغزو.
وقبل أيام كنت أستمع إلى سياسي غربي خبير بدهاليز وأروقة واشنطن السياسية، وكان يقول: مشكلة بوش وادارته انهم لا يعرفون تاريخ العراق، وانهم لا يملكون ما يلزم من معلومات عن حاضر العراق، وليس لديهم خطط عملية وممكنة بالنسبة لمستقبل العراق.
ويواصل مفسراً: ان هناك غيبوبة سياسية في واشنطن، ولا يمكنك أن تتوقع من أشخاص كأفراد هذه الإدارة أن يكونوا على إلمام بعراقة الشعب العراقي وكبريائه وتكوينه النفسي الحاد والقاسي وتركيبته العرقية والطائفية.
ويضيف: وأيضاً فإن المخابرات الأميركية عاجزة منذ سنوات عن توفير معلومات حقيقية عن الأوضاع داخل العراق، فقط راقب كم خبراً كاذباً سرّبوه خلال السنوات الماضية عن النظام العراقي لتدرك افتقارهم للمعلومات الحقيقية، راقب فشلهم على مدى سنوات في اصطناع معارضة عراقية مقنعة على مقاس واشنطن، وراقب أيضاً الاذلال الذي دفع إليه كولن باول عندما أرسل إلى مجلس الأمن ليقدم ما أسماه بأدلة بدت كنكتة سمجة ونبذها بليكس بعد ذلك بأسبوع.
ويواصل قائلاً: أما بالنسبة لمستقبل العراق، فإن أولئك السادة في واشنطن لا يفكرون عملياً إلا في انجاز نصر ساحق وسريع (وهو أمر محتم) معولين على أن يولد هذا النصر تداعيات وآليات تساعدهم على رسم خارطة مستقبل العراق لاحقاً، وباستثناء الحديث عن تأمين حقول النفط لا تقدم واشنطن >بوالص تأمين< لأي كان حول أي موضوع، وإذا كانت تركيا تساوم لرفع سعر مساهمتها في الحرب فإنها مهمومة في حقيقة الأمر لعجزها عن تلقي ضمانات أميركية مقنعة عن منع انبعاث >المارد الكردي< من القمقم العراقي، وهو انبعاث تراه تركيا أمراً شبه مؤكد في حين تهوّن واشنطن من شأنه عبر الحديث عن وحدة أراضي العراق. غير أن السياسي المتمرس يختتم حديثه بأسى قائلاً: أدرك أن كل ما قلته منطقي وعقلاني، ولكننا جميعاً ندرك أننا لا نتعامل مع إدارة عقلانية ومنطقية في واشنطن.
...
وبقدر اتساع هذه النوافذ الثلاث تبتعد سحب الحرب، وبقدر انسدادها يقترب موعدها.
وفي هذا الحراك الجيو ـ سياسي يبدو المشهد العربي في أسوأ حالاته.
تجتمع القمم في كل مكان، أوروبية وافريقية، وعدم انحياز، واسلامية وما زالت الدول العربية تتجادل حول مبدأ عقد القمة وموعدها، وكأن ما هو مطروح يتعلق بدولة في أميركا اللاتينية، وليس بدولة تقع في قلب الوطن العربي، وسيخلق غزوها تفاعلات لا يستطيع أحد أن يكون بمنأى عنها.
أم أن البعض يرى أن نجاته تكمن في الصمت مدركاً أن الجميع مستهدف على قائمة الأهداف الأميركية التي لم يتردد كولن باول (حمامة واشنطن) في اعلانها عندما أكد أن غزو العراق سيعيد تشكيل المنطقة بصورة تخدم أكثر المصالح الأميركية.
أم أن البعض يصلي من أجل معجزة ـ لا توجد إشارات على قدومها ـ لتجاوز الأزمة وبقاء الحال على ما هو عليه، وهو أمر مرفوض أميركياً سواء شنت الحرب أو تأجلت.
أم أن النظام السياسي العربي الذي نجح إلى حد كبير في قذف شارعه (الذي كان يمكن أن يوفر له ورقة مساومة مع واشنطن) إلى حالة من الغيبوبة، بات يدرك أنه يلفظ ـ لأسباب ذاتية أولاً ـ أنفاسه الأخيرة في شكله الراهن.
ثم أين نقف نحن في وسط هذه المسألة المستحيلة!
("الأيام"، 23 شباط)