"..أنتم لستم بحاجة لذلك"، قالت الجسور المهدمة في غزة والاثنا عشر قتيلا ليلة الاحد، "أنتم لستم بحاجة للتصويت لغير شارون. إسألونا نحن"!!
بقلم: علاء حليحل
عندما شاهدت لأول مرة الصور البشعة الدامية، التي وصلت من مجزرة قانا في حينه، لم أفهم أمرين اثنين: الأول، كيف "أخطأت" إسرائيل المتقدمة وصاحبة أفضل سلاح جو في العالم، الهدفَ، وقصفت ملجأً للمدنيين بدلا من ملجأٍ لـ "المخربين"؛ الأمر الثاني الذي لم أفهمه حينها هو الدافع من وراء حملة "عناقيد الغضب" كلها، ومن وراء مثل هذه المجزرة بالتحديد.
الأمر الأول الذي لم أفهمه حينها، أعتقد أنني فهمته فيما بعد: الطيارة التي قصفت موقع المجزرة لم تخطئ الهدف. أعتقد أنهم ببساطة لم يقدّروا هذا الحجم من الخسائر في الأرواح. ما ساعدني على فهم هذا هو مجزرة غزة (ما هو تدريجها في جدول المجازر، يا تُرى؟) التي حدثت بعد إلقاء قنبلة الطُن الشهيرة وسيئة الصيت. عندها عرفت أن الجماعة في مبنى رئيس الحكومة الاسرائيلية يعرفون ماذا يفعلون. المشكلة تكمن في أن العلم والتكنولوجيا لم يتطورا بعد بما يلائم إحتياجات إسرائيل. إسرائيل بحاجة إلى قنابل دقيقة أكثر: قنبلة لعشرة قتلى، قنبلة لعشرين وقنبلة لثلاثين!
الأمر الثاني الذي لم أفهمه حينها هو الدافع من وراء الحملة كما ذكرتُ سابقًا. كنت، وأنا على الكمّ الكبير من سذاجتي عندها (1996)، كنتُ أعتقد أن شمعون بيرس يطلب رضانا، نحن المصوتين العرب، بأي ثمن. أليس بيرس "يساريًا"؟.. عندما رأيتُ الصور على الشاشة لم أصدق أن رجل السلام و "خليفة رابين" يمكن أن يفعل هكذا بالعرب! حينها بلغت خيبة أملي من "يسارية" بيرس ذروتها ووقّعتُ على عريضة شبه يتيمة نُشرت في "الاتحاد" (تلاها إعلان مدفوع الأجر لبيرس نُشر بعد أيام في نفس المكان)، تدعو لعدم التصويت لبيرس. أذكر أن عددنا وقتها وصل في الصناديق إلى عشرة آلاف، أو أكثر قليلا، ثم اتهمنا اليسار الاسرائيلي بأننا السبب في نجاح بنيامين نتنياهو.
المهم من كل هذا، في سياق حديثنا، أنني عرفت أن صورة المرشح في نظر أبناء جلدته، أهم بكثير من صورته عند مصوتيه العرب. بيرس خرج بحملة "عناقيد الغضب"، وباراك بصق في وجه العرب كل ليلة (في الافلام الانتخابية المتلفزة) وهو واقف على جناح طائرة "سابينا" من فوق جثة "المخرب"، ومتسناع قرر أن يبرز تاريخه العسكري في الدعاية الانتخابية، غير خائف من رد فعل المصوتين العرب. هذا يعود في تصوري لعدة أسباب:
1) تصور اليسار الأزلي أن العرب يدعمون بشكل أوتوماتيكي مرشح "العمل". انتخابات 1996 أثبتت صحة المقولة، بعد تصويت العرب لبيرس ونسيانهم للشعار المتآكل "لن نغفر ولن ننسى". لكن إنتخابات 1999 جاءت لتقلب ظهر المجن، حين قاطع أكثر من (80%) من العرب الانتخابات بعد أحداث أكتوبر، ونجح أريئيل شارون في التغلب على أيهود باراك بسهولة. ما أنقذ العرب يومها من أصابع الاتهام اليسارية هو النتيجة الحاسمة والقاصمة: حتى لو صوت (100%) من العرب، وكلهم لصالح باراك، ما كان باراك ليتفوق على شارون. في هذا السياق يرعبني الاكتشاف أننا غفرنا ونسينا حين سقط العرب في لبنان (مجزرة قانا) ولكننا لم نغفر ولم ننسَ حين سقط العرب في الجليل والمثلث (أحداث أكتوبر)!!.. ولكن لهذا باب آخر.
2) اليسار، و"العمل" بالأساس لم يخشوْا يومًا من رد فعل العرب. فحتى سنة 1984 كانت هناك الاحزاب المرافقة لـ "مباي" التي استقطبت أصوات العرب من مناصري "مباي" و"المعراخ". وبعد نشأة الأحزاب الوطنية العربية وتقوّيها لم يختلف الأمر كثيرًا. فحتى لو غضب مصوت أو اثنان من "العرب المتصهينين" وذهب للتصويت لحزب عربي، فإن النائب العربي الذي سينتخبه سيعود للجلوس إلى الطاولة في الكنيست مع "العمل" ويدعم "العمل" وقت اللزوم، رغمًا عنه. من هذا المنطلق تبدو لي الخشية من المصوت العربي غير واردة بالمرة. والواقع يثبت ذلك بجلاء.
3) حتى لو غضب العرب من "العمل" بعد حملة عسكرية أو بعد حملة إنتخابية عسكرية، فإنهم سينسون بعد شهر أو اثنين، وبالتأكيد سينسون في الصناديق.
بعد مجزرة غزة ليلة الاحد 26 الجاري تذكرتُ قانا في الحال. هذه المرة شارون هو الجزار. وهو يهدف لابراز شراسته وعدم مهادنته لـ "العربوشيم" من غزة. لكن رغبة شارون في بناء صورة القائد الصارم الذي يشن الحرب على الأشرار، تختلف عن رغبة بيرس. تختلف في أمر جوهري واحد: أن شارون فعلها ليذكّر فقط، بينما فعلها بيرس لكي تكون أول هجمة في حياته، لكي يلبس المعطف العسكري وينزل ليتبختر في سهول لبنان. شارون تبختر قبله كثيرًا في سهول لبنان، وهو يتبختر في المدن الفلسطينية منذ سنتين ونصف السنة. ليس عليه إلا أن يذكّر بذلك. من هنا لن يكون لهذه المجزرة أي رد فعل جدير بالكتابة. اليمين يفرك يديه برضىً، واليسار يفكّر في كيفية صياغة بيان للصحافة، لا يثير غضب المترددين نحو اليسار ولا المترددين نحو اليمين. والعرب في كل الأحوال، إحتجاجهم غير وارد في الحسبان...
حين يصيح شعب إسرائيل من أقصاه إلى أقصاه: "أدخلوا فيهم وقطعوهم"، فإن ما يتبقى على شارون أن يفعله هو "الدخول بهم وتقطيعهم". المشكلة لدى شارون هي أن الذاكرة الجمعيّة في إسرائيل قصيرة جدًا. هناك دائمًا حاجة لتذكير "شعب الله المختار" بمدى قسوة شارون وصرامته. وبالأخص، قبل يومين من الانتخابات. لئلا يقول المترددون "إننا لم نعرف". ولئلا يصوت المترددون لكلاينر وليبرمان ومارزل.
"أنتم لستم بحاجة لذلك"، قالت الجسور المهدمة في غزة والاثنا عشر قتيلا ليلة الاحد، "أنتم لستم بحاجة للتصويت لغير شارون. إسألونا نحن"!!
(حيفا)